في كتاب الله المعصوم الذي لا يأتيه الباطل، إجابة عن كل سؤال وتلبية لكل مطلب حق، نحتاج إليه جميعاً، ومواصلة عبر التاريخ العقائدي مع كل وعد قطعته السماء تصريحاً أو تلميحاً، مباشراً أو غير مباشر، وفيه بيان للمقصود وتقرير للمنهاج، ينتهي بإدراكه كل مسوغ للتناحر والخلافات بين أهل الإسلام الحقيقيين.
مهدت بعض آياته لمقدمات تؤسس لنظام اجتماعي وكيان متميز للأمة، التي أريد لها أن تكون خير أمة أخرجت للناس، منها الآية التي وضعت مقدمة للبناء المنشود لنظام محكم متكامل وأمرت النبي (صلى الله عليه وآله) بعقد اجتماع لأبناء عشيرته بنص واضح وصريح :
(وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)(الشعراء/ 124).
عند التدبر والاستبصار في هذه الآية المباركة.. تراودنا أسئلة عدة منها:
ـ ماذا أراد الله بالآية المباركة هذه…؟
ـ ولم جاء توقيتها بداية الرسالة في مكة وبصيغة الإنذار المبكر..؟
ـ ولماذا العشيرة (الأقربين) بالتخصيص، بينما الرسالة هي للناس كافة..؟
ـ هل هناك (عهد) سابق و(جعلية) خصت ذرية إبراهيم(عليه السلام) وهذا الإنذار يؤشر للخصوصية تلك؟
ـ وإذا علمنا أن من الصحابة قد صدق النبي(صلى الله عليه وآله) بعد علي (عليه السلام) من غير العشيرة.. فهل سنذهب في تأمل المطلب أكثر؟
ـ هل سيكفينا تدبّرًا في الآية قولنا قد ساوت بين بعيد وقريب دون فرق وهو أمر بديهي لا يحتاج لأي تأشير إذا توقفنا على ظاهره فقط، مما يفقدنا استنباط الكثير عن الآية باطنها وظاهرها، مضافاً لذلك تتبع مجريات الحدث الذي تلا نزولها وانعقد (المؤتمر) بأمره دون تخيير؟
ـ ثم لنتابع المجريات والمسار والتداعيات التي حصلت وما تمخض عنه المؤتمر عند انعقاده وانفضاضه حين صمت كل الحضور وتكلم (أبو لهب) و(علي (عليه السلام))، تلك المداخلة التي أفرزت مواقف حاسمة.
وعطفاً على هذا فهل سبق حصول مثل ما حصل عند المؤتمر من قرار حين دعا النبي (صلى الله عليه وآله) الناس كافة، كي نقول بقناعة عندها إن الآية تريد القول ألاّ فرق بين بعيد وقريب وحسب. وهذا ما لا يتجاوب مع الوقائع.
ليس القصد من الحدث وتناوله اجترار التاريخ، بل القصد تثبيت مبدأ وحقيقة مفيدة وهامة جداً نكاد نجد صداها وأثرها في آيات عدة غيرها عند تدبرها. هذه الحقيقة هي أن الله تعالى قد بيّن للأمة أسس مسارها وهداها إلى سبيل بناء نموذجها الأمثل والأزلي، الهادي لكل الأمم في أخذ عبرته مبكراً منذ بدايات عهد النزول، وما سيبقى سيترك للأمة لإدلاء دلوها إن عرفت كيف تحسن الاختيار بعد فهم واستيعاب، حيث المعني بثبات لتقرير هويتها الثابتة عبر الزمن والتي تحمل روح الرسالة وقدسية أهدافها وخطها ووضوح مواقفها، وذلك لن يتم إلا بعد دقة في التدبر وبالتجرد عن كل هوى وتسرع ومطامع شخصية وتصورات من بناة الفكر الجاهلي المنهدم بكل صنميته، حيث لن تخالف بذلك جوهر المطلوب وستسخر كل طاقة وضعت أمامها ووسائل تسهل عليها بلوغ مرادها الذي سيرضي الله ورسوله لتعود إلى ربها بنفس مطمئنة راضية مرضية تضمن سعادتها في الدارين. لكن الأحداث التي تلت أخذت مناحيَ شتى لأن الناس افترقت بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى فرق عدة بوقت أسرع من المتصور.
أما في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) فقد توالت الأحداث تحمل إيحاءات تواصلية، تؤكد كل منها ما سبقها من (حدث) سواء كان ذلك بنص قرآني أم بحديث أو سنة نبوية وبشكل أوضح من الشمس. إلا أنه لا نص باسم الخليفة والوصي لأنه لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله) فالإمامة لها وسيلتها وأريد للأمة أن تتفكر جيداً وتتدبر! أفليس لكل نبي وصي لا يرثه بمال وحسب بل يقلده مواريث علم النبوة ويحمّله مسؤولياتها، كيف وهذا دين الختام الكامل بكل شيء والنبي الخاتم والكتاب الذي لم يترك للأمة ما ستفتقر إليه بعده، إلا لمن يترجمه لها كما يريد الله ورسوله دون أن تقع أسيرة الفرقة وجهل العقيدة ومراهقات حب الحكم، والأمة لا تعرف أو هي مسلوبة الإرادة في الاختيار لتتفرق مع الزمن إلى مذاهب شتى ولتزيد شجرة التفرع تشتيتاً وضياعاً برغم وضوح أصل الشجرة وبقائه غضاً حيّاً واحداً لا غبار عليه.
كان على الأمة بعد تمام النعمة وكمال الدين ورضى الله للناس الإسلام ديناً، أن تستحضر لب عقولها وعقلانياتها لتضع الأمور في نصابها الذي أوصيت به وبان طريقها قبل أن تترك مصير الدين والأمة لغلمان الأجيال اللاحقة لتتفتق عبقرياتها عن بدع لا تسعى إلا لتكريس مجد الملك إلى ما لا حد له حسب طموحهم. كان عليهم اختيار الأفضل بكل بركاته وعلومه وشهادات بينهم بحقه ثم ليكونوا وزراءه المعتمدين الذي لن يضحي بقدراتهم وفضائلهم دون فسح المجال أمام أية فتنة من المتربصين.
لو حصل ذلك لكان بناء نموذج الدولة على أفضل خيار وقرار وتكامل باعتباره النموذج الذي دلتهم عليه السماء عن رب العزة والملكوت. أليس ما يستقيم مع العقل والمنطق والذكاء حين يختار الله تعالى نبياً واحداً أي قائداً هادياً واحداً كي لا تتقاطع الإرادات والتعليمات والنصوص فإنه تعالى سيختار إماماً أميناً واحداً يحمل جوهر المطلوب وليكن الجميع حوله كما أمر كتاب الله.. هكذا يفترض أن ينظر إلى الأمور بكل بساطة ودون تعقيد وليحسم الأمر كي يهتدي الجميع لمنهاج تكاملي لبناء الدولة الفتية، خاصة وهم جميعاً أقوياء أشداء رحماء بينهم، وعلماء بعد الإمامة بينما من كان ما زال حديث العهد ممن أسلم من الطلقاء وغيرهم بحاجة إلى زمن كي يعرفوا كيف أن الخير سينالهم أسوة بإخوتهم المؤمنين.
وفيما عدا ذلك فإن تركهم على ثقافة الجاهلية المتشبعين بها ستشكل أكبر خطر على مصير الدين والأمة! الأمر الذي حدث فعلاً وجاء بالويلات والقتل والدمار على أهل الإسلام لاحقاً وعن طريق الباطل.
لقد أوصلنا ذلك المسار إلى يوم نعجز فيه عن عد النماذج التي تدعي إسلاميتها دون أية معالم مقنعة في ما بينها لإثبات صواب طريقها. وما زالت مطامعنا تتعمق وهي ترى أنداداً لنا قد قطعوا طريقاً بعيدة في بناء نماذج دولهم وبنجاح منقطع مع تعددها. أما نحن فمبدعون يومياً في ابتكار وسائل القتل والتدمير لبعضنا البعض الآخر وللإنسانية كافة دون وازع من ضمير وبظلمات التفكير المقيت.
ولنعد لمؤتمر الإنذار ودلالاته ومجرياته وتداعياته لنبين الحقائق التالية:
ـ النبي (صلى الله عليه وآله) بعد أن أنذر الحضور بقوله:
(من يؤازرني على هذا الأمر يكن أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي) (الإرشاد/الشيخ المفيد ج1 ص7) قد طلب (أخاً) في العقيدة بغض النظر عن تباين أعمار الحضور وكان ذلك سراً ودلالة كشف عنها يوم تآخي الأنصار والمهاجرين.. فمن آخا النبي(صلى الله عليه وآله) فيها؟! إنه علي (عليه السلام).
ـ وفي النص دلالات مذهلة أخرى.. مهمتان سترافقان حياتهما (الأخ والوزير).. واثنتان بعد أن يفترقا صلى الله عليهما (الوصي والخليفة).. أَمَا مِن لبيب ينتبه من بين الحضور غير (علي (عليه السلام)) ليضمن حياةً أطول من حياة نبيه؟ أم إن الله جعل أكنّة على قلوب شتى كي تكون المهمة من حصة (الأسد).. هذا الذي لم يغب عن محلٍ فيه قتل لا محالة لولا إرادة السماء! فالبداية المبيت في فراش ابن عمه، والنهاية حين وضعت الحرب أوزارها.. بدر.. أحد.. الخندق.. خيبر.. حنين.. ما غاب عنها فارسها الذي حسمها لله ولدينه ولرسوله؟! وما سر نجاته من جميعها مع ثقل الجراح.. لولا.. العهد..؟!
وخلاصة ما أردنا التنبه له وبيانه:
ـ كل ما تطلبه يجيبك عنه كتاب الله لو تدبرت..
ـ إن (الآية) المباركة أرادت عقد الاجتماع لحسم أمر ما، والبحث يدور حول كل تداعياته.
ـ لعل (الآية) أرادت إعادة تذكير الجميع بوجود (عهد ووعد) ضمته آية قرآنية أخرى.
وإن كتاب الله واحد تكمل آياته بعضها البعض.
ـ وضعت الأسئلة لإثارة القارئ للتعرف إلى مغزى المطلوب من البحث.
ـ إن الله سبحانه لا يترك أمته دون بيان معالم طريقها اللاحق بكل احتياجاته.
ـ إن الفرق بين جعلية (النبوة) و(الإمامة) وفق الإشارة القرآنية زمانية الإشارة فحين تذكر (النبوة) يأتي الفعل الماضي (وجعلنا النبوة..) ومع الإمامة مثل الخلافة (إني جاعلك..) ليأتي اليوم الذي تختتم فيه (النبوة) فتعد من (الماضي) بينما تستمر (الإمامة) لاستمرار الدور!!
ـ وصفت الأسس، ورسم الطريق، وبان كل شيء، وعلى الناس إكمال البناء بعد فهم السر!
ـ اسم الإمام لم ينص عليه كما في النبوة لكن السنّة لم تبق شيئاً غامضاً..
ـ إن التأكيد على (الأقربين) وإنذارهم يحمل دلالته المتعلقة بما أفرزه (اللقاء) بما يكفي.
ـ لو اتفق الأولون على الصحيح الذي أمروا به لكانت الضمانة في قطع دابر كل فتنة وانشقاق.
ـ إن ما يمارس اليوم هو نتاج ذلك الزمن.. فهلا يقتنع المسلمون اليوم بأنه لن تقوم لهم قائمة إذا لم يتوصلوا إلى الطريق الأصوب ولو من خلال نموذج القواسم المشتركة قبل أن يخرج أحد بمذهب الآخر.
ـ إن غفلة الناس عن المطلوب أو تغافلهم هو سبب فوات فرصة البداية الصحيحة.
ـ لا نقصد إعادة عجلة التاريخ ونعلم أن ما نذكر هو ضرب من المحال.. لكنها الأمنيات كما هو الواجب في إعادة تذكير بعضنا الآخر، فلعل من ثلة تنبري لمثل هذا التصدي.. حتى لو طال بجهدها الزمن.. لكنها خطوة الألف ميل.. ومحاولة تجنب حفرة النار التي تهددنا نحن المسلمين..
فهل للعقلاء من لقاء ليسعدوا الناس ولو ببصيص أمل.. نسأل الله لهم الهدى ولتكن آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.