Take a fresh look at your lifestyle.

الإمام أمير المؤمنين(ع).. و (الخلافة) « بين حقه وزهده فيها »

0 491

د. فاضل منجي شكر

 

هذه متلازمة أو معادلة وددنا النظر فيها.. فالمعروف أن موضوع الخلافة الإسلامية أي استخلاف النبي(صلى الله عليه وآله) قد استوعب مجلدات كبيرة وأخذ من جهد العلماء والمهتمين العقائديين المسلمين وغير المسلمين الكثير.
فالخلافة بين الاستحقاق والحق، بين الحق والواجب، بين علي(عليه السلام) والصحابة تعقّدت وأثّرت في مصير الأمة والدين، ومع حسمها بين (الكبار) دون
علي(عليه السلام) ووفق صراع انتهى سريعاً مقترناً بأطروحة غريبة كانت من بناة الفكر الجاهلي الفئوي المتخلف باعتبار أنها لو دخلت في «بني هاشم» لن تخرج منهم، مع أنها والنبوة محسومة بنص في ذرية إبراهيم(عليه السلام) دون غيرهم وفي العدول منهم حصراً (قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124).
ومع إدراك الجميع لمنزلة الإمام
علي(عليه السلام) وسماته وقدراته، إلاّ أن كل ما دلَّ على تلك المؤهلات من آيات وصفات ذاتية وإشارات نبوية وأدوار ومهمات وأهلية، لم تكن لتكفَّ المتصدين للأمر بإصرار ليسلِّموا بنموذجية الإمام(عليه السلام) وجدارته لتولي أمرهم وأمر الأمة لتفادي هلاكها بعد زمن، حين سيتشجع من تهمه المناصب والقيادة باعتبارها (ملك عظيم!!) ـ لا نبوة ولا رسالة(1) ـ ثم ضياع الفرصة.
إنّ اختطاف الخلافة بهذا الشكل وضعتها في موضع غير آمن. ونحن في هذا الزمن لا نحتاج إلى دليل على ذلك فيما نعيش من حياة البؤس، وهذه نتيجة طبيعية في أمر حرفت بوصلته منذ أربعة عشر قرناً، وما تلاها بعد ربع قرن أو أقل من حروب الفتنة التي فاقت الردّة في خطورتها على المصير.
عاد أمرهم لمن أرادته السماء، ولكن بإكراه، بعد أن زحزح عن أمره بإكراه في سابقة فريدة في التاريخ، ولكنهم وبسبب اختلاف رؤيتهم والنوايا من حركتهم عن موقف الإمام وموقف الدين الدقيق، لم يتركوه ويطيعوه ليروا كيف سيؤسس لهم دولة العدل المسددة من السماء، بل نغّص عليه نفس الذين أكرهوهُ عليها.
هذا ما جرى سريعاً وهو أمر معروف ومشبع بحثاً، ولكن ما الجديد؟
المطلوب بعد شهادة الحق لصاحب الحق، أن نبرِّز حقيقة أخرى بما ذهب إليها آخرون من قبل. ألا وهي المتلازمة التي تربط بين حق عليّ(عليه السلام) في الخلافة وزهده(عليه السلام) فيها في نفس الوقت.
إن موقف الإمام هذا وأسبابه وأسراره تستحق التأمل والتدبر مع أنها تمثل الرقي والسمو في ذات الرجل، وهي مما يدفع المتأمل إلى الاطمئنان على مصير الأمة لو وليها، فلنرَ كيف يكون ذلك خاصة مع مواقف الإمام وخطبه الدالة على ما نقوله وبوضوح تام.
بعد هذا البيان ، لابد من التأكيد أنه(عليه السلام)
العارف بحقه تماماً وأكثر منا جميعاً يعلم أنه واجبه كذلك، ومن واجبه المطالبة به والتصدي له لأنه تكليف السماء ، أي أمر السماء فهو غير مخيّر فيه. وإن حكمة الله تعالى هي التي تحركه.
إن من يزهد في أمر يستقتل من أجله الجميع لهو حال استثنائي حقاً. أما أن يكون سببه إدراكه أنها المهمة من أجل غيره وهي كذلك، فيكون الحال هو عمل سيراه الله ورسوله والمؤمنون خالصاً لوجه الله أو أن يراه من خلال تفصيل الخاصة من الناس فيكون أمراً مألوفاً سبق إلى المزاحمة عليه الآلاف من البشر في أمم مختلفة وفي قرون سابقة في غير مكان على أرض المعمورة، وهو أمر ليس مما يسعى إليه عظيم مثل علي(عليه السلام) وليس من شأنه النظر إليه.
إن مزايا هذا الرجل في سلوكه وكل شيء والتي انفرد بها تظهر بداهة التسليم له. وحين يسير الحدث وما صار إليه ويُرى(عليه السلام) متوازناً ثابت الموقف، حكيم الرأي حليم القرار تتضح لنا حقيقة الانسجام بين (علي) النموذج في ذاته والنموذج في نتاجه. ونتأكد بكل يقين أن اختيار السماء له هو العدل بعينه. كان موقفه مع من ولي الأمر موقف المسؤول الحريص على الدين وأمر الأمة، تلك هي الإمامة وصاحبها.

كانت مهمته الأولى هي احتضان أخيه النبي(صلى الله عليه وآله) الذي ينازع للقاء ربه بعد أن أنهى مهمته التي جاء فيها رحمة للناس من هدية السماء (إنما أنا رحمة مهداة)(2)

إن موقف الأخلاق نحو (من بعث ليتمم مكارم الأخلاق) ليس هجره من أجل ضمان موقع الخلافة وهو استخلافه بمعناه السامي كما يفترض، مع أن الخلافة لن تختطف من مخلوق خارج عن رؤوس القوم هؤلاء، ولكن يبدو أن ما سعوا إليه أمر دنيوي المقاصد، دنيّ القيمة، أمر مهما طال سيكون مصيره
الزوال.
قضي الأمر ولكن ماذا بعد؟… إن النتائج ستأتي لاحقاً… بعد قرون! من أسرع مخلفاتها قتل خليفة وإكراه آخر ثم إعلان حرب عليه بعد أخرى وذهب أمن الأمة وجوهر الإسلام مهب الريح… ويفتتح الفصل بقتل وصي النبي(صلى الله عليه وآله) ليؤول الأمر عجباً لمن نعتهم النبي بالطلقاء من غلمان بني أمية وتلاهم آخرون.
كنتم على عجلة من أمركم يا أبا بكر ويا أبا حفص ويا سعد بن عبادة. كان علي(عليه السلام) أخاكم وتعلمون أنه أول القوم إسلاماً وأقدمهم إيماناً وأحوطهم على دين الله. وهو من عَلِمْتُم بأنه لو وليها (لوضع الناس على المحجة البيضاء) وأنه لولاه لهلك عمر(3) ، لقد كان معه أبو ذر وسلمان وعمار ومالك وخزيمة وحذيفة وجابر وأبو أيوب….. وآخرون. وتعلمون أن خلافة الأول فلتة وقى الله المسلمين شرها(4)، فهل أصابت الشورى؟!
أقر طلحة والزبير وعائشة ومعاوية وابن العاص وغيرهم بفضل «علي» وأحقيته لكنهم قاتلوه في سابقة خطيرة حسداً له أو طمعاً في الأمر ورغبة في دنيا زائلة … وبعد حين تركوها لغيرهم محبطين .. أما عليٌّ(عليه السلام) فقال: فزت ورب الكعبة.
(علي) عارف بحقه وواجبه، مطلباً وأداءً، هو كتاب الله الناطق وباب مدينة علم النبي(صلى الله عليه وآله) (5) وهو من ذرية إبراهيم(عليه السلام) وهو الذي لم يظلم في حياته قط ولو نملة يسلبها جلب شعيره ولا لنفسه ليضطر أن يأتي رسول الله مستغفراً وليجد ربه تواباً رحيماً. فيكون (عهد الله) مفصلاً عليه تماماً دون ظنون لو كنا متقين.
وبذا فقد عارض وفاوض لكنه تعاون وتوازن، استشير فنصح، واستنجد فأنجد، ووعظ ومنع، وحين لم يُتَّعظ بما صنع، ما كان ليخذل من خُذِل، أو من يعتزل من عُزِل، فأمر بمعروف ونهى عن منكر بيد ولسان وقلب ونفس وولد، مع علمه بأن الناس هم دونه في أمرها.
لكن (علياً) زاهدٌ في الخلافة فما سرُّ ذلك إذا كانت هي الحق والواجب التكليفي له! هل هو الزهد في خلافة يراها الناس وفق مقاصتهم.. أم لأنها دائماً أوجدت من أجل الآخر أم ماذا؟ إن سلوكه(عليه السلام) وكلامه كانا يشيران لتأكيد ما نقول، حتى التحاقه بالرفيق الأعلى،
قال(عليه السلام): (أَمَا والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ ، لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ ، ومَا أَخَذَ اللَّه عَلَى الْعُلَمَاءِ ، أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ ، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا)(6).
وقال لابن عباس وهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَه : (مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ – فَأجابه: لَا قِيمَةَ لَهَا – فَقَالَ(عليه السلام) واللَّه لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ – إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا)(7)، قام بالأمر بعد أن حُمل عليه ولئلا تختطف ثانية من أعداء متربصين لها هذه المرة فتضيع الناس والرعية. خاطب طلحة والزبير (واللهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ – ولَا فِي الْوِلَايَةِ إِرْبَةٌ – ولَكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا وحَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا – فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اللَّه ومَا وَضَعَ لَنَا – وأَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِه فَاتَّبَعْتُه – ومَا اسْتَنَّ النَّبِيُّ(صلى الله عليه وآله) فَاقْتَدَيْتُه – فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذَلِكَ إِلَى رَأْيِكُمَا ولَا رَأْيِ غَيْرِكُمَا – ولَا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُه فَأَسْتَشِيرَكُمَا وإِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ – ولَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا ولَا عَنْ غَيْرِكُمَا)(8).
واضح أن للناس مطامع وطموحات لا يجدونها عند علي(عليه السلام)، يبدو أنهم جاهلون كنهه بالضبط، إنه صاحب الشمعة والحديدة المحمية بالنار مع عقيل أخيه وعبد الله بن جعفر صهره وابن أخيه. فإذا كان الأمر هكذا فلابد من إعلان الحرب عليه من صحابة النبي ومن أقرب الناس له طلحة والزبير وعائشة في سابقة خطيرة مهّدت لمعاوية من التجرؤ عليها! لكننا نسأل هؤلاء لماذا لم يعلنوها بوجه من سبق لو كنتم حريصين كما تدعون؟!
إلى هنا يبدو أن المشهد صار واضحاً وطرفي المتلازمة مفهوماً فعليّ يزهد في المنصب إنما يلتزم بحق يطلبه لواجبه أزاء السماء فهو يعرف أنه منها بمنزلة القطب من الرحى، وهي عنده أهون من شسع نعل إلاّ أن يقيم حقاً أو يزهق باطلاً، وليست له فيها رغبة ولا في ولايتها أربة، ولو لا وجود الحاضر وقيام الناصر وما أخذ على العلماء لألقى بحبلها على غاربها…
هذه هي الحقيقة فما هو الاستنتاج؟

الخلاصة:
1ـ أن علياً يعرف حقه وواجبه في الخلافة، وقد أدى ما عليه تماماً حتى رحل فائزاً.
2ـ أن الخلافة التي يطلبها هي ليست (عهد العامة) بل هي (عهد الله) فهي الإمامة (العهد) التي لا ينالها إلا العادل الذي تشخّصه السماء (لا ينال عهدي الظالمين)، ولأن خلافتهم هي من مقاصّاتهم تحكمها أهواؤهم زهد فيها الإمام متبرماً، وإنما وليها مرغماً.
3ـ واضح أن الخليفة هو من يستخلف (النبي) في أمر الدين والأمة فمن الأجدر والأقدر؟
4ـ كان موقف (الداهية!) معاوية أن يؤجل أمر الخلافة حتى يحسم أمر مقتل عثمان. فكان رد (عليّ) في كتاب المعلم للرعية قال(عليه السلام): (وجب على الناس اختيار أمير لهم عادلًا كان أم جائرًا، ثم وجب عليهم اختيار أمير عادل عالم في أمر دينهم) كان معاوية يريد كسب الوقت وتخدير الناس وإثارة المزيد من الفتن حتى تحين ساعة الحسم ليزحف على المدينة بجيش الشام وغيره ليدّعي أنه الأحرص على الدين والأجدر بالأمر، ومثل هذا لا يمكن أن ينطلي على وصي رسول الله(صلى الله عليه وآله) وخليفته الحق.
هكذا تكون خلافة السماء التي كُلِّف بها علي(عليه السلام) وجب عليه تطبيقها إن هي أفضت إليه حقاً، وفيما عدا ذلك فلن يكون شأنه، وليمض الساعي لعهد الأرض لا عهد السماء في سعيه وليحصد هو من يقرُّ له ما أراد نتائج بذارهم ولترجع نفس علي إلى ربها راضية مرضية، وليبق المؤمنون بانتظار ساعة الخلاص والسعادة مع قائم آل محمد(صلى الله عليه وآله) في إقامة دولة العدل الإلهية (وهذا هو جوهر المقصود من أطروحتنا فليس القصد لتثبيت الحق وبيانه فحسب إنما نقدم أفكارنا ومواقفنا معززة تقدم صحة تجربتنا وثرائها فننتظر مثلها مع الحجة القائم من أئمتنا(عليهم السلام) وإلى أن نلتقي نسأل الله العفو لنا ولكم ثم حسن خواتم الأعمال، إنه سميع مجيب.

نشرت في العدد 52


(1) وهو قول أبي سفيان قبل مماته في زمن خلافة عثمان بن عفان الأموي: (والذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا نار)(مروج الذهب المسعودي ج1 ص440).
(2) المستدرك /الحاكم النيسابوري ج1 ص35.
(3) ذلك ما قاله عمر : لولا علي لهلك عمر (المناقب موفق الدين الخوارزمي ( ص 48 ) .
(4) قول عمر : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها (لفائق في غريب الحديث/الزمخشري ج3ص50).
(5) قول النبي (ص :أنا مدينة العلم وعلي بابها(الغارات/الثقفي الكوفي ج1ص34)).
(6) نهج البلاغة ص50.
(7) نفس المصدر ص76.
(8) نفس المصدر ص322.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.