Take a fresh look at your lifestyle.

الأدب النجفي وأثره في الحفاظ على اللغة العربية

0 702

       لا ريب في أن لتاريخ النجف الأشرف أثرًا واضحًا في صون لغة الضاد وحمايتها خاصة في القرنين الماضيين الذين شهدا سياسات تهميش اللغة من جراء الاحتلال العثماني مثلما شهدا تنامي الحركة العلمية بمختلف أشكالها الدينية والأدبية.
النجف هضبة عالية يحيطها من جهة الغرب البحر ومن جهة الشرق البر، وتقع في الوسط الغربي لحوض الفرات، وتعني في اللغة: التل أو شبهه، قال الزبيدي في تاج العروس: (النجف والنجفة مسناة بظاهر الكوفة. تمنع ماء السيل أن يعلو مقابرها ومنازلها،.. والنجف قرية على باب الكوفة، قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
ما إن رأى الناسُ في سهلٍ وفي جبل
أصفى هواءً ولا أغذى من النجفِ
كأن تربته مسكٌ يفوح به
أو عنبر دافه العطارُ في صدفِ
.. وهي قشور الصليان)(1).
وتبدي الدراساتُ العلميةُ المحققة أن هذه المدينة مرسى سفينة نوح عليه السلام. وهي بعد مدينة عربية عراقية ضاربة جذورها في تاريخ الحضارة الإنسانية يمكن تجلّيه من أسمائها المتعددة التي تحكي قصة ماض مزدهر لهذه المدينة، فاسمها القديم بانقيا – كما ذكر الحموي في معجم البلدان ج2: وتعني المائة نعجة في النبطية – وكان إبراهيم(عليه السلام) في مسيره نحو بناء بيت الله الحرام قد مر بأهلها، فأمنوا ليلة مبيته عندهم، وكان يزلزل بهم كل ليلة إلا ليلة مبيت النبي إبراهيم بينهم، فطلبوا منه المكوث عندهم، فرفض واشتراها بمائة شاة والشاة تعني( نقيا) و(با) تعني المائة في لغتهم، واشترط على أهلها أن يتخذوها دار ضيافة للعابرين المسافرين.
ومن أسمائها الذكوات البيض وخد العذراء، وذكر أنها كانت قبل الإسلام تعد ضمن حضارة الحيرة، ومكانًا لدور العبادة، فانتشرت فيها الأديرة وأسماؤها محفورة في ذاكرة تاريخها (وأهلها في ذلك العهد عند شيوع النصرانية نصارى من النسطورية، وهم من العرب الأقحاح، ولم تزل بعض الأديرة موجودة فيه حتى بعد انتشار الإسلام وعلو شوكته منها ما هو في النجف ومنها ما هو مشرف عليها كدير مارت مريم وهو دير قديم مشرف على النجف)، وقد تغنى بتلك الأديرة الشعراء قديمًا وحديثًا  كقول الثرواني وهو شاعر ماجن لازم أديرة النصارى في الحيرة ووصف أعيادهم ورهبانهم:
بمارت مريم الكبرى
وظل فنائها فقف
فقصر أبي الخصيب المشرف
الموفي على النجف
فأكناف الخورنق والسـ
ـدير ملاعب السلف
إلى النخل المكمم
والحمائم فوقه الهتف(2)
وكقول أبي نؤاس واصفًا دير حنة من بعض أديرة الحيرة التي يقصدها المجان بقوله:
يا دير حنة من ذات الأكيراح
من يصح عنك فإني لست بالصاحي(3)
ومن الشعراء المحدثين قول الشيخ الوائلي متغنيًا بالنجف:
وللدوالي بأرباض السدير بها
طيف من ابن عدي أو سرى دعد
ودير هند وقد مرت كواعبه
تمشي إلى الكرح في دل وفي أود
حيث الشعانين تستهدي مواكبه
طريقها بنهود للسما نهد(4)
وحين جاء الإسلام أصبحت هذه المدينة مكانًا لمدافن الموتى فكانت تسمى جبانة الكوفة أو ظهر الكوفة، وكتب تاريخها من جديد حين اتخذ الإمام علي(عليه السلام)
الكوفة عاصمة لخلافته حيث أنصاره المخلصون منها على الرغم من شدة الفتن المحدقة بأهلها، وقد سجلت تاريخًا متذبذبًا في ذلك كله.
ولا ريب في أن الكوفة بعد ذلك أصبحت من الأمصار الإسلامية المهمة في مختلف العلوم العربية والفقهية والعلوم التجريبية كالكيمياء، وظهر منها علماء كبار رفدوا الإنسانية بشكل عام والإسلام بشكل خاص فيما ذكرنا من مختلف العلوم. ومنذ وصية الإمام علي(عليه السلام) بأن يتخذ من أرض النجف مدفنًا سريًا له عام (40) للهجرة حتى أصبحت أرضًا لمقامات الأئمة من ولده(عليه السلام) كالإمام علي بن الحسين والإمام الباقر والإمام الصادق(عليهم السلام)، حتى إذا اكتشف قبر الإمام علي(عليه السلام) زمن هارون الرشيد في الربع الأخير من القرن الثاني أمست لهذه البقعة دالة عظيمة لاذ بجوارها الناس فاتخذوها مسكنًا ومدفنًا تقربًا واحتسابًا، وفي القرن الرابع الهجري هاجر إليها الشيخ الطوسي(ت460هـ) شيخ الطائفة من جراء الفتن الطائفية في بغداد فجعل منها مقرًا لبث علوم الفقه الجعفري، ومنذ ذلك التاريخ والنجف مقر دائم لنشر علوم أهل البيت(عليهم السلام) وفقهه أصبح من المنارات العلمية التي وهبها الله تعالى لهذه البقعة المباركة. وهكذا أعطيت زخمًا جديدًا من الحياة تمثل الأول بقبر أمير المؤمنين(عليه السلام)، والثاني بوجود المنبر الدائم لتدريس علم أهل البيت ونشر ثقافتهم وسمي بالحوزة العلمية الشريفة. والنجف اليوم اكتسبت لذلك بعدًا عالميًا لافتًا للأنظار، بسبب بعدها عن التطرف والتعصب الأعمى، مع شدة محافظتها على الثوابت الإسلامية المتمثلة بفقه أهل البيت(عليهم السلام) وسيرتهم المحمودة لدى جميع المسلمين، فكان الخطاب الديني المتمثل بالمراجع الدينية العليا يتسم دائمًا بالوفاق الإسلامي وقيم التسامح وقبول الرأي الآخر ويرحب بالحوار العلمي الهادف دائمًا من الأديان والمذاهب الأخرى مهما بدا متقاطعًا مع الثابت النجفي، وهو بعد أي الخطاب الديني يتفاعل كثيرًا مع هموم العالم الإسلامي وأحداثه وفي ذلك كله شهادات كثيرة وفتاوى مسجلة.
إن مقومات عالمية النجف تتضح، إذن، مما امتلكت من شواهد مادية ومعنوية حية يمكن حصرها بالنقاط الآتية:
1- المرقد العلوي الطاهر المقدس لجميع المسلمين وغير المسلمين.
2- وجود مقر الحوزة العلمية والمرجعية العليا فيها لطائفة المسلمين الشيعة.
3- مقبرة وادي السلام وهي الأضخم والأقدم في العالم، وقد ضمت الملوك والأمراء من شتى العصور ومن مختلف بقاع الدنيا.
4- ولادة القامات الشامخة في مجال الفقه والأدب واللغة وعلى طول تاريخها قديمًا وحديثًا وانتشارهم في بقاع الأرض بشكل مؤثر وفاعل.
5- تفشي قيم الأصالة والتسامح في الخطاب الديني الملتزم لدى علماء هذه المدينة وأبنائها.
6- ديمومة السياحة الدينية فيها يجعلها مقصد الكثيرين من الناس من مختلف بلدان العالم.
ارتبط تاريخ النجف بمعلمين رئيسين هما: المرقد العلوي الطاهر.
والثاني تبع للأول وهو: مركز الدراسات الدينية أو الحوزة العلمية الشريفة، وهو تبع لأنه أصبح – بسبب احتضان تربة النجف لقبر أمير المؤمنين(عليه السلام)-
مركزًا لدراسة العلوم الإسلامية لاسيما علوم أهل البيت وبثها في أنحاء العالم الإسلامي، منذ عهد الشيخ الطوسي في القرن الخامس الهجري وإلى هذا اليوم. والعلوم الدينية المختلفة مثل الفقه والأصول وعلوم القرآن والدراسات الأدبية وعلوم العربية كالصرف والنحو والبلاغة كلها تدرس بالعربية الفصحى درسًا وأداءً وإملاءً وكتابةً، في مدارس علمية مبثوثة هنا وهناك في الأنحاء المتفرقة للمدينة القديمة المسورة، فضلًا عن البيوتات الخاصة التي تدرس فيها تلك العلوم. ولذلك النجف القديمة أشبه بجامعة علمية كبيرة تبدو عليها هيبة العلم منذ ساعات الصباح الأولى، إذ يلفها صمت لا يسمع فيه غير صوت الدرس العلمي. ومن هنا كثرت في هذه المدينة الصغيرة المكتبات والجلسات العلمية والأدبية، حتى أصبحت منبعًا ثرًا للعلماء في الفقه والأصول والأدب والفلسفة وعلم الكلام.
وكان حظ الأدب والشعر كبيرًا، إذ لم تكن الحوزة العلمية مقصورة على الفقه وحده، فقد كان زعماؤها قامات رفيعة في فن الشعر، مثل السيد مهدي بحر العلوم والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والقائمة تطول من الرجال الأعلام الذين حفظوا لنا فنون العربية الرفيعة في وقت كان للترك وسياستهم في تهميش العربية على أشد مستوياتها. كانت النجف تغلي بالثقافة، لاسيما في عصر السيد مهدي بحر العلوم في القرن الثاني عشر الهجري الذي حفل بعلماء كانت لهم بصمة واضحة على هذه المدينة المقدسة من جهتين:
الأولى: من جهة الكثيرة المميز للعلماء والمفكرين والشعراء، والثانية: من جهة ما تركوا من آثار علمية سجلت فنون العلم المختلفة. ومن هؤلاء الأفذاذ المميزين في هذا الميدان تلميذ السيد بحر العلوم الشاعر السيد صادق الفحام الأعرجي الحسيني والطبقة المشهورة من العلماء والشعراء، ولشدة ولعهم بالشعر وطرائف الأدب سميت بعض مطارحاتهم بمعركة الخميس الأدبية المشهورة في النجف، لاسيما معركة الخميس الثانية الأشهر والأكثر صيتًا، وأعضاؤها كما ذكرهم السيد بحر العلوم في (الفوائد الرجالية) هم: السيد مهدي بحر العلوم وفريق من تلاميذه وهم: الشيخ جعفر كاشف الغطاء والشيخ حسين نجف والسيد صادق الفحام والسيد أحمد العطار والشيخ علي زين الدين والشيخ محمد رضا النحوي والشيخ محمد علي الأعسم والحاج محمد رضا الأزري وملا يوسف الأزري والسيد إبراهيم العطار والشيخ محمد بن يوسف الجامعي والسيد أحمد القزويني والشيخ مسلم بن عقيل الجصاني والسيد محمد زيني.
ولو انتقلنا إلى العصر الحديث وظهور طبقة جديدة من الشعراء المؤثرين من طبقة المثقفين وعلماء الدين لرأينا تواصلًا رائعًا لهذه المدينة في كثرة شعرائها وعمق أثرهم في البيئة الشعرية محليًا وإقليميًا وعالميًا، فمن هذه المدينة نبغ الشبيبي والصافي النجفي والشيخ عبد المنعم الفرطوسي والسيد رضا الهندي وأخيه السيد باقر الهندي والاهم من هؤلاء السيد الحبوبي والشيخ جعفر الشرقي والشيخ محمد رضا الشبيبي والشيخ محمد جواد الشبيبي والشيخ الوائلي والسيد مصطفى جمال الدين والدكتور عبد المهدي مطر والدكتور محمد حسين الصغير وغيرهم الكثير مما يصعب علينا في هذا الملخص ذكرهم أو إحصاؤهم.
غير أن محمد مهدي الجواهري شاعر لا يشق له غبار في فن القول، فهو يعد متنبي العصر الحديث بحق. وظاهرة الجواهري ليست عابرة أو وليدة الصدفة بل ينبغي الوقوف عليها ودراستها وبيان أسباب نبوغ مثل هذه القامات التي لا تصدر عن غير هذه البيئة. وما زالت هذه المدينة إلى هذا اليوم ولودًا للمبدعين من قالة الكلام وفنونه، ولا ريب في أن لذلك كله أثره الواضح في قيادة المجتمع والتأثر بهم من جهة النظم بالقريض وإعلاء شأن الفصيح، ومن هنا كان الشعر العربي صاحب السيادة في تلك القرون الماضية على الرغم من العامية المتفشية بين الخاصة والعامة، ولكن الساحة الشعرية كانت للفصيح قبل الشعر العامي الشعبي، على عكس الحالة السائدة اليوم من انحسار الشعر العربي الفصيح وشيوع الشعر الشعبي وسيادته في كل وسيلة إعلامية وتلك ظاهرة خطرة على حياة العربية وفصاحتها.
ومن هنا تبرز أهمية الدعوة إلى ضرورة استرجاع سيادة الشعر الفصيح في الساحة الشعرية لعمق أثره في الالتفات إلى (العربية) وصيانتها خاصة على أيدي كبار رجال العلم في الحوزة الدينية لأنه بصوتهم يتأثر المجتمع أكثر .

نشرت في العدد 51


(1) تاج العروس / الزبيدي / ج12 ص491.
(2) معجم البلدان / الحموي /ج2.
(3) نفس المصدر ج1.
(4) ديوان الوائلي:1/ 102.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.