تولى الإمام الهادي (عليه السلام) مسؤولية الإمامة بعد وفاة أبيه الإمام الجواد أبي جعفر الثاني (عليه السلام) في آخر ذي القعدة من سنة 220هـ، وكانت مدة إمامته الشريفة 34 سنة؛ قضى منها آخر سنين عمره الشريف والبالغة (11سنة) في سامراء، ولبى نداء ربه في يوم الاثنين 3 رجب سنة 254هـ(1)،
ثم استلم الإمامة من بعده ولده الإمام العسكري (عليه السلام) حتى وفاته في الثامن من ربيع الأول في سنة 260 هـ(2) وقد قضى كل مدة إمامته (عليه السلام) في سامراء.
وقد فرضت الظروف السياسية والتطورات الفكرية على الساحة الإسلامية أن يعتمد الإمام الهادي (عليه السلام) على الوكلاء بشكل أكبر في إدارة أمور شيعته وتربيتهم أخلاقياً، وتحصينهم عقديًّا من التيارات المنحرفة التي باتت تهدد المنظومة الشيعية بجملة من العقائد المنحرفة كالوقف والغلو والتفويض، فضلاً عن الانحراف العام الذي كانت تعيشه الأمة الإسلامية خصوصًا مع وصول المتوكل العباسي وعلاقته المشبوهة مع التيارات السلفية (الحنبلية) لتأسيس مذهب جديد يتجاوز المذهب المعتزلي وحتى الكلاسيكية الأشعرية التي سيطرت على الساحة الفكرية لمدرسة الجمهور أحقابًا من الزمان.
وبالجملة، يمكن حصر الأسباب التي أدت إلى توسيع الإمام الهادي (عليه السلام) لمنظومة الوكلاء بالأمور الآتية:
أولاً: اتساع الوجود الشيعي
لم تعد الجغرافية الشيعية بعد عصر الإمام الصادق (عليه السلام) منحصرة بمدينة الكوفة وما حولها، فقد ساهمت جهود الأئمة (عليهم السلام)بإيصال المد الشيعي إلى مناطق شاسعة من البلاد الإسلامية، فاستقر قسم كبير منهم في خراسان ونيسابور وقم وما يحيط بها من مدن كالري وهمذان وصولًا إلى بغداد وما حولها من مدن وقصبات، وسامراء وامتداداتها الجغرافية، إضافة إلى تنامي الأقليات الشيعية في البصرة والمدينة المنورة وبعض بلاد الشام وبلاد المغرب العربي.
وقد شهدت هذه الحقبة انتقال المركز الروحي للتشيع من الكوفة إلى مدينة قم، على يد ثلة من الرواة والمحدثين أبرزهم المحدث الجليل إبراهيم بن هاشم الكوفي القمي والد علي بن إبراهيم القمي صاحب التفسير(3)، فأصبحت قم ونيسابور والري حواضر مهمة يسجل فيها الخط الشيعي حضورًا فاعلًا على جميع المستويات.
إزاء هذه التطورات، كانت منهجية اعتماد الوكلاء واحدة من طرق الإدارة التي تتيح للإمام الهادي (عليه السلام) ربط القصبات الشيعية المترامية الأطراف، وتسهيل إنفاذ الأوامر والتوجيهات، ونقل الحقوق الشرعية إلى الإمام (عليه السلام)بطريقة تتجاوز عيون السلطة وجواسيسها المحيطة بتحركات الإمام وشيعته، ولهذا نجد أن الخارطة الجغرافية للوكلاء تتسع لتشمل كل الحواضر المحتضنة للوجود الشيعي؛
فأيوب بن نوح الكوفي كان وكيلًا في الكوفة وما حولها، وسليمان بن الجهم الزراري كان وكيلًا متنقلًا بين الكوفة وبغداد، وإبراهيم بن محمد الهمذاني استلم الوكالة في مدينته (همذان)، وعلي بن جعفر الصيقل في مدينة (هيمنيا) القريبة من واسط اليوم، وعثمان بن سعيد العَمري في بغداد، والحسن بن راشد في بغداد أيضًا والقصبات المجاورة لها، وعلي بن الريان في قم، وعبد العظيم الحسني جعله الإمام مرجعًا حديثيًا في الري، وعلي بن مهزيار كان وكيلًا في الأهواز، وعلي بن عمرو القزويني في قزوين.
ثانيًا: الوضع السياسي العام
عاصر الإمام الهادي (عليه السلام) ستة من خلفاء بني العباس، تعاقبوا على حكم البلاد الإسلامية متخذين من سُرّ من رأى عاصمة للخلافة منذ أكمل المعتصم بناءها سنة 221 هـ، أي بعد سنة واحدة من تسلم الإمام الهادي (عليه السلام) مسؤولية الإمامة، وحتى استشهاده سنة 254 هـ، وهؤلاء الخلفاء هم:
1ـ المعتصم: تسلم الخلافة في 14 رجب 118 هـ، وهو الذي قتل الإمام الجواد سلام الله عليه، اغتاله بالسم سنة 220 هـ، وكان المعتصم من أجهل خلفاء بني العباس وأكثرهم نفورًا من العلم ومجالس الأدب على عكس أخيه المأمون، وهو الذي نقل الخلافة من بغداد إلى سامراء سنة 221 هـ وجعلها قاعدة للعساكر والجنود فسميت بالعسكر، وقد سلط الأتراك على رقاب المسلمين، فصارت الدولة الإسلامية تدار بعقلية الأتراك وسياساتهم الهوجاء، هلك المعتصم سنة 227 هـ(4).
2ـ الواثق: تسلم الخلافة في 19 ربيع الأول 227 هـ، وكان من أكثر الخلفاء شغفًا بالغناء والغلمان، ويقال إن له سيرة حسنة مع العلويين، وقد سار على نهج عمه المأمون وأبيه المعتصم في القول بخلق القرآن وإجبار الناس على تبني هذه النظرية تحت وطأة السياط ومطامير السجون، توفي في سُرّ من رأى سنة 232 هـ(5).
3ـ المتوكل: شاءت مقادير الله تعالى أن تكون خلافة المتوكل هي الأطول من الناحية الزمنية، وهي الأقسى على الحالة الشيعية، فبلغت 15عامًا (من232-247هـ) قاسى خلالها المسلمون – لا سيما الشيعة – صنوفًا من البلاء، وألوانًا من العذاب، وغرقت البلاد في وحل الجهل، ونظريات التضليل؛ بعد أن تسيّد الحنابلة المجسِّمون الساحة الإسلامية ووفرت لهم دولة المتوكل الحماية السياسية والدعم المالي والإعلامي وسمتهم (أهل السنة)(6)؛ فانتعشت سوقهم، وكثر الهمج الرعاع حولهم، مع انكفاء المعتزلة وبعض الأشاعرة الكلاسيكيين عن المشهد السياسي والفكري.
عُرف المتوكل بأنه من أشد الخلفاء نصبًا وعِداءً لأهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم، وهو الذي أنهى ما عرف بمحنة القرآن، وأخرج الحنابلة وأتباعهم من السجون، واهتم بإعادة إحياء مدرسة الحديث (السلفية) بكل ما تختزله من أدبيات النواصب، والفكر الإسرائيلي، وفقه السلطة.
ولم تمض أربع سنوات من حكمه حتى قام المتوكل بجريمته بحق قبر سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، فهدم القبر الشريف وكل ما حوله من البناء سنة 236 هـ، وحرث المزارع والأراضي المحيطة به(7)، وشدد الرقابة على حركة الزائرين متوعدًا كل من يصل إليه بالأحكام العرفية القاسية، ومن مظاهر نصبه وعداوته أنه كان يتخذ من يوم عاشوراء يومًا لتدشين قصوره، والانتقال إلى مدنه التي أنفق عليها الملايين من أموال المسلمين وحقوق الفقراء، وكان يجعله يوم احتفال وغناء، ينشر فيه الزينة ويعطي فيه العطايا والهبات(8).
قام المتوكل باستدعاء الإمام الهادي (عليه السلام) من المدينة المنورة إلى سامراء بحدود سنة 234 هـ، فجعله تحت الإقامة الجبرية وقام باعتقاله في السجن وحاول اغتياله غير مرة إلّا أنه لم يفلح، هلك المتوكل في ليلة حمراء انقلبت عليه سوداء في شوال 247 هـ، بعد اتفاق ابنه المنتصر وبعض الأتراك على تصفيته وإراحة البلاد من شره.
4ـ المنتصر: لم يدم حكمه طويلًا، تولى الخلافة في شوال 247 هـ، وتوفي مسمومًا بمؤامرة من الأتراك في ربيع الثاني 248 هـ، وكان محسنًا للعلويين، وقد وجد الشيعة في مدة حكمه القصيرة متنفسًا عن ظلم أبيه إلّا أن ذلك لم يدم إلّا 13 شهرًا(9).
5ـ المستعين: تولى الحكم في شوال 248 هـ فحبس أخاه المعتز، ولم يلبث أن كبت به سوء سيرته فثار عليه أخوه مع الأتراك فاضطر إلى خلع نفسه في محرم 252 هـ..
6ـ المعتز: وهو الطاغية الذي أقدم على قتل الإمام الهادي (عليه السلام) سنة 254 هـ (10)، واستمرت خلافته حتى عام 255 هـ حين قام الأتراك بخلعه ونصبوا المهتدي بدلًا عنه(11). في ظل هذه الأجواء السياسية، كان لابد للإمام الهادي (عليه السلام) من أن يعمل بحذر وحكمة، دافعًا الشر والسوء عن نفسه وعن شيعته من السلطة وعمالها الذين كانوا يتربصون بهم الدوائر، ويتحينون كل فرصة لتحجيم الوجود الشيعي وتصفية رموزه وشخصياته البارزة،
وكان من حنكة الإمام (عليه السلام) أن اعتمد بعض الشخصيات الشيعية المقربة من السلطة ممن لا مطعن في عقيدتهم وحسن نيتهم، ومن المعروفين بولائهم الشديد لأهل البيت (عليهم السلام)، فصاروا محط ثقة الإمام، وموضع اعتماده في جمع الحقوق، وربما لدفع الظلم والحيف عن بعض الشيعة بحكم قدرتهم على حرية التحرك التي وفرها لهم قربهم من السلطة ورجالاتها، ومن هؤلاء محمد بن الفرج الرخجي الذي كان شديد الولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، وقد شهدت كتب السيرة بإخلاصه وأمانته، حتى إنه كان من الذين لعبوا دورًا مهمًا في تعريف الشيعة بإمامة الإمام الهادي (عليه السلام) بعد وفاة أبي جعفر الثاني(عليه السلام)(12).