Take a fresh look at your lifestyle.

عاشوراء الفاجعة والنهضة

0 600

         إن نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) التغييرية لا ترقى في القياسات المادية إلى مصاف الحركات المعروفة في التاريخ من حيث العدة والعدد حسب ما هو متعارف عليه في القياسات العسكرية للحركات والثورات على مر العصور، وبالتالي فهي لا تستطيع أن تحقق أهدافًا مادية مرئية.

        أما في الواقع الذي حدث وبالنتائج المستحصلة من هذه النهضة من استرجاع لكرامة الأمة وكشف الزيف والخداع عن طريق العطاء البالغ والسخاء أللامحدود الذي بذله الإمام الحسين(عليه السلام) إذ وجد في دمه ودماء أهل بيته وأصحابه المحفز الوحيد في خلق هزة الضمير وصحوته من الحالات التخديرية التي مورست من قبل السلطة الأموية لإماتة القيم وروح التطلع وانسلاخ الضمائر.

        إن أساس الصراع بين الإمام الحسين (عليه السلام) ويزيد بن معاوية هو صراع بين منهجين متباينين بين الحق والباطل، بين طاغية فاسد فاسق قد أرهب وأفسد الأمة وبين سبط النبي(صلى الله عليه وآله) الذي يطمح لاسترجاع قيم الأمة وحقوقها وفق ما تعارفت عليه مبادئ الإسلام التي غيبها الفساد في الحكم عبر سلبه من صاحبه الشرعي والاستئثار به من أناس عادوا بالدين ونهجه إلى عصور الظلام والجاهلية.

         والحسين(عليه السلام) في نهضته لم يطلب سلطاناً ولا مالاً ولا جاهاً فهو أبعد ما يكون عن طلب هذه الأمور السطحية التي يطلبها من الخارج وهو الذي يحتويها أصلاً فهو حفيد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وابن علي وفاطمة(عليهما السلام) فأي مجد أعلى من هذا المجد وأي شرف أرفع منه يبتغيه من عتل زنيم إلا أنه قد وجد (إِنَّ الدُّنْيا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَتَنَكَّرَتْ وَأَدْبَرَ مَعْرُوفُها، وَلَمْ يَبْقَ مِنْها إِلاّ صُبابَةٌ كَصُبابَةِ الإِْناءِ، وَخَسيسِ عَيْش كَالْمَرْعَى الْوَبيلِ)(1)، 

        هكذا يرى الإمام الحسين(عليه السلام) ما آلت إليه الدنيا في عصر الظالم وابن الظالم وهو يعاتب الذين طلبوا منه التريث في الخروج أو عدم الخروج لوجود (مخاطر) عليه، وخوف من غضب يزيد إن خرج عليه فيقول(عليه السلام): (أَلا تَرَوْنَ أَنَّ الْحَقَّ لا يُعْمَلُ بِهِ، وَأَنَّ الْباطِلَ لا يُتَناهى عَنْهُ، لِيَرْغَبَ الْمؤْمِنُ في لِقاءِ اللهِ مُحِقّاً، فَإِنّي لا أَرىَ الْمَوْتَ إِلاّ سعادة، وَلاَ الْحَياةَ مَعَ الظّالِمينَ إِلاّ بَرَماً)(2). 

           فأي فرق شاسع بين ما يرونه وبين ما يراه… هم ينظرون إلى سلامته وأمنه وأمانه من الطاغية وهو(عليه السلام) يرى أن الأجدر النظر إلى سلامة الدين وأمانه من أيدي المنحرفين المحرفين للقيم الإسلامية التي جاء بها جده الرسول الأعظم محمد(صلى الله عليه وآله).

     مملكة الخوف:

 

           هكذا يريدها كل حاكم ظالم يطيح بالرؤوس كي تبقى التيجان مملكة للمُلك العقيم، وهكذا أسس لها معاوية وخلفها لابنه يزيد، نهج أخذوه ممن سبقهم، ووهبوه وتركوه لمن خلفهم، نهج تكمم فيه الأفواه، تكبل فيه الأيادي، يذبح فيه كل ذي صوت حر يرفض الجور والعبودية والخنوع. مملكة للسيوف فقط أن تتحدث وللهامات فقط أن تطأطئ وللفسقة الفسدة فقط أن تحكم وتتحكم في مصائر البلاد والعباد.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): واللهِ إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّه مِنْ نَفْسِه يَعْرُقُ لَحْمَه، ويَهْشِمُ عَظْمَه، ويَفْرِي جِلْدَه لَعَظِيمٌ عَجْزُه ضَعِيفٌ مَا ضُمَّتْ عَلَيْه جَوَانِحُ صَدْرِه، أَنْتَ فَكُنْ ذَاكَ إِنْ شِئْتَ، فَأَمَّا أَنَا فَوَاللهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ تَطِيرُ مِنْه فَرَاشُ الْهَامِ وتَطِيحُ السَّوَاعِدُ والأَقْدَامُ . ويَفْعَلُ اللهُ بَعْدَ ذَلِكَ ما يَشاءُ)(3).

           انظر إلى مدرسة الإمام علي(عليه السلام) كيف تجلت في فكر وسيرة سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) كتجلي الشمس في رابعة النهار، قالها ثم ثبت عليها (هيهات… ثم هيهات). لقد رفض الإمام الحسين(عليه السلام) الاعتراف بهذه المملكة القائمة على الظلم واستلاب الحقوق والحريات والتحكم برقاب الأمة دون مراعاة لقدسية صاحب الرسالة محمد(صلى الله عليه وآله) أو مداراة لمن حمل هموم الأمة منذ البدء ونهض بأعبائها الثقيلة وأرسى دعائمها الثابتة وأعلى أركانها السامقة، ذاك هو الإمام علي(عليه السلام) الذي كان لابن عمه حامياً وحارساً وهو صغير ومدافعاً ومجاهداً عن الدين وهو كبير. لم يترك سيفاً في غمد ولم يغمض جفناً على عين، حتى تحقق للأمة نصرها الكبير وخيرها الوفير مسنوداً بأخيه الرسول(صلى الله عليه وآله)

     ومؤيداً بالعلي القدير. حتى كمل الدين بولايته ورضي الله للناس بدينه بعد إمارته (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)(المائدة : 3). ويقف مرة أخرى الإيمان والحق كله بوجه الكفر والشرك كله. ويخرج من رحم الأمة المتهالكة الخاملة وليداً شديداً. ليس موجوداً في قاموسه المعنى الموجود للموت كما هو مدون في جميع قواميس الدنيا بل هناك كلمة أخرى حلت محلها تلك هي (السعادة) وذلك بإدراك الشهادة.

          فانبرى لها سيد الشهداء(عليه السلام) بقامة لا تعلو عليها كل القامات وإن اجتمعت وبعزم وبأس راسخ وصبر لا مثيل له منذ بدء الدنيا حتى آخر يوم فيها. قامة تعلو بالصوت المرعب المدوي لكل الظلمة: جئناك كربلاء… هيهات منا الذلة، أو السلة ولا الذلة.

          وكان القرار السديد، الثابت على يقين شديد ونهج أكيد، إن المسير واجب بالأهل والأحباب والصحابة النجباء لمقارعة ومنازلة الفاسق والفاجر والفاسد يزيد. ومرة أخرى يدور الزمن دورته وتكاد الأدوار تتشابه والصور تتطابق.

          انطلق أبو الشهداء(عليه السلام) بعد التوكل على الله نحو العزة والفخار من أجل تصحيح المسار المنحرف بعد أن وصل الانحراف أن يجعل يزيد (أميراً للمؤمنين) له بركة من خمر، وأن تلعب القيان والراقصات بين يديه، حال أصبح السكوت عليه هو الخزي والعار بعينه.

           وما أكثر الساكتين الخانعين الخاضعين الخائفين على لذائذ دنياهم بعد أن مشوا في ركب المصالح الدنيوية أو ربما الخوف من غضبة الحاكم. لذلك فضلوا اللوذ بالجبل، وياله من جبل للعار والشنار دفعوا من أجله الكثير من كرامتهم ورجولتهم من أجل أن يملؤوا بطونهم وجيوبهم بالسحت الحرام وأن يدعوا الخلق للخالق باستكانة وذل وأن ينتظروا لعل الله ينزل على عدوهم صاعقة من السماء!! وهيهات ذلك، فالحق المسلوب لابد أن يسترجع بالسيف من ظالم فاسد مثل يزيد.

           وحتى حينما يعجز السيف لحسابات عسكرية عددية وتعبوية كما في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) في موارد وأسباب يعجز المقال في ضيق ذكره: فإن مثل هذا الظرف قد حول الإمام الحسين(عليه السلام) مساره إلى نصر عبر إدخال معادلة الدم بدل السيف وهو البديل الذي أدى فيما بعد إلى استرجاع الحقوق والإطاحة بالظلمة.

      المعادلة الصعبة:

 

           لم يكن ـ حتى قيام الإمام الحسين(عليه السلام) بنهضته المباركة ـ معروفاً بأن الانتصار الكبير ممكن أن يحدث لصاحبه بعد أن يقتل هو وجيشه (أصحابه) ثم تسبى نساؤه وعائلته من بعده. ولكن ذلك حدث فعلاً!. إذ أن الإمام الحسين(عليه السلام) بعد أن استشهد ورفع رأسه مع الآل والأصحاب على الرماح وسارت جحافل (المنتصرين) بالرؤوس والسبايا من النساء والأطفال نحو الكوفة ثم الشام أدرك هؤلاء المنحرفون القتلة سر هذا الدم وأنه ليس كغيره من الدماء.

           لقد أصبح هذا الدم وعلى طول الطريق في المسير نحو الطاغية مشعلاً من النار والنور وصوتاً صارخاً مدوياً ابتدأ في حينه ولم يتوقف لحد الآن: أن أفيقوا أيها النيام أيها التائهون أيها الضالون أيها المخدوعون… أفيقوا من هذا السبات الطويل واعرفوا عدوكم وعدو دينكم وعدو نبيكم، هذا الامتداد الأموي المخزي لخط أبيه وجده وأسرته التي ما آمنت بهذا الدين ولا أحبت نبي هذا الدين يوماً… بل إنها ما صدقت هذا الدين ونبيه واعتبروه خدعة هاشمية جاءت من أجل الحكم ليس إلا ومصداقيته قول يزيد:

          (لعبت هاشم بالملك فلا          خبر جاء ولا وحي نزل)(4).

 

     انهيار مملكة الخوف:

 

          إن إمارة الخوف التي أسسها المنحرفون المنقلبون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذين سلبوا الخلافة بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) وقوّى أسسها معاوية وابنه يزيد، قد زعزع أركانها وهز أسسها الإمام الحسين(عليه السلام) بنهضته العظيمة وإن دماءه الطاهرة قد أفشلت هذا المشروع وعاد بالأمة إلى الأمل في الإصلاح من خلال ما تلا ذلك من ثورات وانتفاضات حملت معالم وروح ومبادئ النهضة الحسينية المباركة.

     لقد رفض الإمام الحسين(عليه السلام) الواقع المتردي للأمة الإسلامية من خلال إطلاقه مشروعه الإصلاحي الكبير، ولسان حاله يقول:

 

           إن كان دين محمد لم يستقم         إلا بقتلي يا سيوف خذيني

 

     حيث قدم على مذبح الشهادة الطاهر الصفوة من أهله وصحبه قرابين على طريق الحرية والحق لتقويض أسس الشر والخراب والهزيمة والباطل ثم قدم ووهب دمه الطاهر الزكي بضمير ملؤه اليقين بأن هذا الدين (دين جده وأبيه) يستحق كل تلك التضحية الغالية من أجل أن تعود الأمة الإسلامية إلى سابق عهدها في زمن الرسالة ولكن هذه العودة ستكون محمية بالدم الزكي وشذاه الأبدي القادم من أرض البطولة والفداء أرض الطف (كربلاء) كي يبقى دين الله (محمدي الوجود حسيني البقاء)>

نشرت في العدد 66


(1) تحف العقول /ابن شعبة الحراني ص 245.
(2) نفس المصدر.
(3) نهج البلاغة/ج1 ص83.
(4) روضة الواعظين /الفتال النيسابوري ص191.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.