Take a fresh look at your lifestyle.

الإمام الجواد(عليه السلام) ومحنة الشيعة في بدء إمامته

0 622

محمد جعفر الطباطبائي

 

       في السنة الخامسة والتسعين بعد المائة للهجرة النبوية.. ولد إمامنا أبو جعفر الجواد(عليه السلام). ونشأ تحت كنف والده الإمام الرضا(عليه السلام) الذي كان يعيش تحت وطأة تلك الظروف الصعبة، في قبول ذلك الواقع المرير والحيلة الماكرة من المأمون في تسليمه ولاية العهد ـ على زعمه ـ للإمام الرضا(عليه السلام).
لقد كان الإمام(عليه السلام) يعلم أن تلك الولاية المزعومة ما هي إلا حيلة خبيثة من المأمون لكي يقوم بتهدئة تلك الأجواء الخانقة والمتوترة التي كان يخشى على ملكه منها.
ويهدد الإمام(عليه السلام) على ولاية العهد.. ويقبل(عليه السلام) ـ على كره ـ تلك المؤامرة.. شريطة أن لا يعزل ولا يولّي ولا يقوم بأي عمل.
وما إن صفا الجوّ للمأمون، وهدأت تلك الأوضاع، نكبت شيعة أهل البيت(عليهم السلام) بتلك الفاجعة العظمى وانتهاك حرمة الإسلام بسمِّ الإمام الرضا(عليه السلام) واستشهاده على يد المأمون، رغم زعمه بأنه لم يقم بأي جرم، وتظاهره بالحزن على الإمام(عليه السلام) ولبس السواد على تلك المصيبة.
ويشيع الإمام الرضا(عليه السلام) بإجلال واحترام أمام أنظار شيعته، ويسجى في لحده.

حيرة الشيعة في ذلك الظرف العصيب
لقد كانت أعين الشيعة متقلبة، فهم في حزنهم كائنون، فها هو إمامهم وسيدهم وخليفة نبيهم قد رحل إلى عالم الملكوت، ليخلّف أبا جعفر(عليه السلام) ولم يتجاوز الثامنة، فكيف؟.. ومن؟.. ومتى؟
لقد كان أمراً صعباً، فهم يواجهون (أول مخاض عقائدي عسير جداً، وفريد من نوعه، ويتعرضون لزلزال عقائدي عنيف من داخل أنفسهم، يزلزل وجودهم، ويهز ضمائرهم من الأعماق… ووضوح قضية الإمامة وشؤونها وقطعيتها لدى الشيعة لا يعني أن لا يتعرض عامة الناس والضعفاء منهم لهذا الزلزال الخطير)(1).
أجل.. إنه امتحان للشيعة .. بل هي محنة!، فمن سيكون خليفة إمامهم؟! فلقد تعلموا وتفقهوا على أنه يجب في كل زمن إمام، وأن الأرض لا تخلو من حجة.. فمن هو هذا الإمام؟! أهو أبو جعفر الجواد(عليه السلام) وهو لم يتجاوز الثامنة أم شخص آخر؟ ومن هذا الشخص؟ أيمكن أن يكون علي بن جعفر ـ مثلاً ـ؟ فهو عم الرضا(عليه السلام)، أم.. من؟
قال ابن رستم: (ولما بلغ عمره ست سنين وشهور، قتل المأمون أباه، وبقيت الطائفة في حيرة، واختلفت الكلمة بين الناس، واستُصغِرَ سن أبي جعفر، وتحيّر الشيعة في سائر الأمصار)(2).

الإمام الجواد في مجالس الشيعة
صمت رهيب يسود تلك المجالس التي طالما كانت عامرة بالتحدث والرواية عن الرضا وأبيه وأجداده(عليه السلام).. فلنرى كيف كانت حالهم..
يحدثنا التاريخ أنه لما قبض الرضا(عليه السلام) كان سن أبي جعفر نحو سبع سنين، فاختلفت الكلمة بين الناس ببغداد، وفي الأمصار. واجتمع الريان بن الصلت، وصفوان بن يحيى، ومحمد بن حكيم، وعبد الرحمن بن الحجاج، ويونس بن عبد الرحمن، وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبد الرحمن بن الحجاج في (بركة زلزل) يبكون، ويتوجعون من المصيبة.
فقال لهم يونس بن عبد الرحمن: دعوا البكاء! من لهذا الأمر؟! وإلى من نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا؟ يعني: أبا جعفر(عليه السلام).
فقام إليه الريان بن الصلت، ووضع يده في حلقه، ولم يزل يلطمه، ويقول له: أنت تظهر الإيمان لنا، وتبطن الشك والشرك، إن كان أمره من الله، فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ وقوته، وإن لم يكن من عند الله فلو عمر ألف سنة فهو واحد من الناس، هذا مما ينبغي أن يفكر فيه؟!
فأقبلت العصابة عليه تعذله وتوبّخه. وكان وقت الموسم، فاجتمع من فقهاء بغداد والأمصار، وعلمائهم ثمانون رجلاً، فخرجوا إلى الحج، وقصدوا المدينة، ليشاهدوا أبا جعفر فلما وافوا(3)..
تقول رواية المناقب والبحار: (فجئنا ودخلنا القصر، فإذا الناس فيه متكابسون، فجلسنا معهم، إذ خرج علينا عبد الله بن موسى، شيخ. فقال الناس: هذا صاحبنا.
فقال الفقهاء: قد روينا عن أبي جعفر وأبي عبد الله(عليهما السلام) أنه لا تجتمع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين(عليهما السلام) فليس هذا صاحبنا. فجاء حتى جلس في صدر المجلس. فقال رجل: ما تقول أعزك الله في رجل أتى حمارة؟ فقال: تقطع يده ويضرب الحد وينفى من الأرض سنة، ثم قام إليه آخر فقال: ما تقول آجرك الله في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟ قال: بانت منه بصدر الجوزاء والنسر الطائر والنسر الواقع.
فتحيرنا في جرأته على الخطأ إذ خرج علينا أبو جعفر(عليه السلام) وهو ابن ثماني سنين، فقمنا إليه فسلم على الناس، وقام عبد الله بن موسى من مجلسه فجلس بين يديه وجلس أبو جعفر(عليه السلام) في صدر المجلس، ثم قال: سلوا رحمكم الله..
فقام إليه الرجل الأول وقال: ما تقول أصلحك الله في رجل أتى حمارة؟
قال: يضرب دون الحد ويغرم ثمنها ويحرم ظهرها ونتاجها وتخرج إلى البرية حتى تأتي عليها منيتها، سبع أكلها ذئب أكلها..
ثم قال بعد كلام: يا هذا ذاك الرجل ينبش عن ميتة يسرق كفنها، ويفجر بها، ويوجب عليه القطع بالسرق والحد بالزنا والنفي إذا كان عزباً، فلو كان محصناً لوجب عليه القتل والرجم.
فقال الرجل الثاني: يا بن رسول الله(صلى الله عليه وآله)
ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟
قال : تقرأ القرآن؟
قال: نعم.
قال اقرأ سورة الطلاق إلى قوله (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ) يا هذا لا طلاق إلا بخمس: شهادة شاهدين عدلين، في طهر، من غير جماع، بإرادة وعزم. ثم قال بعد كلام: يا هذا هل ترى في القرآن عدد نجوم السماء؟ قال : لا)(4).
أما في رواية عيون المعجزات فيقول الراوي: (فورد على الشيعة ما حيرهم وغمهم، واضطربت الفقهاء، وقاموا، وهموا بالانصراف. وقالوا: لو كان أبو جعفر يكمل جواب المسائل لما كان من عبد الله ما كان، من الجواب بغير الواجب)(5).
وعلى كل حال فتلك هي حال الشيعة في ما دهاهم من ذلك الأمر الخطير الذي واجههم، حيث استطاعوا بفضل الله أن يعرفوا طريق الهداية والصواب بسبب القواعد الثابتة التي أصّلها أئمة الهدى سابقاً، التي تزيل كل شبهة، وتقطع كل عذر.

الثلاثون ألف مسألة
واستمرت الشيعة بطرح الأسئلة.. والإمام يجيب عنها، حتى انقطع العذر بعد ذلك وتيقنوا من إمامهم. روى علي بن إبراهيم عن أبيه قال: استأذن على أبي جعفر(عليه السلام) قوم من أهل النواحي فأذن لهم فدخلوا فسألوه في مجلس واحد ثلاثين ألف مسألة فأجاب وله عشر سنين. وقد ورد هذا الخبر بطرق متعددة، وأورده ثقة الإسلام في الكافي وابن شهراشوب في المناقب والإربلي في كشف الغمة(6).
و(لا ريب أن الجواب عن كل مسألة بيتاً واحداً أعني خمسين حرفاً لكان أكثر من ثلاث ختمات للقرآن، فكيف يمكن ذلك في مجلس واحد؟ ولو قيل: إن الإمام(عليه السلام)
كان يجيبهم بلا ونعم فمن السؤال ما لا يمكن الاكتفاء به)(7). وقد ذكرت أوجه عديدة لهذا المعنى لا بأس بالرجوع إليها.
يقول السيد جعفر مرتضى العاملي: (إن اختصاص الإمام الجواد(عليه السلام) ـ على صغر سنه ـ من بين سائر الأئمة(عليهم السلام) بهذه المسائل الكثيرة، إنما يعبر عن أن ثمة تعمداً خاصاً بالنسبة إلى هذا الإمام بالذات لخصوصية دعتهم إلى ذلك بلا ريب)(8).
وهكذا، تغلبت الشيعة على محنتها، إذ كان الإمام الجواد(عليه السلام) أول من يتولى شؤون الإمامة وهو ابن ثماني سنين. وقد مهّد في ذلك للإمام الهادي(عليه السلام) من بعده الذي كان ذا ست سنوات، ولم ينصدم الشيعة بهذا الأمر. ثم يأتي بعد ذلك مهدي آل محمد (عجل الله فرجه) ليكون إماماً مفترض الطاعة وعمره لا يتجاوز الخمس سنوات أيضاً.
نسأل الله أن يرزقنا الثبات على ولايتهم، والبراءة من أعدائهم. والحمد لله رب العالمين.

نشرت في العدد 51


(1) الحياة السياسية للإمام الجواد(عليه السلام): 28.
(2) دلائل الإمامة: 204
(3) نقلنا هذا من عيون المعجزات : 109 وقد انتهت.
(4) بحار الأنوار 50: 91-92، مناقب آل أبي طالب 4: 382-383.
(5) عيون المعجزات: 119-121، إثبات الوصية: 213-215، دلائل الإمامة: 204-206 و 212، والبحار 50: 99-100، مناقب آل أبي طالب 4: 382-383 عن الجلاء والشفاء، والاختصاص: 102.
(6) الكافي 1: 496، مناقب آل أبي طالب 3: 490، كشف الغمة 2: 364.
(7) مقتطفات من سيرة أهل البيت(عليهم السلام): 293
(8) الحياة السياسية للإمام الجواد(عليه السلام): 41.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.