ما إن تمصرت الكوفة حتى هاجر إليها الكثير من المسلمين حيث أصبحت مركزاً لكثير من الهجرات التي توالت عليها على شكل هجرة جماعية فتنزح قبيلة بكاملها إليها، وتتخذ محلة تسكنها لتعرف بها بعد أن تبلورت فكرة نشوء مدينة وعندها نشأ التخطيط المحلي والقبائلي لمدينة الكوفة حينما تشكلت فيها أول لبنة من لبنات المجتمع.
وقد تتم الهجرة بصورة انفرادية حيث يهاجر المسلم من بلده وينزل الكوفة بقصد الإقامة فيها مع زوجته وولده أو لوحده ثم يتناسل ويتكاثر عقبه ليشكل بعد رحيله أسرة معروفة تنتمي إليه وتعرف به لتبقى تحمل اسمه جيلا بعد جيل.
وهذا ما حدث لصاحبنا جعدة بن هبيرة المخزومي، سبط أبي طالب(عليه السلام) الذي نزل الكوفة مع النازلين فيها مهاجراً من المدينة المنورة.
هو جعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، أمه أم هاني بنت أبي طالب بن عبد المطلب(1) وقد افتخر جعدة قائلاً:
أبي من مخزوم إن كنت سائلاً
ومن هاشمٍ أمي لخير قبيلِ
فمن الذي ينأى عليّ بخاله
كخالي علي ذي الندى وعقيلِ
وقد ارتبط المخزوميون مع بني هاشم بالمصاهرة من قبل حيث تزوج عبد المطلب شيخ مكة من فاطمة بنت عمرو بن عائذ -عمة هبيرة والد جعدة- فأولدها عبد الله (والد النبي(صلى الله عليه وآله))، وأبي طالب، والزبير كما تزوج الزبير بن عبد المطلب من عاتكة بنت أبي وهب (عمة جعدة).
أسلمت أم هاني عام الفتح سنة 8هـ، ولكن زوجها هبيرة بقى مصراً على شركه فهرب إلى نجران إلى أن مات فيها، وقد فرّق بينهما الإسلام بعدما ولدت له بنين أربعة جعدة وعمراً وهانئاَ ويوسف(2).
ولد جعدة في حياة النبي(صلى الله عليه وآله) وعاصره وهذا ما ذكره البروجردي في طرائف المقال: (يقال أنه ولد على عهد النبي(صلى الله عليه وآله) وليست له صحبة)(3)،
أما إسلامه فقد أسلم بعد عام الفتح سنة 8هـ أيضاً.
لم يذكر المؤرخون إلا شيئاً يسيراً عن حياته وقد انضم لخاله علي(عليه السلام) مناصراً له ثابتاً معه، ثم غادر المدينة قاصداً الكوفة فاستوطنها وكان قد تزوج من أم الحسن بنت الإمام علي(عليه السلام) فولدت له.
أول خبر يطالعنا في شأنه بالكوفة أن الإمام عليًا نزل في داره بعد أن رفض النزول في قصر الإمارة وسماه بقصر الخبال وكان هذا النزول سنة 36هـ بعدما انتهت واقعة الجمل، بعدها ولّاه أمير المؤمنين ولاية خراسان حيث قال اليعقوبي: (ولمّا فرغ علي من حرب أصحاب الجمل وجه جعدة بن هبيرة إلى خراسان)(4)،
ولم يطل به المقام حتى عاد إلى الكوفة والتحق بأمير المؤمنين حيث حضر واقعة صفين وأبلى فيها بلاءً حسناً حتى قال له عتبة بن أبي سفيان: (إنما لك هذه الشدة في الحرب من قبل خالك، فقال له جعدة لو كان خالك مثل خالي لنسيت أباك)(5) وقد وصفه المؤرخون حيث قالوا: (كان جعدة فقيهاً فارساً شجاعاً ذا لسان وعارضة قوية)(6)
وعندما اغتال ابن ملجم الإمام علي(عليه السلام) نادى(عليه السلام): مروا جعدة فليصلِّ في الناس(7) وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ورع جعدة وتقواه حيث كلفه أمير المؤمنين(عليه السلام) بالصلاة محله.
بعد وفاة الإمام علي(عليه السلام) بقي جعدة وعياله ولم يرتحل مع الإمام الحسن(عليه السلام) إلى المدينة بعد الهدنة لذا بقي بيته معروفاً بالكوفة، حيث أعقب عشرة أولاد وهم: يحيى وعمرو وقدامة وعبد الله والطفيل وفراس وعقيل وعون ونفيع وجعفر.
ولما بلغه نبأ استشهاد الإمام الحسن(عليه السلام)
كتب جعدة بعد أن اجتمع مع شيعة الإمام في الكوفة إلى الإمام الحسين(عليه السلام) وكان أمحضهم حباً ومودة له(عليه السلام): (أما بعد فإن من قبلنا من شيعتك متطلعة أنفسهم إليك،لا يعدلون بك أحداً، وقد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في دفع الحرب، وعرفوك باللين لأوليائك والغلظة على أعدائك والشدة في أمر الله، فإن كنت تحب أن تطلب هذا الأمر فأقدم علينا، فقد وطّنا أنفسنا على الموت معك)(8).
وأجمع جعدة أمره على حج البيت فتهيأ وارتحل ولما أدى مناسكه ذهب إلى المدينة وفاجأه المرض فتوفي ودفن هناك، كما أجمع المؤرخون وكان ذلك في خلافة معاوية دون أن يحددوا السنة التي توفي فيها.
ولكن الذي يثير في النفس سؤالاً هو أين كان أبناء جعدة يوم الطف؟ ولمَ لم يشهدوا الواقعة ولم ينصروا الحسين(عليه السلام) وإن فيهم من يكون الحسين خاله؟!.
لكي نجيب عن هذا السؤال، لنتمعن في النص الآتي :
(لما توفي الحسن بن علي(عليه السلام) اجتمعت الشيعة ومعهم بنو جعدة بن هبيرة في دار سليمان بن صرد فكتبوا إلى الحسين(عليه السلام) كتاباً بالتعزية وقالوا في كتابهم إن الله قد جعل فيك أعظم الخلف ممن مضى، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك المحزونة بحزنك المسرورة بسرورك المنتظرة لأمرك وكتب له بنو جعدة يخبرونه بحسن رأي أهل الكوفة فيه وحبهم لقدومه وتطلعهم إليه، وأن قد لقوا من أنصاره وإخوانه من يرضى هديه، ويطمأن إلى قوله، ويعرف نجدته وبأسه، فأفضوا إليهم ما هم عليه من شنآن ابن أبي سفيان، والبراءة منه ويسألونه الكتاب إليهم برأيه.
فكتب الحسين(عليه السلام) إليهم: (إني لأرجو أن يكون أخي رحمه الله في الموادعة ورأيي في جهاد الظلمة رشداً وسداداً فالصقوا بالأرض واخفوا الشخص واكتموا الهوى واحترسوا من الأظاء(9) مادام ابن هند حياً، فإن يحدث به حدث وأنا حي يأتيكم رأيي إن شاء الله)(10).
مما ورد يمكن استنتاج ما يلي:
1ـ إن فكرة النهضة بوجه بني أمية كانت موجودة عند الكوفيين قبل أن يموت معاوية ويقوم يزيد بعده بأمر الخلافة، وكانت اجتماعاتهم السرية تعقد في دور زعمائهم لغرض التنسيق مع الحسين(عليه السلام) وهو الممثل الوحيد للخلافة الإسلامية.
2ـ هنالك تشابه ملحوظ بين هذا النص والذي سبقه الذي كتب فيه جعدة طالباً من الحسين المجيء إلى الكوفة.
3ـ طلب الإمام الحسين(عليه السلام) أن يبقوا على أهبة الاستعداد دون أن يعطيهم الضوء الأخضر للتحرك باتجاه التعبئة العامة للإعلان عن النهضة.
4ـ إن بني جعدة كانوا مستعدين لنصرة الحسين(عليه السلام) ولكن هناك أمراً ما أعاقهم عن نصرته والإلتحاق به في كربلاء، ولم يكشف التاريخ لنا ذلك.
ولم يظهر ذكر لبني جعدة في واقعة كربلاء، فلم نجد لهم ذكراً في قصة مسلم بن عقيل(عليه السلام) منذ دخوله الكوفة وحتى استشهاده، وقد دخل دار المختار وهاني بن عروة ولم يرد أنه دخل دار بني جعدة وهو ابن خال أبيهم وزوج خالتهم ولعل هذا الاختفاء جاء نتيجة لما يلي:
1ـ قد تكون السلطة الأموية وجهت عليهم العيون وجعلتهم تحت النظر وهي واثقة أن مسلمًا سينزل عندهم كما نزل أميرُ المؤمنين علي(عليه السلام) من قبل في دار أبيهم جعدة.
2ـ أن يكونوا قد أودعوا السجون لكي لا يشتركوا في استنهاض الكوفيين أو الالتحاق بمعسكر سيد الشهداء(عليه السلام) في كربلاء.
ثم ظهر فجاء ذكر يحيى بن جعدة وهو ابن أخت الحسين(عليه السلام) حيث تنقل الرواية على أنه كان أعز الناس على المختار بن أبي عبيدة الثقفي وهذا ما يؤيد القول بأن أبناء جعدة كانوا مسجونين .
نشرت في العدد 52
(1) علي خان المدني، الدرجات الرفيعة، ص412.
(2) الزبيدي، تاج العروس، 1/288.
(3) الطوسي، رجال، ص33.
(4) اليعقوبي، تاريخ،2/183.
(5) الطوسي، اختيار معرفة الرجال، 1/281.
(6) الشريف الرضي/ معرفة الأئمة، ص63.
(7) المجلسي، بحار الأنوار، 42/226.
(8)الدينوري، الأخبار الطوال، ص221.
(9) الظهور.
(11)البلاذري، أنساب الأشراف، 3/151.