Take a fresh look at your lifestyle.

عمارات مرقد أمير المؤمنين(عليه السلام) وأثرها الحضري والعلمي على نشوء مدينة النجف الأشرف قبل هجرة الشيخ الطوسي إليها

0 716

        توصف مدينة النجف الأشرف ومنذ قرونها الأولى من النشأة والصيرورة مرتعاً تحمل في طياتها خواصاً ميزتها عن غيرها من المدن الأخرى. ومن تلك الخواص المهمة هو وجود الرمز الديني فيها مرقد أمير المؤمنين(عليه السلام) الذي ساعد على ظهور ونشوء هذه المدينة.
وكان لهذا الأثر سبب لظهور الخاصية الأخرى ألا وهي العامل العلمي ليلتقيان في مصب واحد ، ولم تكن هجرة الشيخ الطوسي إليها مجرد انتقال من مكان إلى آخر بقدر ما كانت هذه المدينة تمتلك مقومات حضرية وعلمية تؤهلها لتكن حاضنة وحاضرة للعلم والمعرفة والفكر. إذ لم تكن قبل هجرته أرضًا قاحلة كما يشير إلى ذلك بعض المؤرخين، بل إنها كانت ملجأ للعلم والعلماء.
ولقد مرت على المرقد الطاهر لأمير المؤمنين(عليه السلام) عدة عمارات ، نذكر بداياتها:

1 ـ عمارة الإمام الصادق(عليه السلام): (132هـ)
لقد ثبت عند مؤرخي الشيعة بالتواتر ما كان يقوم به الامام جعفر الصادق(عليه السلام) من جهد كبير لإشادة الصرح الأول الظاهر على مشهد جده الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) عام 132هـ، إذ جاء من المدينة المنورة في بداية الدولة العباسية إلى الكوفة قاصداً إظهار مشهد جده أمير المؤمنين(عليه السلام) لعامة الشيعة في ذلك الوقت المناسب.
وقد كان سلام الله عليه ينزل في بني عبد القيس المجاورين للسهلة أو في الطريق القريب إلى النجف من الحيرة، وكان يصحب العشرات من تلاميذه الخلص كالمعلى بن خنيس وصفوان بن مهران الجمال وغيرهم ليرشدهم ويريهم مشهد جده متخفياً من عيون العباسيين، ويخط تخطيطاً بعكازته، ويأمر بأن يحفر في ذلك الموضع فأخرج سكة حديد علامة له، ثم طلب من صفوان بأن يرشد الخلص من أصحابه لزيارة المشهد الأقدس وأعطاه أموالاً لإصلاح المشهد وعينه سادناً للحرم الطاهر.
وفي عام 137هـ ورد الإمام الصادق(عليه السلام)
إلى الحيرة حيث طلبه المنصور فسكن النجف في وادي السلام وطلب من الشيعة الهجرة إلى جوار مشهد جده أمير المؤمنين(عليه السلام) فلم تمض إلا سنوات قليلة، حتى أصبحت حوله قرية يشار إليها بالبنان كما شاهدها عبد الله بن الحسن ومن معه عندما جيء بهم إلى سجن المنصور في الهاشميات عام 145هـ(1).
ومن هنا يتضح أن المجاورة التي أمر بها الإمام الصادق(عليه السلام) أصحابه كانت سبباً لنزوح بعض العلماء ورواة أحاديث أهل البيت(عليهم السلام)، الذين رووا عن الإمام
الصادق(عليه السلام) ومن بعده الأئمة(عليهم السلام) تيمناً بصاحب القبر الشريف منهم: أحمد بن عبد الله الغروي، ويعرف نسبة إلى الغري وهي من أسماء النجف، روى عن أبان بن عثمان من أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام)، وروى عنه الحسين بن سعيد واحمد بن محمد بن عيسى ومحمد بن عيسى(2).

2 ـ عمارة هارون العباسي : (175هــ)
يذكر (إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي) في الجزء الثاني من كتابه (الغارات) قصة عن هارون الرشيد العباسي ،انتهت بإصداره أمرًا ببناء قبة على قبر الإمام(عليه السلام) وأخذ الناس في زيارته والدفن لموتاهم حوله.

3 ـ عمارة الداعي الصغير: (280 هـ)
وتعتبر العمارة الثالثة بعد عمارة هارون الرشيد سنة 175هـ، وقد قام بتشييدها سنة 280هـ السيد محمد بن زيد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن(عليه السلام) المعروف بـ(الداعي الصغير)، الذي ملك طبرستان، وقد كان يرسل الأموال الطائلة من طبرستان لتعمير العتبات المقدسة في النجف وكربلاء والمدينة المنورة.
وقد بنى عام 280 هـ حصناً كبيراً وسبعين طاقاً حول مشهد جده الامام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وتشير الدراسات التاريخية إلى انه شجع الدراسة العلمية في النجف الأشرف بعد قيامه ببناء السبعين طاقاً، وهذه الطاقات هي كالغرف والأواوين الموجودة اليوم، التي هي كمدرسة تصلح للسكنى للطلاب ومركز دراستهم(3).
فابتدأت المجاورة بعد هذا التاريخ من جديد دون انقطاع، ولم تمض الأيام حتى أصبحت النجف مأوى الشيعة وعلمائهم، وقد انتقل بعض محدثي الكوفة وطالبي علوم أهل البيت(عليهم السلام) إلى المدينة الناشئة، واقترن بذلك نشوء الحركة العلمية في النجف، لتصبح هذه الحركة امتدادًا لمدرسة الكوفة التي ظهرت في أواسط القرن الثاني في حياة الإمام الصادق(عليه السلام) واتسمت بسماتها وأسلوبها الفكري(4).

4 ـ عمارة عضد الدولة البويهي:
(369 ـ 372هـ)
أما عمارة عضد الدولة البويهي فهي أوسع العمارات وأعظمها، إذ جلب إليها كبار المهندسين وامهر البنائين ومعهم الأموال الطائلة.
وحيث كمل بناء الحرم العلوي المقدس توجه عضد الدولة إلى النجف الأشرف، وإلى ذلك يذكر لنا ابن طاووس زيارته، قائلاً:
(نقلت من خط السيد علي بن عزام الحسيني رحمه الله ما صورته: حدثنا يحيى بن عليان الخازن بمشهد مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، انه وجد بخط الشيخ أبي عبد الله بن محمد بن السمري المعروف بابن البرسي رحمه الله بمشهد الغري سلام الله على صاحبه، على ظهر كتاب بخطه، قال :
كانت زيارة عضد الدولة للمشهدين الشريفين الطاهرين الغري والحائري في شهر جمادى الأولى في سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، إلى أن يقول: وتوجه إلى الكوفة لخمس بقين من جمادى الأولى ودخلها، وتوجه إلى المشهد الشريف الغروي يوم الاثنين، ثاني يوم وروده، وزار الحرم الشريف وطرح في الصندوق دراهم، فأصاب كل منهم إحدى وعشرين درهماً، وكان عدد العلويين ألفاً وسبعمائة اسم، وفرق على المجاورين وغيرهم خمسة آلاف درهم، وعلى المترددين خمسة آلاف درهم، وعلى الناحة ـ الذين ينوحون على الحسين(عليه السلام) ـ ألف درهم، وعلى القرّاء والفقهاء ثلاثة آلاف درهم، وعلى المرتبين من الخازن والنواب على يدي أبي الحسن العلوي، وعلى يد أبي القاسم بن أبي عابد، وأبي بكر بن سيار رحمه الله)(5).
وقال ابن حرز الدين بعد ذكره لهذه الزيارة: (ويظهر من النص الذي أورده ابن طاووس أن السلطان عضد الدولة البويهي عندما جاء لزيارة المرقد المطهر وجد المدينة عامرة بالسكان، وان هناك عدداً كبيراً من الفقهاء المقيمين فيها. ويدل على وفرة طلاب العلم في النجف كثرة ما بذله عضد الدولة البويهي على القراء والفقهاء في زيارته)(6).
ويؤكد الأستاذ غنيمة بأن مدينة النجف أصبحت عاصمة للتدريس للفقه الجعفري وعلوم الدين منذ عصر آل بويه بعد إعمارهم المرقد العلوي، واجزال الصلاة والرواتب للمقيمين به(7).
ويقول الدكتور عبد الله فياض في الزيارة ذاتها، وبالخصوص حول توزيعه بعض الأموال على المترددين: (إن المراد من المترددين، تعني الأفراد غير المقيمين بصورة دائمة في مدينة النجف، وقد يكون من بين هؤلاء عدد من العلماء والطلبة الذين وردوا لزيارة مرقد الإمام علي(عليه السلام) للدرس والتدريس في الوقت نفسه).
ثم يستدرك قائلاً: (ومما يرجح وجود عدد من المشتغلين بطلب العلم بين المترددين هو التقليد المعروف بين المربين المسلمين بما فيهم الشيعة الإمامية بالرحلة في طلب العلم الذي كان من مقتضياته أن يرحل الطلبة إلى لقاء الأساتذة، والشيوخ لرواية الحديث عن أهل البيت(عليهم السلام))(8).
ومما يؤيد ما ذهب إليه الدكتور فياض من أن النجف الأشرف كانت مأوى وملتقى طلبة العلم لزيارة المشهد الشريف ولقاء الأساتذة والشيوخ هناك، هو ما ذكره النجاشي في زيارته للنجف الأشرف سنة 400هـ ولقائه بجماعة من علماء الشيعة، وكان ذلك يوم الغدير المعروف بتنصيب الامام أمير المؤمنين(عليه السلام) خليفة المسلمين، إذ التقى بالمحدث الجليل الشيخ أبي نصر هبة الله بن احمد بن محمد الكاتب المعروف بابن برين، قائلاً بعد أن أشار إلى ترجمته:
(وكان هذا الرجل كثير الزيارات، وآخر زيارة حضرها معنا يوم الغدير سنة أربع مائة بمشهد أمير المؤمنين(عليه السلام))(9).
ويشير النجاشي أيضًا إلى لقاء آخر بالمشهد مع أبي عبد الله بن الخمري، الذي أجاز له بالرواية عن الحسين بن احمد بن المغيرة أبي عبد الله البوشنجي. قائلاً:
(وكان ثقة فيما يرويه له كتاب عمل السلطان. أجازنا روايته أبو عبد الله بن الخمري الشيخ الصالح في مشهد مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام))(10).
إضافة إلى ذلك لابد أن نشير إلى انتقال المدرسة الكوفية إلى النجف الأشرف،حيث تعتبر فترة الامام جعفر الصادق(عليه السلام) من الفترات التي نشطت فيها الحركة الفكرية، لذلك نبغت مدرسة الكوفة وازدهرت علمياً وفكرياً، إذ شهدت أروقة جامع الكوفة حلقات درسه وكان له مناظرات مع جلّة من كبار العلماء والفقهاء(11).
ومع تأسيس مدينة بغداد سنة 145هـ في عهد الخليفة المنصور العباسي ضعفت الحركة العلمية في مدرسة الكوفة، حيث انتقل كثير من علمائها إلى بغداد في حين آثر فريق منهم الهجرة إلى النجف للتحصيل العلمي(12).
وإلى ذلك يؤكد علي الشرقي على ما ورد، قائلاً:
(فامتدت المدرسة من الكوفة إلى بغداد، وفي القرن الثاني للهجرة بدأت العمارة والتشييد لمدرسة النجف فانتقلت الكوفة إليها، وبقت الكوفة تصب في بحر النجف إلى القرن الثامن للهجرة، وعند ذلك استوعبت النجف كل ما كان في الكوفة)(13).

نشرت في العدد 52


(1) تاريخ الرسل والملوك/ الطبري ج9 ص197 حوادث سنة 144هـ.
(2) مستدركات علم رجال الحديث، علي النمازي ج1، ص353.
(3) تاريخ طبرستان/ظهير الدين المرعشي ج1، ص221 ـ 224.
(4) تاريخ النجف الأشرف، محمد حسين حرز الدين ج1، ص54 و ص95.
(5) فرحة الغري/عبد الكريم ابن طاووس ص291 ـ 293.
(6) تاريخ النجف الأشرف، ج1، ص98.
(7) تاريخ الجامعات الإسلامية الكبرى/محمد غنيمة ص49.
(8) تاريخ التربية عند الإمامية، عبد الله فياض ط ص274.
(9) رجال النجاشي/ص44.
(10) المصدر نفسه، ص68.
(11) مدرسة النجف/الحكيم/ص74.
(12) الدراسة وتاريخها في النجف/محمد بحر العلوم ج2، ص20، حديث الجامعة النجفية، ص22.
(13) الأحلام/ علي الشرقي ص120.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.