Take a fresh look at your lifestyle.

نظام الوكالة في عهد الإمام الهادي (عليه السلام) قراءة في الظروف الموضوعية ومنهجية الإدارة

0 1٬846

            تولى الإمام الهادي (عليه السلام) مسؤولية الإمامة بعد وفاة أبيه الإمام الجواد أبي جعفر الثاني (عليه السلام) في آخر ذي القعدة من سنة 220هـ، وكانت مدة إمامته الشريفة 34 سنة؛ قضى منها آخر سنين عمره الشريف والبالغة (11سنة) في سامراء، ولبى نداء ربه في يوم الاثنين 3 رجب سنة 254هـ(1)،

          ثم استلم الإمامة من بعده ولده الإمام العسكري (عليه السلام) حتى وفاته في الثامن من ربيع الأول في سنة 260 هـ(2) وقد قضى كل مدة إمامته (عليه السلام) في سامراء.

         وقد فرضت الظروف السياسية والتطورات الفكرية على الساحة الإسلامية أن يعتمد الإمام الهادي (عليه السلام) على الوكلاء بشكل أكبر في إدارة أمور شيعته وتربيتهم أخلاقياً، وتحصينهم عقديًّا من التيارات المنحرفة التي باتت تهدد المنظومة الشيعية بجملة من العقائد المنحرفة كالوقف والغلو والتفويض، فضلاً عن الانحراف العام الذي كانت تعيشه الأمة الإسلامية خصوصًا مع وصول المتوكل العباسي وعلاقته المشبوهة مع التيارات السلفية (الحنبلية) لتأسيس مذهب جديد يتجاوز المذهب المعتزلي وحتى الكلاسيكية الأشعرية التي سيطرت على الساحة الفكرية لمدرسة الجمهور أحقابًا من الزمان.

            وبالجملة، يمكن حصر الأسباب التي أدت إلى توسيع الإمام الهادي (عليه السلام) لمنظومة الوكلاء بالأمور الآتية:

أولاً: اتساع الوجود الشيعي

          لم تعد الجغرافية الشيعية بعد عصر الإمام الصادق (عليه السلام) منحصرة بمدينة الكوفة وما حولها، فقد ساهمت جهود الأئمة (عليهم السلام)بإيصال المد الشيعي إلى مناطق شاسعة من البلاد الإسلامية، فاستقر قسم كبير منهم في خراسان ونيسابور وقم وما يحيط بها من مدن كالري وهمذان وصولًا إلى بغداد وما حولها من مدن وقصبات، وسامراء وامتداداتها الجغرافية، إضافة إلى تنامي الأقليات الشيعية في البصرة والمدينة المنورة وبعض بلاد الشام وبلاد المغرب العربي.

          وقد شهدت هذه الحقبة انتقال المركز الروحي للتشيع من الكوفة إلى مدينة قم، على يد ثلة من الرواة والمحدثين أبرزهم المحدث الجليل إبراهيم بن هاشم الكوفي القمي والد علي بن إبراهيم القمي صاحب التفسير(3)، فأصبحت قم ونيسابور والري حواضر مهمة يسجل فيها الخط الشيعي حضورًا فاعلًا على جميع المستويات.

          إزاء هذه التطورات، كانت منهجية اعتماد الوكلاء واحدة من طرق الإدارة التي تتيح للإمام الهادي (عليه السلام) ربط القصبات الشيعية المترامية الأطراف، وتسهيل إنفاذ الأوامر والتوجيهات، ونقل الحقوق الشرعية إلى الإمام (عليه السلام)بطريقة تتجاوز عيون السلطة وجواسيسها المحيطة بتحركات الإمام وشيعته، ولهذا نجد أن الخارطة الجغرافية للوكلاء تتسع لتشمل كل الحواضر المحتضنة للوجود الشيعي؛

         فأيوب بن نوح الكوفي كان وكيلًا في الكوفة وما حولها، وسليمان بن الجهم الزراري كان وكيلًا متنقلًا بين الكوفة وبغداد، وإبراهيم بن محمد الهمذاني استلم الوكالة في مدينته (همذان)، وعلي بن جعفر الصيقل في مدينة (هيمنيا) القريبة من واسط اليوم، وعثمان بن سعيد العَمري في بغداد، والحسن بن راشد في بغداد أيضًا والقصبات المجاورة لها، وعلي بن الريان في قم، وعبد العظيم الحسني جعله الإمام مرجعًا حديثيًا في الري، وعلي بن مهزيار كان وكيلًا في الأهواز، وعلي بن عمرو القزويني في قزوين.

ثانيًا: الوضع السياسي العام

           عاصر الإمام الهادي (عليه السلام) ستة من خلفاء بني العباس، تعاقبوا على حكم البلاد الإسلامية متخذين من سُرّ من رأى عاصمة للخلافة منذ أكمل المعتصم بناءها سنة 221 هـ، أي بعد سنة واحدة من تسلم الإمام الهادي (عليه السلام) مسؤولية الإمامة، وحتى استشهاده سنة 254 هـ، وهؤلاء الخلفاء هم:

   1ـ المعتصم: تسلم الخلافة في 14 رجب 118 هـ، وهو الذي قتل الإمام الجواد سلام الله عليه، اغتاله بالسم سنة 220 هـ، وكان المعتصم من أجهل خلفاء بني العباس وأكثرهم نفورًا من العلم ومجالس الأدب على عكس أخيه المأمون، وهو الذي نقل الخلافة من بغداد إلى سامراء سنة 221 هـ وجعلها قاعدة للعساكر والجنود فسميت بالعسكر، وقد سلط الأتراك على رقاب المسلمين، فصارت الدولة الإسلامية تدار بعقلية الأتراك وسياساتهم الهوجاء، هلك المعتصم سنة 227 هـ(4).

   2ـ الواثق: تسلم الخلافة في 19 ربيع الأول 227 هـ، وكان من أكثر الخلفاء شغفًا بالغناء والغلمان، ويقال إن له سيرة حسنة مع العلويين، وقد سار على نهج عمه المأمون وأبيه المعتصم في القول بخلق القرآن وإجبار الناس على تبني هذه النظرية تحت وطأة السياط ومطامير السجون، توفي في سُرّ من رأى سنة 232 هـ(5).

   3ـ المتوكل: شاءت مقادير الله تعالى أن تكون خلافة المتوكل هي الأطول من الناحية الزمنية، وهي الأقسى على الحالة الشيعية، فبلغت 15عامًا (من232-247هـ) قاسى خلالها المسلمون – لا سيما الشيعة – صنوفًا من البلاء، وألوانًا من العذاب، وغرقت البلاد في وحل الجهل، ونظريات التضليل؛ بعد أن تسيّد الحنابلة المجسِّمون الساحة الإسلامية ووفرت لهم دولة المتوكل الحماية السياسية والدعم المالي والإعلامي وسمتهم (أهل السنة)(6)؛ فانتعشت سوقهم، وكثر الهمج الرعاع حولهم، مع انكفاء المعتزلة وبعض الأشاعرة الكلاسيكيين عن المشهد السياسي والفكري.

             عُرف المتوكل بأنه من أشد الخلفاء نصبًا وعِداءً لأهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم، وهو الذي أنهى ما عرف بمحنة القرآن، وأخرج الحنابلة وأتباعهم من السجون، واهتم بإعادة إحياء مدرسة الحديث (السلفية) بكل ما تختزله من أدبيات النواصب، والفكر الإسرائيلي، وفقه السلطة.

             ولم تمض أربع سنوات من حكمه حتى قام المتوكل بجريمته بحق قبر سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، فهدم القبر الشريف وكل ما حوله من البناء سنة 236 هـ، وحرث المزارع والأراضي المحيطة به(7)، وشدد الرقابة على حركة الزائرين متوعدًا كل من يصل إليه بالأحكام العرفية القاسية، ومن مظاهر نصبه وعداوته أنه كان يتخذ من يوم عاشوراء يومًا لتدشين قصوره، والانتقال إلى مدنه التي أنفق عليها الملايين من أموال المسلمين وحقوق الفقراء، وكان يجعله يوم احتفال وغناء، ينشر فيه الزينة ويعطي فيه العطايا والهبات(8).

             قام المتوكل باستدعاء الإمام الهادي (عليه السلام) من المدينة المنورة إلى سامراء بحدود سنة 234 هـ، فجعله تحت الإقامة الجبرية وقام باعتقاله في السجن وحاول اغتياله غير مرة إلّا أنه لم يفلح، هلك المتوكل في ليلة حمراء انقلبت عليه سوداء في شوال 247 هـ، بعد اتفاق ابنه المنتصر وبعض الأتراك على تصفيته وإراحة البلاد من شره.

   4ـ المنتصر: لم يدم حكمه طويلًا، تولى الخلافة في شوال 247 هـ، وتوفي مسمومًا بمؤامرة من الأتراك في ربيع الثاني 248 هـ، وكان محسنًا للعلويين، وقد وجد الشيعة في مدة حكمه القصيرة متنفسًا عن ظلم أبيه إلّا أن ذلك لم يدم إلّا 13 شهرًا(9).

   5ـ المستعين: تولى الحكم في شوال 248 هـ فحبس أخاه المعتز، ولم يلبث أن كبت به سوء سيرته فثار عليه أخوه مع الأتراك فاضطر إلى خلع نفسه في محرم 252 هـ..

   6ـ المعتز: وهو الطاغية الذي أقدم على قتل الإمام الهادي (عليه السلام) سنة 254 هـ (10)، واستمرت خلافته حتى عام 255 هـ حين قام الأتراك بخلعه ونصبوا المهتدي بدلًا عنه(11). في ظل هذه الأجواء السياسية، كان لابد للإمام الهادي (عليه السلام) من أن يعمل بحذر وحكمة، دافعًا الشر والسوء عن نفسه وعن شيعته من السلطة وعمالها الذين كانوا يتربصون بهم الدوائر، ويتحينون كل فرصة لتحجيم الوجود الشيعي وتصفية رموزه وشخصياته البارزة،

          وكان من حنكة الإمام (عليه السلام) أن اعتمد بعض الشخصيات الشيعية المقربة من السلطة ممن لا مطعن في عقيدتهم وحسن نيتهم، ومن المعروفين بولائهم الشديد لأهل البيت (عليهم السلام)، فصاروا محط ثقة الإمام، وموضع اعتماده في جمع الحقوق، وربما لدفع الظلم والحيف عن بعض الشيعة بحكم قدرتهم على حرية التحرك التي وفرها لهم قربهم من السلطة ورجالاتها، ومن هؤلاء محمد بن الفرج الرخجي الذي كان شديد الولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، وقد شهدت كتب السيرة بإخلاصه وأمانته، حتى إنه كان من الذين لعبوا دورًا مهمًا في تعريف الشيعة بإمامة الإمام الهادي (عليه السلام) بعد وفاة أبي جعفر الثاني(عليه السلام)(12).

 

  ثالثًا: الانحرافات الفكرية

          شهدت الحقبة التي عاشها الإمام الهادي (عليه السلام) ظهور موجة من التحولات العقدية الخطيرة التي عصفت بالساحة الإسلامية والشيعية على حد سواء؛ فعلى المستوى الإسلامي العام، ساهم وصول المتوكل العباسي بإنعاش الحركة السلفيّة وفرض متبنياتها العقدية على عموم البلاد الإسلامية بعد إنهاء ما سمي بمحنة خلق القرآن، وصار الحنابلة المجسمون يتحكمون بمجالس العلم، وعمد المتوكل إلى استقدام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) من بغداد إلى سامراء سنة 237 هـ، وأغدق عليه العطايا والهبات، وجعله المستشار الديني للدولة فكان لا يولي أحدًا إلّا بمشورته(13)،

             وقد استغل ابن حنبل هذه الرعاية السلطوية فراح يروج لكل نظرياته العقدية والفقهية بأريحية تامة، فعمل على ترسيخ نظرية عدالة الصحابة(14)، وإجماع الصحابة على خلافة أبي بكر، وتفضيل عثمان على أمير المؤمنين (عليه السلام)، وطاعة السلطان وإن كان ظالمًا، فضلًا عن أحاديث التجسيم والتشبيه التي غزت كتب الحديث إبان تلك الحقبة، ومما يسجل من الانحرافات العقدية في خلافة المتوكل ظهور كتاب الجامع الصحيح للبخاري (ت 256هـ) المعروف ﺑـ (صحيح البخاري)، وهو أهم كتب الحديث عند المدرسة السنية،

             ويبدو أن الأجواء السياسية هي التي فرضت تصدير مرويات البخاري وإضفاء هالة من القداسة على أحاديثه المحشوة بالإسرائيليات حتى صار ثاني كتاب بعد كتاب الله تعالى على ما فيه من التدليس والتحريف والرواية عن الضعفاء والمجروحين الذين بلغوا – بحسب إحصائية ابن حجر – ستمائة رجل(15)!

              ولعل الانحرافات الداخلية التي عصفت بالحالة الشيعية كانت من أخطر الانحرافات العقدية التي واجهها الإمام الهادي (عليه السلام)، فقد انتشرت بعض الفرق المنحرفة التي تسربلت باللباس الشيعي كالغلاة والمفوضة والواقفة، وهي مجموعات فكرية تتبنى عقائد الغلو والكفر والإلحاد مستغلة هشاشة الوعي لدى بعض المناطق الشيعية، ومنطلقة من تأويل الأحاديث المتشابهة لأهل البيت (عليهم السلام) كما هو دأب أهل الزيغ والضلال.

               لقد واجه الإمام الهادي (عليه السلام) – بمعونة وكلائه – فرق الغلاة والواقفة بمنتهى الحزم والقوة مستفيدًا من جهاز الوكلاء المتطور في ضرب رموز الفتنة، وإسقاط هيبتهم، وتحذير الشيعة من كل عقائدهم المنحرفة، وقد وصل الأمر وشدة المواجهة في بعض الأحيان أن يطلب الإمام الهادي (عليه السلام) من بعض شيعته القيام بقتل بعض أولئك المنحرفين لما لمسه من خطورة الإبقاء على تحركاتهم المشبوهة.

             ومن أولئك الغلاة الذين حاربهم الإمام الهادي (عليه السلام)، وخرجت التوقيعات بذمهم ولعنهم، وتحذير الشيعة منهم:

   1ـ علي بن مسعود القمي، المعروف بعلي بن حسكة ويعرف بالحوار، وتلميذه القاسم بن يقطين الشعراني القمي: كانت لعلي بن حسكة القمي حركة واسعة في قم، استطاع من خلالها استغفال العديد من البسطاء والسذج، وذوي النفوس المريضة، والعقول السقيمة، منهم: القاسم اليقطيني، وابن بابا القمي، ومحمد بن موسى الشريقي، ومن عقائده الباطلة ادعاؤه ربوبية الإمام الهادي (عليه السلام)، وتحريض الناس على ترك الفرائض والسنن؛ بحجة المعرفة وعدم الحاجة إلى العبادة، وقد صدرت من الإمام الهادي (عليه السلام) ثلاث توقيعات بذم علي بن حسكة وجماعته، وفي أحدها يأمر الإمام بقتله وقتل كل من يروج لأفكاره الضالة، وكان من كلام الإمام (عليه السلام) بحقهم: (فاهجروهم لعنهم الله، والجؤوهم إلى ضيق الطريق، فإن وجدتَ من أحدٍ منهم خَلوة فاشدخ رأسه بالصخر)(16).

   2. محمد بن نصير الفهري النميري البصري، والحسن بن محمد بن بابا القمي: وقد زعم كل منهما أنه نبي وأن الإمام الهادي (عليه السلام) هو الذي أرسله، وكانت من عقائدهم الفاسدة القول بالتناسخ، والدعوة للإباحية والمثلية الجنسية، وقد صدر من الإمام الهادي (عليه السلام) توقيع بلعنهما، وأفتى الإمام فيه بوجوب قتلهما وإراحة الناس منهما(17)،

              ويبدو أن الكوادر الشيعية استطاعت أن تظفر بالحسن بن محمد بن بابا القمي وتنجح في تصفيته، أما النميري الفهري ففقد أفلت من الاغتيال وبقي إلى زمان الإمام المهدي (عليه السلام)، وله فرقة منقرضة تعرف بالنصيرية، ولعل من فروعها الطائفة العلوية المنتشرة اليوم في بلاد الشام لاسيما سوريا ولبنان، غير أن المصادر السنية تنسب الفرقة النصيرية لنصير مولى أمير المؤمنين (عليه السلام)الذي يقولون إنه ادعى الألوهية في أمير المؤمنين (عليه السلام)(18).

   3ـ فارس بن حاتم بن ماهويه القزويني: وتعد حركته من أخطر الحركات العقائدية المنحرفة التي انتشرت في مدينة بغداد وما حولها من القرى والقصبات، ووصلت تأثيراتها إلى مناطق مهمة في إيران، ولا سيما مدينة قزوين، وقد استقر فارس أخيرًا في سامراء مما دفع الإمام الهادي (عليه السلام) إلى إصدار أكثر من عشرة توقيعات في ذمه ولعنه، والبراءة من عقائده، وتحذير الشيعة من الانخداع بتسويقه الدعائي للغلو ولبس الباطل لبوس الحق،

               والسبب في خطورة حركة فارس القزويني يكمن في أمور عدة منها:

        أ- إن فارس كان مستقيمًا أول أمره، وله مصنفات في الرد على الواقفة والإسماعيلية، وفي تفضيل الأئمة(عليهم السلام)، فالارتكاز الجماهيري عن شخصيته كان إيجابيًا قبل انحرافه حتى إن محمد بن عيسى اليقطيني روى عنه أحاديث في الفقه(19).

      ب- انتماؤه إلى أسرة علمية معروفة، إذ يظهر من بعض الأدلة التاريخية كونه ابن اخت المحدث الجليل والوكيل الثقة (صفوان بن يحيى بياع السابري)، فقد أورد الطوسي في أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) سعيد ابن أخت صفوان بن يحيى، ثم عقب عليه بأنه (أخو فارس الغالي)(20)، فإذا كان أخاه لأمه، فقد ثبت كون فارس ابن أخت صفوان بن يحيى، ومما لا شك فيه أن صفوان بن يحيى كان علمًا من أعلام الطائفة الشيعية المحقة، وهو من كبار الفقهاء والمحدثين، ومن الوكلاء المخضرمين، ولا شك أيضًا أن فارسًا قد استغل صلة القرابة هذه للولوج إلى مجالس الفقه والرواية، والسعي لاستجلاب الأتباع والنفوذ، ومن ثم إظهار المعتقدات الباطلة.

               ومن إخوته أيضًا (طاهر بن حاتم)، كان من رواة الحديث، وحدثت عنه الشيعة قديمًا، ثم أظهر هو الاخر القول بالغلو فتركوه، يقول الشيخ الطوسي في ترجمته: (كان مستقيمًا، ثم تغير وأظهر القول بالغلو، وله روايات. أخبرنا برواياته في حال الاستقامة جماعة)(21)، وكان من إخوانه (أحمد بن حاتم بن ماهويه)، وهو الذي أرسل كتابًا للإمام الهادي(عليه السلام)، يسأله عمن يأخذ معالم دينه؟ وكتب أخوه(22) أيضًا بذلك، فكتب إليهما: (فهمت ما ذكرتما، فاعتمدا في دينكما على مسن في حبنا، وكل كثير القدم في أمرنا، فإنهم كافوكما إن شاء الله تعالى)(23).

      ج- أنه كان يتصرف وكأنه وكيل عن الإمام الهادي (عليه السلام)، وقد تصدى له علي بن جعفر الهماني، الوكيل الشرعي للإمام الهادي(عليه السلام)، فجرت بينهما مشاحنات كبيرة انتهت بكشفه أمام الشيعة.

      د- إنه كان يحظى بدعم ورعاية من قبل جعفر المعروف بالكذاب، وهو ابن الإمام الهادي (عليه السلام)، ويبدو أن تأثير حركته قد تجاوز المدن العراقية ليصل إلى مدن إيران كمدينة قم وهمذان اللتين وجد فيهما بعض الأتباع والنفوذ(24)، وقد استمرت هذه العلاقة حتى بعد هلاك فارس، فقد أورد الخصيبي أن أتباع فارس قالوا بإمامة جعفر بن علي، المعروف بالكذاب، وأنكروا إمامة الحسن العسكري (عليه السلام)(25)، ولا نستبعد أيضًا أن يكون لفارس علاقات مع السلطة العباسية، ولاسيما في عهد المتوكل.

     هـ – إن فارس بن حاتم كان صلبًا في رأيه، عنيدًا في موقفه، ليس له حياء يردعه، ولا ورع يحجزه، وكان لتشدده هذا أثر في إيذاء الإمام الهادي (عليه السلام)، وفي خداع الكثير من الناس ممن ينساقون جهلًا خلف الشخصيات التي تمتاز بالكاريزما والثبات على الموقف.

              استعمل الإمام الهادي (عليه السلام) أسلوبًا متدحرجًا في التعاطي مع حركة فارس القزويني، فقد أمر أولًا وكلاءه وشيعته بترك الجدال معه، ومقاطعته، فلما لم ينفع معه، انتقل الإمام (عليه السلام) إلى لعنه والبراءة منه، وأخيرًا أصدر الإمام الهادي (عليه السلام) أمرًا بتصفيته وإراحة الشيعة من ضلالاته، وقد كلف الإمام (عليه السلام) بمهمة قتله أحد المخلصين الأبطال من شباب الشيعة في سامراء، يعرف باسم (جُنيد أو الجُنيد)، فأخذ جُنيد ساطورًا وكمن لعدو الله بعد الصلاة المغرب وقتله، وكان ذلك بعد سنة 250 هـ، وروى الكشي ما يفيد أن الإمام العسكري (عليه السلام) ضمن لجُنيد الجنة(26).

            ومن الوكلاء الذين كان لهم دور في إخماد حركة فارس القزويني: علي بن جعفر الهُماني، إبراهيم بن محمد الهمداني، عثمان بن سعيد العَمري.

  رابعًا: التمهيد لزمن الغيبة الصغرى

              من الأسباب المهمة التي دفعت الإمام الهادي (عليه السلام)، ومن بعده الإمام العسكري (عليه السلام)، إلى زيادة الاعتماد على الوكلاء، هو التمهيد لدخول الحالة الشيعية في زمن الغيبة؛ لأن الوضع الشيعي كان هشًا في كثير من المناطق التي لم تعرف التشيع إلّا قريبًا بعد زمن الإمام الصادق (عليه السلام)، فكان لا بد من تهيئة الذهنية الشيعية للتعامل مع (رواة الحديث) من الوكلاء الذين يروون للناس أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ويعلمونهم العقيدة والأحكام لا يتجاوزون بذلك كلام الأئمة (عليهم السلام) لكي تكون الحالة الشيعية بمأمن من الفتن والبدع والعقائد الفاسدة والسلوكيات المنحرفة،

              وبالفعل فإن هؤلاء الوكلاء الأجلاء كانوا في غاية الإخلاص والأمانة، والاحتياط والورع، والتحرز عن الإفتاء بما لا يعلمونه، أو استعمال الرأي والاجتهاد، فقاموا بنشر ثقافة الرواية ومنهجية الحديث في المناطق الشيعية، وكانوا يقولون للشيعة: ما نقول لكم شيئًا من عند أنفسنا، وإنما ذلك مسموع من الأئمة (عليهم السلام). 

            وقد نجح الإمامان العسكريان (عليهما السلام)نجاحًا كبيرًا في ترسيخ مفهوم الوكلاء في المجتمعات الشيعية لاستيعاب الصدمة التي سيخلفها غياب الإمام المهدي (عليه السلام) عن الأنظار مع بزوغ فجر الغيبة الصغرى؛

            فمن الثوابت التاريخية أن الثقة الجليل (عثمان بن سعيد العَمري)، كان أول أمره وكيلًا للإمام الهادي (عليه السلام)، وقد خدمه وله من العمر11عامًا، وكان من كبار وكلائه، وموضع اعتماده، بل كانت الوكلاء من المناطق البعيدة عن حاضرة المعصوم تقصد العَمري لأخذ التعليمات وإيصال الحقوق والصلات في حال تعذّرَ أو تعسّرَ اللقاءُ بالإمام الهادي (عليه السلام)،

           وظل أبو عمرو عثمان بن سعيد، من الوكلاء المبرزين في زمان الإمام العسكري (عليه السلام)، وهكذا لما حانت الغيبة الصغرى سنة 260 ﻫـ، وصار عثمان بن سعيد أول السفراء، لم يكن عند أي أحد من الشيعة شك في وثاقته، وصدقه، وأمانته، ولذلك لم يجرؤ أحد من المنحرفين على ادعاء السفارة عن الإمام المهدي (عليه السلام) ما دام أبو عمرو حيًا،

          فلما أن توفي بحدود 265ﻫـ، بدأ البعض بالتجاسر، وادعاء السفارة عن الإمام المهدي (عليه السلام) لاستدرار الأموال، واستجلاب الأتباع، فتصدى لهم الوكلاء الشرعيون، العَمري الابن، وابن روح، والسمري، ومن خلفهم الإمام المهدي (عليه السلام)، وكثير من المخلصين من الشيعة، واستطاعوا فضحهم وهتكهم أمام الجماهير الشيعية لما يتمتعون به من سمعة حسنة، وسيرة طيبة، وتوفيق من الله سبحانه وتعالى.

              ولولا هذا العدد الكبير من الوكلاء والرواة المخلصين الذين نشرهم الأئمة (عليهم السلام) في كل مدينة أو ناحية شيعية، لشهدنا انهيار القواعد الشيعية مع بدء غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، ولتمكنت الشبهات والبدع من تهشيم النسيج الشيعي لينتهي بعد مدة من الزمن، ولكن الله تعالى متم نوره ولو كره الكافرون.

  منهجية الإمام الهادي (عليه السلام) في إدارة الوكلاء

             يظهر لنا من خلال النصوص الحديثية والتاريخية أن الإمام الهادي (عليه السلام) اتبع منهجية دقيقة في تنظيم عمل الوكلاء، وكان لهذا الأسلوب المنهجي في إدارة جهاز الوكالة أثر كبير في إنجاح مهام الوكلاء، وتجنبيهم الكثير من الأخطار بسبب مضايقات السلطة ورجالها، كما ساهمت هذه المنهجية في تقليل نسبة الخطأ المحتملة في تحركات الوكلاء الميدانية، وتتلخص منهجية الإمام الهادي (عليه السلام) في إدارة عمل الوكلاء بالأمور الآتية:

   أولًا: إتباع النظام الهرمي

           ويتمثل بوجود ما يمكن أن نسميه (الوكلاء الإقليميين)، وهم رجالات الصف الأول من الوكلاء الذين كانوا يمثلون مرجعيات إقليمية لوكلاء آخرين يعملون في مدن صغيرة أو مناطق محدودة.

             وتهدف هذه التراتبية الإدارية إلى تقليل مراجعات الوكلاء للإمام الهادي (عليه السلام) في المدينة وسامراء، وبالتالي تقليل الشد الأمني الذي كان محيطًا بالإمام وشيعته، وخاصة وكلاء الإمام الذين كانت عيون السلطة ترصد تحركاتهم وتتحين الفرص لاعتقالهم.

            كما تساهم هذه المنهجية التنظيمية في سهولة إيصال الأوامر والفتاوى من الإمام إلى الوكلاء، وتسهيل نقل الأموال وسائر الحقوق الشرعية من مناطق الشيعة إلى الإمام الهادي (عليه السلام).

           وفي هذا السياق يبرز دور الوكيل الفذ (عثمان بن سعيد العَمري) كأحد أبرز وكلاء الصف الأول، وكان الوكلاء يرجعون إليه في كثير من الأوقات لاسيما إذا كانت حركة الإمام مقيدة بالسجن أو الإقامة الجبرية.

           كما أمر الإمام الهادي (عليه السلام) وكيله (علي بن بلال الواسطي) بالرجوع إلى الوكيل الكبير (الحسن بن راشد البغدادي) وأن يأخذ منه التوجيهات، ويسلمه أموال الخمس والزكوات وما يتعلق بشؤون الوقف والقضاء بين الشيعة.

   ثانيًا: تحديد الصلاحيات

            كان الإمام الهادي (عليه السلام) لا ينصب وكيلًا حتى يعرّفه مهامه وصلاحياته، وكثيرًا ما يحدد له المناطق الجغرافية التابعة له، وهذه المنهجية مهمة جدًا في تنظيم العمل، ومنع اختلاط الصلاحيات، وقد نهى الإمام الهادي (عليه السلام) بعض الوكلاء عن التواصل الثنائي بينهم؛ لأن هذه الاتصالات ربما تثير حفيظة السلطات، وتكشف منظومة الوكلاء أمام أجهزة السلطة العباسية،

            ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما صدر من الإمام الهادي (عليه السلام) إلى الوكيلين الجليلين (أيوب بن نوح بن دراج) و (الحسن بن راشد البغدادي)، فقد أمرهما بقطع الإكثار بينهما، وعدم استلام الحقوق إلّا من مناطق وكالتهما، وجاء في نص الكتاب الذي رواه الكشي في رجاله: (وأنا آمرك يا أيوب بن نوح أن تقطع الإكثار بينك وبين أبي علي، وأن يلزم كل واحد منكما ما وُكل به، وأُمر بالقيام فيه بأمر ناحيته)(27).

   ثالثًا: السرية في العمل

           لا شك أن اتباع السرية في العمل الميداني له فوائد كثيرة في إنضاج العمل، وحفظه من عيون السلطة وأجهزتها، لاسيما وسط الأجواء السياسية والفكرية الملتهبة التي عاصرها الإمام الهادي (عليه السلام)، ومن أوضح الأمثلة على نجاح منهج السرية الذي اعتمده الوكلاء ما جرى من خروج التوقيع بلعن فارس القزويني، فبالرغم من أن فارس كان موجودًا وقتها في سامراء، وله عيون على أصحاب الأئمة، واتصالات مشبوهة مع السلطة،

           إلّا أن الإمام الهادي استطاع بمعونة وكيليه عثمان العمري، وعلي بن عمرو القزويني، أن ينفذ التوقيع إلى مدينة قزوين أولًا ثم بقية المدن ثانيًا، دون أن يشعر أتباع فارس بشيء من ذلك، وساهمت حركة الممانعة المكثفة، التي قادها الوكلاء وبعض المخلصين من الشيعة، ساهمت في القضاء على حركة فارس ومحوها حتى من كتب التاريخ.

            ومن مناهج العمل السري أن الإمام الهادي (عليه السلام) كان كثيرًا ما يستعيض عن أسماء الوكلاء الصريحة بألقاب يعرفها الشيعة أكثر من غيرهم، فالعَمري لم يكن لقبًا معروفًا لعثمان بن سعيد، وإنما لقبه الإمام الهادي (عليه السلام)، وكذا الحال مع البلالي، والعليل، والغائب، والزراري؛ كلها ألقاب حركية تستعمل عادة للتغطية على الأسماء الصريحة للوكلاء.

   رابعًا: حسن الاختيار

            إن متابعة السيرة الذاتية لوكلاء الإمام الهادي (عليه السلام) تكشف للباحث أن الإمام الهادي (عليه السلام) كان دقيقًا في اختيارهم، فكلهم من أهل الصدق والورع، وأهل الفقه والرواية، وأصحاب شأن بين الناس، وحتى عروة بن يحيى الدهقان(28) الذي انحرف آخر عمره، كان أول أمره مستقيمًا، وساهم في التصدي لحركة الانحراف الفكري الذي دبّ في بعض الأوساط الشيعية.

   خامسًا: رعاية الوكلاء

           كان جميع وكلاء الإمام الهادي (عليه السلام)تحت أنظار رعايته الشريفة، سواء منهم من بعدت شُقته أو كان قريبًا من حاضرة المعصوم، وكان أبو الحسن (عليه السلام) يحرص على تأمين حاجة الوكلاء من الأموال، ويغدق عليهم مما أنعم الله تعالى به عليه، ولهذا التأمين دور مهم في مساعدة الوكيل على أداء دوره بشكل أفضل، فبالمال يشتري العبيد والدواب، ويساعد الضعفاء والمحتاجين، ويتنقل بين القرى والقصبات لجمع الحقوق وإيصال الأوامر والفتاوى، وبالمال يتقي شر السلطة وعمالها فيعطيهم من الأموال ما يدفع به الضرر عن نفسه وعن الشيعة أو يستجلب النفع له ولهم، والأمثلة الروائية على ما نقول كثيرة،

           فمن ذلك ما رواه ابن شهرآشوب في مناقبه قال: (دخل أبو عمر عثمان بن سعيد وأحمد بن إسحاق الأشعري وعلي بن جعفر الهمداني على أبي الحسن العسكري (عليه السلام)، فشكا إليه أحمد بن إسحاق دَينًا عليه فقال: يا أبا عمرو – وكان وكيله – ادفع إليه ثلاثين ألف دينار، وإلى علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار، وخذ أنت ثلاثين ألف دينار)(29).

          ولم تقتصر رعاية الإمام (عليه السلام) لوكلائه على تأمين الاحتياجات المالية، وإنما كان الإمام (عليه السلام) ملتزمًا بتربيتهم، وتعليمهم، والدعاء لهم بالحفظ والرزق وحسن العاقبة، وفي التاريخ شواهد عديدة على ما نقول.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) أصول الكافي 1\469؛ بحار الأنوار 50\117.
2) أصول الكافي 1\472؛ بحار الأنوار 50\234.
3) رجال النجاشي ص 16.
4) الوافي بالوفيات 5\94.
5) المصدر نفسه 27\120.
6) بلغ من شدة تعصبهم أنهم لم يحاربوا من خالفهم وحسب، بل حتى من توقف في عقائدهم، فلم يقبلها ولم ينكرها، أورد الذهبي عن حرب الكرماني قال: سالت أحمد بن حنبل أيكون من أهل السنة، من قال: لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق؟ قال: لا، ولا كرامة – تاريخ الإسلام 17\54.
7) تاريخ الطبري 7\365، البداية والنهاية 10\347، قال الذهبي: (وفي سنة ست وثلاثين ومأتين هدم المتوكل قبر الحسين “رضي الله عنه”، فقال البسامي أبياتاً منها:
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا
في قتله فتتبعـوه رميمــــــــاً
وكان المتوكل فيه نصب وانحراف، فهدم هذا المكان وما حوله من الدور، وأمر أن يزرع، ومنع الناس من انتيابه) – سير أعلام النبلاء 12\35.
8) أنظر مثلاُ: البداية والنهاية 10\383.
9) الوافي بالوفيات 2\216.
10) بحار الأنوار 50\117.
11) الوافي بالوفيات 2\217.
12) الكافي 1\324.
13) البداية والنهاية 10\348.
14) أورد الذهبي أن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي القاضي، كان قاضي القضاة للمتوكل، هو الذي وضع حديث: (أصحابي كالنجوم من اقتدى بشئ منها اهتدى) – ميزان الاعتدال 1\413.
15) جواهر التاريخ ص8، مقدمة فتح الباري 381.
16) اختيار معرفة الرجال 2\802.
17) المصدر نفسه 2\805.
18) الوافي بالوفيات 27\63.
19) رجال النجاشي 310، الاستبصار 1\178.
20) رجال الطوسي 358.
21) الفهرست 149.
22) لعله فارس نفسه أو طاهر الذي مر ذكره.
23) اختيار معرفة الرجال 1\15، بحار الأنوار 2\82.
24) كمال الدين 58.
25) الهداية الكبرى 384.
26) اختيار معرفة الرجال 2\407، الإرشاد 2\365، وأورده ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب 3\519.
27) اختيار معرفة الرجال 2\800.
28) يعد عروة بن يحيى الدهقان المثال الوحيد للوكلاء الذين ختموا حياتهم بالنصب والانحراف.
29) مناقب ابن شهرآشوب 3\512.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.