يمكن للناظر في آيات القرآن الكريم أنْ يستشف جانباً من صفات إبليس وسلوكه. فأوّل صفة ذاتية يذكرها القرآن قوله تعالى: (إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (الكهف: من الآية50) فكأنّ إبليس من فصيلة الجنّ إذ ليس الجنّ كلهم أبالسة. فقد قيل: (الجانّ أبو الجنّ وليسوا شياطين، والشياطين ولد إبليـس لا يموتون إلا ّمع إبليس والجنّ يموتون ومنهم المؤمن ومنهم الكافر. فآدم أبو الإنس والجانّ أبو الجنّ، وإبليس أبو الشياطين)(1)
وقيل إنّ إبليس قبل فسوقه عن أمر ربّه، كان اسمه (عزازيل) ومعنى الاسم في العربية (الحارث) وإنّما سمّي بعدئذٍ (إبليس) لأنّه أُبلس من الخير كلّه، أي آيس من الخير كلّه(2) وإبليس مختلف عن عنصر الملائكة لأنّه من النّار والملائكة خلقوا من النّور، ولأنّ إبليس له ذريّة، والملائكة لا ذريّة لهم(3).
إذن: إبليس من الجنّ والجنّ مكلّفون كما الإنسان مكلّف. قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56) وإنّ للجنّ رسل كما للإنس رسل. قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) (الأنعام:130).
وقد اختلف المفسرون في جنس الرسل إلى الجنّ، فقيل إنّ الله لا يفرّق بين مكلّف ومكلّف، فالكلّ يبعث إليه من جنسه، وذلك لهم آنس، إلاّ رسول الله محمّد(صلى الله عليه وآله)، فقد بُعث للإنس والجنّ، بدلالة قوله تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً) (الجـن:1) وقيل: إنّ الرسل من الإنس ولكن هناك مستمعون من الجنّ يسمعون فيذهبون منذرين أقوامهم(4)
فإبليس من الجنّ والجنّ كالإنس أراد الله سبحانه منهم أنْ يعبدوه مختارين لا مضطرين، فخلقهم ممكّنين(5) وهذا ما يدلّ على أنّهم يملكون عقولاً وأهواءً، إذ لولا امتلاكهم العقول لما كلّفوا ولولا الأهواء لكانوا كالملائكة منزوعي الشهوات ولكانوا بذلك: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) (التحريم: من الآية6) ولَمَا ذرأ لجهنّم كثيراً منهم، قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179)، فالكثير من الجنّ والإنس يعملون عمل من يؤهل إلى النّار.
إن صفات إبليس تؤهّله للمعصية مختارًا(6)
ومن ينظر في القرآن يجد أنّ إبليس والشياطين متلبسين في الكفر والمعصية، فقد قيل (كلّ شيء في القرآن من ذكر الشيطان فإنّه إبليس وذريّته وجنوده إلاّ قوله تعالى: (وإذا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ)(البقرة: من الآية14) فإنّه يريد كهنتهم)(7) قيل: إنّ إبليس استكبر وشعر بالعِظَم لمّا شرّفه الله سبحانه بخزانة السّماء، فرأى أنْ لولا شرفه لما كانت له تلك المزيّة، فاستخفّ الكفر والمعصية(8) قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّا)(مريم: من الآية44) لذلك جنب الله المؤمنين سلطانه، قال تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (النحل:99).
لقد أوضح القرآن الكريم سلوك الشيطان، وأوّل سلوكه العداء للإنسان قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر:6) إذ لا أعرق في العداوة للإنسان منه، فهو يورد من تبعه مورد الهلاك والشقوة(9) قال تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (يّـس:60- 62) فالله سبحانه أوصى الإنسان بمعصية الشيطان، وبيّن الأسباب العقليّة لذلك(10)
فقال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً)(الإسراء: من الآية53) فالشيطان يلقي بين النّاس الفساد، ويغري بعضهم على بعـض ليقع الشرّ(11)، والشيطان يزيّن الفساد في أعين أوليائه ليردوا العذاب الّذي هو وارده. قال تعالى: (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النحل:63) فالشيطان قرينهم وهو ناصرهم.
وهذا إقناط من النصر(12) إذ الشيطان يأمر الإنسان بالفحشاء والمنكر ثمّ يخذله خذلاناً مبيناً قال تعالى: (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)(النور: من الآية21) وقال تعالى: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً)(الفرقان: من الآية29) فهو حريص على إيراد النّاس مورده. قال تعالى: (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر: من الآية6) وقد يتعب الإنسان المؤمن، كما في حالة أيّوب(عليه السلام). قال تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) (ص:41) فقيل إنّ الشيطان لمّا عجز عن إغواء أيّوب عليه السلام ليخرج على الطاعة جزعاً ممّا أَلمَّ به راح يوسوس له في تعظيم ما نزل به من بلاء، وهذا المراد بقوله(عليه السلام): (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) فالنّصب التّعب الثقيل والمشقّة العظمى ممّا جعله يلتجئ إلى الله سبحانه باثّاً شكواه إليه(13)
والشيطان يريد أنْ يوقع العداوة والبغضاء بين النّاس، كي ينسوا ذكر الله وينسوا الصّلاة. قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة:91) والشّيطان يعد الإنسان ويمنّيه قال تعالى: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً) (النساء:120) إنّه يمنّي بالأماني الباطلة، مثل طول العمر وبلوغ الآمال، ورحمة الله بالمجرمين من غير توبة، والوعود تلك كلّها غرور(14) والشّيطان يكون تابعاً للذين يعلمون آيات الله ويضربون عنها صفحاً.
قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) (الأعراف:175) والقصّة المأمور تلاوتها تحكي عن عالم من علماء بني إسرائيل آتاه الله علم بعض كتبه فكفر بها ونبذها وراء ظهره، فلحقه الشّيطان وصار له قريناً فتحول من عالم إلى كافر ضال(15).
النّصوص القرآنية توضح أنّ إبليس حسود للإنسان وعدوّ له ولا يرجو له الخير، ولا يكفّ عن إيذائه أبداً.
أسلوب إبليس:
عرض القرآن الكريم كلاماً على لسان إبليس في مواضع عدّة، يمكن للدارس أن يميّز فيها خصائص أسلوبية لإبليس.
يدور خطاب إبليس في محورين: الأول مع الله سبحانه وتعالى، والآخر مع النّاس.
خطابه مع الله سبحانه:
قال تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ، قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف:12- 17).
إنّ الله سبحانه يعلم ما منع إبليس عن السجود، إذ قال في آية أخرى: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة: من الآية34) لكنّه استفهم لتوبيخ إبليس، ولإظهار معاندته وكبره وما بطن عليه من كفر. ولم يجب إبليس – كما يقتضي المقام – فيقول: منعني كذا وكذا، بل أجاب بما يدل على إنكاره لأمر الله. ولمّا أمره بالهبوط صاغراً طلب الإنظار إلى يوم البعث، واتّهم ربّه بغوايته، وتوعد آدم وذريّته أنْ يغريهم على الفساد ويقطع عليهم طريق الإسلام المستقيم، ويتمكّن منهم تمكّن المستحوذ المستعلي(16)
قال تعالى: (قَالَ يَا إِبلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ، قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر:32 -40) واستفهام الله سبحانه كان للتقريع والتوبيخ ولإظهار ما بطن عليه إبليس من الكفر و الكبر.
وقيل إنّ جواب إبليس كان فيه الأياس من الرّجوع إلى الطّاعة: (قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) أي يستحيل سجودي أبداً. ثمّ أعاد تهمته السابقة بنسبة غوايته لله سبحانه فعنى بقوله: بسبب إغوائك لي أقسم لأفعلنّ بهم الغواية بأنْ أزيّن لهم المعاصي وأسلكهم طريق الهلاك(17).
قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً، قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (الإسراء:61- 62) فالاستفهام والكلام بعده فيه تعالٍ وكبر، وفيه استصغار لآدم إذ كان آدم المقصود بالطين. فتوعد بأنْ يُرِيَ ربّه هذا الّذي أكرمه عليه ، إنْ أخره إلى يوم القيامة. فإنّه سيحتنكنّ ذريّته، أي يستأصلهم بالإغواء(18)
وهذه تهمة أخرى من إبليس لآدم، إ ذ اتهمه وذريّته بالانصياع إليه قبل الحدوث، وقال تعالى: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص:75 -83) الاستفهام من لدن الله سبحانه إنكاريّ، أي ما منعك أن تسجد امتثالاً لأمري؟ فأجاب بتفضيل نفسه على آدم(19) وتخطئة الحكم الربّاني بالسجود له، وطرده ربّه من رحمته، فطلب الإنظار إلى الوقت المعلوم، ثمّ أقسم بعزّة الله أنْ يغوينّهم أجمعين إلاّ المخلصين منهم(20)،