النص اللغوي يتألف من دوال متعدّدة تتحد مع بعضها لتوجيه الدلالة التي يبغيها مؤلّف، وإن الاعتماد على فهم بعض هذه الدوال دون الأخريات يؤدي إلى فهم بعض الدلالات وغياب الدلالات الأخرى، لذا فعلى المتلقي أن يجتهد في دراسة كل الدوال والوقوف عليها بعين الفاحص ليصل إلى العلة التي تكمن وراء هذا النص، بمنهج علميّ يعتمد على فهم اللغة لأنها ذات قدرة على التعميم والتجريد، مما يمكنها من مواكبة الواقع المتحرك وتحريك النص اللغوي بما يناسب حركته.
النصّ القرآني نصٌّ لغوي، لكنه من طراز خاص لأنه نصّ إلهي مبنيٌّ على أساس من المطلق، لذا فله القابلية على استيعاب حركة الواقع غير أنه قد تنزل آيةٌ أو مجموعة آيات في قضية معينة فيظن من لا دراية له أن هذه القضية ستحكم هذا النص وتقيد دلالته ضمن حدود القضية.
نعم إنّ الدلالة المقيّدة للنص بسبب من أمر نزولها تبقى دلالة مضيئة غير أن دلالاتٍ أوسع منها يتضمنها النصّ بسبب ما أنتجه السياق الذي ورد فيه، وتفاعل دلالات الألفاظ مع بعضها التي ولّدت الدلالة الكبرى، وغيرها من الدوال المنتجة للدلالات بعمومها، فيفتح النص القرآني في دلالته بين ما أقره خصوص السبب (سبب النزول) ودلالة الألفاظ والسياق في عموم الدلالة له، فعليه سيكون سباق الدلالة في المساحة الواقعة بين خصوص السبب وعموم اللفظ.
ففي قوله تعالى: (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً) (النساء: 22) قد اختلف العلماء في حكم هذه الآية المباركة والمعنى الدال عليه النص، بين أن يكون النهي عن منكوحات الأب أو النهي عن طبيعة نكاح الآباء بشكل عام، فذهب ابن عباس وقتادة وعطاء وغيرهم إلى أن التحريم المشار إليه ما كان يفعله أهل الجاهلية من نكاح امرأة الأب، كانوا يسمّونه (نكاح المقت)، وكان المولود عليه يقال له المقتي(1)
وعليه فإن ما في قوله سبحانه: (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم) موصولة، بمعنى منكوحات الآباء من النساء، ويعزز هذا الرأي سبب نزولها، وذلك أنه لمّا مات أبو قيس بن الأسلت، وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت: إني أعدّك ولداً وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله(صلى الله عليه وآله) فأستأمره، فأتته فأخبرته، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ارجعي إلى بيتك، فأنزل هذا الآية(2).
أمّا من ذهب إلى النهي عن طبيعة نكاح الآباء بشكل عام، فإنه عدّ (ما) مصدرية والتقدير: ولا تنكحوا نكاح آبائكم، أي مثل نكاح آبائكم، وعليه فسيكون كل نكاح لهم قبل الإسلام فاسداً، وهو اختيار الطبري، وعلل هذا بأنه لو أراد حلائل الآباء لقال: لا تنكحوا مَنْ نكح آباؤكم، على أصل أن (مَنْ) تفيد الجنس(3).
فاختلاف العلماء هنا كائن في المساحة الواقعة بين خصوص المعنى المتمثل بسبب النزول المفضي إلى تحريم نكاح زوجة الأب، وبين عموم المعنى المتمثل بعموم اللفظ المؤلّف للنص والسياق العام الذي يفضي إلى تحريم مجمل الأنكحة قبل نزول الآية.
لكناّ لا يمكن أن نتمسك بعموم اللفظ ونهدر خصوص السبب، أو أن نتمسك بخصوص السبب ونهدر عموم اللفظ، وذلك أنّ النص هو نتاج الواقع الذي ولد فيه، فلا يمكن تجاهله أبداً وحصر الدلالة بجزئيات المعنى المتمثلة بخصوص السبب، وعند ذلك لا فائدة من مجمل دلالات الألفاظ، ونستطيع أن نقول أنّ هناك هدراً كبيراً في دلالات الألفاظ المستعملة في النص لسبب من الاقتصار على دلالة سبب النزول، وهذا مما قد يذهب بالبعض إلى القول أن ّ النص القرآني قد استعمل ألفاظاً ذات دلالات كبيرة لمعانٍ قليلة، وهذا شرخ في إعجاز القرآن، فضلاً عن القول بعدم قدرة لغة القرآن على استيعاب الجزئيات بألفاظ مناسبة لها، وهذا خلاف الواقع.
كذلك لا يمكن تجاوز الدلالات في عموم اللفظ المؤلّف للنص، وذلك أن النص القرآني نصٌّ متسع ذو دلالات كبرى لا يمكن تحديدها بالجزئيات، بل إنّ الجزئيات المعلنة من سبب النزول قد تكون جزءاً من أجزاء الدلالة التي يتوخّاها القرآن الكريم فضمنها فيه، إذ إن في النص القرآني دوالاً ونظُماً دلالية ثانوية داخل النظام العام للنص، فمن هذه الدوال تتجاوز إطار الوقائع الجزئية، ونجد دوال أخرى تشير إلى الوقائع الجزئية ولا تتجاوزها وهناك دوال خاصة وأخرى عامة، فهذه الدوال تمكن العصور المختلفة من قراءة النصوص واكتشاف دلالات مغايرة فيها(4)
أو جديدة، فكل هذه الدوال تتفاعل مع بعضها داخل الألفاظ، فعندما تتهيأ الظروف المناسبة لانطلاقها من نحو البيئة الثقافية والقيم الاجتماعية والظروف السياسية وغيرها فإنها ستنطلق من جديد لتظهر أكثر بريقاً وأبعد مدى وأعمق غوراً (من هنا يكون الوقوف عند أحد جانبي الدلالة في النص خطراً على مستوى النصوص الدلالية من حيث إنه يؤدي إلى تعارضات داخل النص لا يمكن حلّها، وهي تعارضات ناشئة عن إهدار «الخصوص» لحساب «العموم»)(5)، بل ينبغي وضع الحدود لمقدار تمدّد الخصوص ضمن إطار العموم الشامل، لتحدد العموم على حدود الخصوص.
لذا فإن دلالة (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء) لا يمكن قصرها على النهي عن زواج الابن لزوجة الأب، بل هذه جزئية من مجمل الدلالة الكلية في النص، لأن النهي مطلق عن الأنكحة في الجاهلية لأن أغلبها كان غير خاضع لنظام يحافظ على طهارة المولد والنسب والحقوق بين الأزواج والأبناء.
أقول أغلبها لأن هناك نكاحاً في الجاهلية قد أقرّه الإسلام وعمل به بعد أن هذّبه وهو ما كان مألوفاً عند أغلب الناس وهو نكاح البعولة(6) المبني على أساس الرضا والقبول من الطرفين وتحديد الصداق والإعلان على رؤوس الناس من خلال الخطبة، من نحو زواج رسول الله(صلى الله عليه وآله) من خديجة بنت خويلد(رضي الله عنها) قبل الإسلام فهو شاهد على ذلك(7)، لذا فإن قوله سبحانه: (إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) يعني إلاّ النكاح المبني على الصحة وهو زواج البعولة فإنه مستثنى من النهي لأنه زواج ليس بفاسد.
ومما يؤيد ذلك أن هذه الجملة القرآنية قد جاءت في موضع المعترض للسياق العام للآية المخاطِب قطع السياق العام بها المفضي إلى التحريم، وهذا من أساليب القرآن الكريم البليغة لأنه أراد أن ينبّه على حالة طيبة قائمة قبالة حالةٍ فاسدة لا خير فيها، ويؤنّب عليها بذكر الطيّبة.
وهناك أمر آخر هو أنّ هذا النكاح لم يكن قريب العهد من الإسلام بل كان قديماً ، ثم لو كان هذا الذي وقع فيما سلف من صنف نكاح الآباء المذكورين لاقترن بهم، بيد أنه جاء على سبيل الإطلاق بالزمن الماضي الذي عبّر عنه بالزمن السالف أي المتقدم على زمان الجاهلية، لأن عصر النبوة كان ملاصقاً له، وإن كثيراً من عادات الجاهلية وقيمها ما زالت عاملة في صدر الإسلام.
وقد يقال إن استعمال (قد) يعمل على تقريب زمن الماضي إلى الحال فتكون دلالة زمن (قَدْ سَلَفَ) هو الزمن الماضي القريب من الحال، من نحو قولنا: قد قامت الصلاة، نداء لمنتظري الصلاة في أن وقتها قد حل، أو كقولهم: قد ركب الأمير، لمن ينتظر ركوبه، وفي التنزيل: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ...)(المجادلة: 1)، لأنها تتوقع إجابة الله سبحانه لدعائها(8)،
وهذا الأمر واقع لأن قرينة الحالية نستمدها من السياق الدال عليها، إذ نتلمس حالة الانتظار لوقوع فعل، فعندما وقع أخبر عنه بعد وقوعه مباشرة، وأما مجيء الفعل ماضياً إنما كان لإكساب الحدث صفة اليقين، لكنّ في قوله: (إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) لا نتلمس فيه حالة الانتظار لوقوع الحدث حتى نترقّبه فيُخبر عنه بعد وقوعه مباشرة، بل إنّ حدث الزواج الصحيح واقع أصلاً عند أغلب العرب ومعروف لديهم، فعبر عن زمن وقوعه بأنه قد سلف، أي المتقدم فيهم.
ولأجل تأكيد التقدم بالزمن استعمل (قد)، أي إنها دخلت لتوكيد السلفية لا باعتبار القرب من الحال، وهذا مما يبعد كون (ما) في قوله: (مَا نَكَحَ) تدل على الموصولية بل على المصدرية.
فضلاً عن ذلك أنّ الاستثناء هنا جاء متصلاً لأن المستثنى بعضٌ من المستثنى منه كقولنا: جاء الطلاب إلاّ خالداً، فخالدٌ مستثنى متّصل لأنه بعض الطلاب.
ونكاح البعولة واحدٌ من أنكحة العرب، غير أنه استثني من هذه الأنكحة لصحته وعدم فساده، ولو قلنا إنه استثناءٌ منقطع لتحتم علينا القول إن نكاح البعولة ليس جزءاً من أنكحة العرب، وهذا خلاف المعلوم، لأن الاستثناء المنقطع هو ما كان فيه المستثنى ليس بعضاً من المستثنى منه، كقوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ) (الحجر: 30، 31) ، فإبليس ليس من الملائكة، بل هو من الجن(9) فدلّ بذلك أن (ما) مصدرية أيضاً وليست موصولة.
وأما من قال إن (إلاّ) جاء بمعنى سوى(10)، فهذا لا يصحّ لكون (سوى) ظرف بمعنى (مكان) فإذا قلت جاء القوم سواك كان المعنى جاء القوم مكانك وبدلك(11)
وهذا المعنى لا يحتمل في الآية، لكنها من الممكن أن تحمل معنى المغايرة وزيادة، أي مغايرة المستثنى عن المستثنى منه بمعنى (غير)، وهذا حاصل، إذ إن نكاح البعولة مغاير لباقي الأنكحة، فتكون (إلاّ) قد حملت معنى استثناء هذا النكاح من أنكحة العرب ومغايرته صفاتها، فضلاً عن أصل مغايرة (إلاّ) المبنية على نفي أنكحة العرب وإثبات نكاح البعولة.
فهنا يكون القرآن الكريم قد أضفى دلالة أخرى على (إلا) من خلال السياق الحاكم للنص في مغايرة الوصفية فضلاً عن دلالة الأصل لها فأكّد بذلك أنّ (ما) مصدرية.
ثم قال تعالى: (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً).
فبعد أن أوضحنا أن قوله سبحانه (إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) جاء معترضاً للسياق العام، فيكون التقدير: ولا تنكحوا نكاح آبائكم إنه كان فاحشة …، ولو كانت (ما) بمعنى منكوحات لاختلف المعنى، إذ يكون التقدير ولا تنكحوا منكوحات آبائكم إن نكاحهنّ كان فاحشة، وفي هذا زيادة في تقدير المحذوف وتحميل للنص ما لا يتسيغه، فضلاً عن تضييق المعنى، والقرآن الكريم مبنيٌّ على الاتساع في الدلالة.
وأما قوله (كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً)، فقد اختلف العلماء في (كان)، (فقال محمد بن يزيد المبرّد: يجوز أن تكون زائدة، ويكون المعنى إنه فاحشة ومقت، وأنشد في ذلك قول الشاعر: فكيف إذا حللت بدار قومٍ وجـيرانٍ لنـا كانوا كـرام
وخطّأه، الزجاج في ذلك وقال: لو كانت زائدة في الآية لم يُنصب خبرها، والدليل على ذلك هذا البيت الذي أنشده فإن (كان) لما كانت زائدة لم تعمل فقال: وجيرانِ كانوا لنا كرامِ، ولم يَقُل كرامًا)(12).
والحال أن (كان) لها دلالة كبيرة في الآية لأنها تمثل استغراق الزمن الماضي في وصف الأنكحة المحرّمة بالفاحشة والمقت، لأن (كان) فعلٌ خالٍ من الحدث ودال على المعنى من الزمان، فكأن هذا الفعل يريد أن يستشير إلى أن هذه الأنكحة المحرّمة موصوفة بالفحش والمقت من القِدَم، فجعل تقادم العهد وصفاً لها للدلالة على شدة إنكارها وتحريمها، وجعل قبالتها ما استثني من الأنكحة المتمثل بنكاح البعولة الصحيح، فوصفه بكونه فيما سلف، ليتوازى قِدم العهد لإنكار الأنكحة المحرّمة مع ما استثني منها فيما قد سلف.
لذا فإن دلالة خصوص السبب المتمثل بسبب النزول لهذه الآية لم يضمحل في خضم عموم دلالة الألفاظ المؤلِّفة لنص الآية المبني على الاتساع. بل أصبح جزءاً مهماً في ضمن الدلالة العامة للآية المباركة، فالنص القرآني، المؤَلَّف من مجموع الدوال المفضية إلى دلالتها لم تهمل أيّ شيء من دلالات أسباب النزول فضلاً عن الدلالات الأخرى التي يتوخّاها واضع النصّ المبارك سبحانه .
نشرت في العدد 51
(1) ظ: التبيان الطوسي: 3/145 الكشاف/ الزمخشري: 1/ 524.
(2) ظ: مجمع البيان/ الطبرسي: م2/ 26ـ 27 لباب النقول في أسباب النزول/ السيوطي:55.
(3) ظ:التبيان / الطوسي:3/154.
(4) ظ: مفهوم النص/ د. نصر حامد أبو زيد: 106.
(5) م. ن:107.
(6) ظ: المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام/ د. جواد علي: 5/ 533.
(7) ظ: نهاية الأرب/ النويري: 16/ 97ـ 98.
(8) ظ: المغني/ ابن هشام: 1/347.
(9) ظ: معاني النحو/ د. فاضل السامرائي: 2/213.
(10) ظ: حقائق التأويل/ الشريف الرضي: 318.
(11) ظ: معاني النحو/ د. فاضل السامرائي: 2/230.
(12) حقائق التأويل الشريف الرضي: 320.