هاهي السنة الثالثة عشرة من البعثة النبوية، وهاهو النبي(صلى الله عليه وآله) يهاجر من مكة إلى المدينة، وهاهم أهل المدينة يخرجون لاستقبال رسولهم الكريم(صلى الله عليه وآله)، الذين آمنوا به، ووعدوه نصرتهم في كل حرب يخوضها.
وما إن تشرفت أرض يثرب بوطء قدمي رسول الله(صلى الله عليه وآله) لها، قام الرسول العظيم(صلى الله عليه وآله) بأمور إصلاحية كثيرة، كان من أهمها أن آخى بين المهاجرين والأنصار زيادة في التآلف والتوادد، ولكي لا يشعر المهاجر بغربة خارج وطنه، ولا يشعر الأنصاري بحرج من الغريبين على وطنه.
ومضت مدة على وجود النبي(صلى الله عليه وآله) والمسلمين في المدينة، وكان كفار قريش يشعرون حينها بالغيظ والحنق فكتبوا إلى عبد الله بن أبي سلول ومن كان يعبد الأوثان من الأوس والخزرج قائلين لهم: (إنكم آويتم صاحبنا، وإنكم أكثر أهل المدينة عدداً، وإنا نقسم بالله، لتقتلنه، أو لتخرجنه، أو لنستعن عليكم العرب، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم).
فلما بلغ ذلك ابن أُبي ومن معه من عبدة الأوثان تراسلوا، فاجتمعوا، وأجمعوا لقتال النبي(صلى الله عليه وآله).
فلما بلغ ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأصحابه لقيهم في جماعة، فقال: (لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت لتكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم. فأنتم هؤلاء تريدون أن تقتلوا أبناءكم وإخوانكم).
فلما سمعوا ذلك من النبي(صلى الله عليه وآله) تفرّقوا فبلغ ذلك كفار قريش. وكانت وقعة بدر(1).
وفي السنة الثانية ، في السابع عشر من شهر رمضان المبارك، كانت حرب بدر الكبرى بين المسلمين ومشركي مكة.
استشارة النبي(صلى الله عليه وآله) أصحابه
تذكر الروايات التأريخية استشارة النبي(صلى الله عليه وآله) أصحابه في حرب قريش، فقد طلب منهم المشورة في الإقدام أو الإحجام..
فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله، إنها قريش وخيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت، وما ذلت منذ عزت. ولم تخرج على هيئة الحرب!
فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): اجلس! فجلس. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): أشيروا علي.
فقام عمر: فقال مثل مقالة أبي بكر. فأمره النبي بالجلوس فجلس!
ثم قال المقداد(رضي الله عنه) فقال: يا رسول الله، إنها قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، واللهِ لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك، ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا ، فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ولكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. والله لنقاتلن عن يمينك وشمالك، ومن بين يديك، ولو خضت بحراً لخضناه معك، ولو ذهبت بنا برك الغماد لتبعناك وسرعان ما أشرق وجه النبي(صلى الله عليه وآله) من هذا الموقف المشرّف الخالد، ودعا له، وسرّ لذلك، وضحك(2).
وبعد أن سمع النبي(صلى الله عليه وآله) رأي المهاجرين، ـ الذين كان على وجوه بعضهم الخوف، وكانوا يتفادون مقاتلة قريش بأي ثمن، ولكن المقداد(رضي الله عنه) رد عليهم مقالتهم ـ توجه إلى الأنصار وقال لهم ـ كما يقول في ذلك المؤرخون ـ :
أشيروا علي. فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، كأنك أردتنا؟!
فقال: نعم.
فقال: فلعلك قد خرجت على أمر قد أمرت بغيره؟
فقال: نعم.
فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنا قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله. فمرنا بما شئت… والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك، ولعل الله يريك ما تقرّ به عينك، فسر على بركة الله.
فسرّ النبي(صلى الله عليه وآله) وأمرهم بالمسير، وأخبرهم بأن الله تعالى قد وعده إحدى الطائفتين، ولن يخلف الله وعده. ثم قال: والله لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة…إلى آخر كلامه وقد تحقق ـ بالفعل ـ ذلك كله.
ولنا هنا بعض النقاط التي أحببنا توضيحها:
لماذا يستشير النبي؟
قد يكون من المعقول إذا سألنا عن سبب استشارة النبي(صلى الله عليه وآله) أصحابه، فواضح أن النبي(صلى الله عليه وآله) يمثل الكمال المطلق في العقل والرأي، إذ (لا ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) ولكن ما هو السر في ذلك؟
إن من الواضح أن النبي(صلى الله عليه وآله) لم يكن بحاجة إلى رأي أحد، ولكن سبب الاستشارة، كان لأن المسلمين هم من سيخوضون أعباء الحرب، ويعانون من نتائجها، في حال الانتصار أو الهزيمة.
(ثم إنه يستخرج بذلك دخائل نفوسهم، ويتميز المنافق من المؤمن، والجبان من الشجاع، والذي يفكر في مصلحة نفسه من الذي يفكر من منطلق التكليف الشرعي، ويعرف أيضًا الذكي والغبي، والعدو من الولي، والضعيف من القوي…)(3).
آراء المشيرين..
قد تقدّم أن النبي(صلى الله عليه وآله) عندما استشار أصحابه، أشار عليه ثلاثة من المهاجرين قد مثّلوا رأيهم، وأنصاري واحد كان كافياً في تمثيل استعداد الأنصار لمواقف كهذه.
فأما المشيران الأولان فقد مثّلا رأي جمع من المهاجرين، الذين كانوا يميلون إلى الراحة، وحياة الاسترخاء، فتكلما وفق هواهم، مما أثار النبي(صلى الله عليه وآله) متوجهاً إلى غيرهم؛ لأنه لم يكن ينسجم مع ما يهدف إليه(صلى الله عليه وآله)، وهذا الموقف في الحقيقة لم يعجب الكثيرين من المؤرخين، فبعض أضرب عن رأيهم تماماً، وبعضهم ذكر أنهما قالا فأحسنا!
ولكن (مشورة المقداد (رضي الله عنه) كانت هي السليمة والمنسجمة مع المنطق، ومع الأهداف السامية التي كان يرمي إليها الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)… ولذلك فقد استحق المقداد مدح النبي(صلى الله عليه وآله)، ودعاءه له)(4).
وتوجه النبي(صلى الله عليه وآله) ليعرف بذلك رأي الفرقة الثانية من المسلمين، وكلام قصير لسعد بن معاذ أثبت فيه جاهزيتهم لأي إشارة من النبي(صلى الله عليه وآله)، فكان بذلك سروره(صلى الله عليه وآله).
هل أشاروا بالفعل؟
ثم إنه يتضح لأدنى متأمل، أن سعد بن معاذ والمقداد(رضي الله عنه)، لم يشيرا عليه لا بالحرب ولا بالسلام، بل إن كل ما قالاه هو انقياد وتسليم لأي أمر يقوم به رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وكان هذا منهما، كمال الإيمان ومنتهى الإخلاص، مع وعي شديد لما قاما به.
فهما كانا يريدان أن يشيرا على رسول الله(صلى الله عليه وآله) كما أُمرا بذلك، وبالفعل فقد فعلا ولكن وفق تعاليم الآية الكريمة: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ). وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
وأين علي(عليه السلام)؟
وفي خضمّ هذه الأحداث والمواقف، وفي أثناء هذه التداعيات الخطيرة، لا نجد أمير المؤمنين(عليه السلام) يتخذ موقفاً معيناً، ولا يعطي رأياً خاصاً..فأين أمير المؤمنين عن كل هذه الأمور؟
ولكن، لا يخفى أن أمير المؤمنين(عليه السلام) ما كان ليتقدم بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وكان قد رأى أن واجبه الشرعي والمصلحة العامة كانت تقضي به إلى السكوت، حتى لا يقال إن النبي لا يتبع إلا رأي ابن عمه، وإنه هو وابن عمه (صلوات الله عليهم) قد أوردوهم هذا العذاب والهلاك، في حال فشل الغزوة. فكان النبي(صلى الله عليه وآله) يريد أن يكون الخيار منهم أنفسهم، وفي هذا كمال الوعي من أمير المؤمنين(عليه السلام).
على أنه ـ في كل الأحوال ـ فإن أمير المؤمنين(عليه السلام) هو نفس رسول الله(صلى الله عليه وآله) بنص آية المباهلة: (فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ...)
وختاماً: نسأل الله أن يوفقنا في هذا الشهر الفضيل، ويتقبل صيامنا وقيامنا، وأن يعيده علينا في كل سنة بالأمن والأمان، إنه على كل شي قدير وبالإجابة حري جدير.
نشرت في العدد 52
(1) المصنف للصنعاني 5: 358-359.
(2) تاريخ الخميس 1: 373، السيرة الحلبية 2: 150 عن الكشاف ومغازي الواقدي 1: 48.
(3) الصحيح من سيرة النبي الأعظم 5: 286.
(4) الصحيح من سيرة النبي الأعظم 5: 289.