حفل تاريخ الكوفة، لاسيما في القرون الثلاثة الأولى للهجرة، بأروع البطولات والتضحيات، والإنجازات في اللغة والأدب، والفقه والحديث والتشريع، وبمستويات من الحضارة والحياة الجديدة، جعلها سباقة في الفنون والعمارة، كما أصبحت أرضًا خصبة للفتن والصراعات التي أسفرت عن سقوط الحكم العباسي في العراق، وما بين ذلك ضياع حق أهل البيت(عليهم السلام) الشرعي في قيادة الأمّة وولاية أمور المسلمين وتصحيح الانحرافات.
وبتأسيس مدينة بغداد سنة 145هـ، أخذت الكوفة تفقد كثيراً من رصيدها العلمي قرناً بعد قرن، وتحولت إلى قرية صغيرة تسكنها الأشباح والذكريات، وتطوقها الخرائب والآكام، وتعصف بها رياح الزمن العاتية، إلا مسجدها الكبير الذي ظلّ صامداً يقارع العاديات ليبعثها من جديد، وقد ظلّ شاهداً على عنفوانها وعظمتها، وصار لها رصيداً روحياً، ورمزاً للتضحية والاستشهاد، واصطبغ أديمها بدماء الشهداء، ففي مسجدها اغتيل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، قد أنجبت مدارس الكوفة عدداً كبيراً من عباقرة العلم والشعر واللغة والأدب.. أمثال: أبي الأسود الدؤلي، والكميت بن زيد الأسدي، وجابر بن حيان، والأصمعي، والكسائي، والكندي، وأبي الطيب المتنبي، وكثيرين غيرهم.
مدارس الكوفة
1- مدرسة النص ترجمان القرآن :
التحق الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) بالرفيق الأعلى بعد إكمال رسالته الخالدة بشهادة القرآن الكريم: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)(1)، وتبرز إثر ذلك مدرستان (مدرسة النص) و(مدرسة الرأي). ونعني بمدرسة النص أو مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) المتمثلة بشخص رئيسها أمير المؤمنين(عليه السلام) ومن بعده الذرية الطاهرة من ولده(عليهم السلام). والطابع اللائح على هذه المدرسة اعتمادها في مصادر التشريع على الكتاب والسنة لا غير. وحركة الاجتهاد لديها تتحرك داخل حدود المصدرين المذكورين. إذ تنطلق هذه المدرسة في اقتصارها على هذا الأمر وفق فكرة شمول القرآن الكريم وسنة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) بكل ما يحتاج إليه المسلمون من أحكام. فالرسول(صلى الله عليه وآله) أودع السنة الشريفة لدى أمير المؤمنين والذرية الطاهرة(عليهم السلام) من ولده ما يغني المسلمين عن الحاجة إلى الاعتماد على غير النص. ودليل كلامنا قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)(2)
إشارة إلى شمول القرآن الكريم لميادين الحياة كافة، وذلك بحكم موضوعه ومميزاته التي اختص بها دون غيره من الكتب السماوية فضلًا عن كونه الرسالة السماوية التي اختتمت بها الأديان، وهي المنهج الذي يتبع حتى اختتام الحياة الدنيا وهي بذلك تواكب التطور الذي يحصل في حياتنا يوميًا وبهذا نكتفي عما يقابلها من مدرسة الرأي التي أسسها بعض (صحابة) الرسول(صلى الله عليه وآله)
وما تحملها من أفكار، لأنها حسب رأينا تمتاز بالنقص فضلًا عن عجزها الواضح في معالجة وقائع الأمور، ومن هنا بينت قاعدة (لا اجتهاد في مورد النص ) المتواترة عن أهل البيت(عليهم السلام)، درسًا يكشف عن مدى استيعاب الكتاب والسنة المتمثلة بأهل البيت(عليهم السلام) أمور الحياة كونهم القرآن الناطق وترجمان الوحي، وهذه المدرسة هي التي يعتمد على أساسها شيعة أهل البيت(عليهم السلام) ولحد الآن، على خلاف المذاهب الأخرى التي اختارت مدرسة الرأي، وقد اختاروا لها سابقًا جامع الكوفة مكانًا لنشر العلم بعد أن افتتح أبوابها الإمام علي(عليه السلام) أثناء خلافته المباركة، وجددها الإمام الصادق(عليه السلام)
حال نزوله مدينة الكوفة.
2- مدرسة الرأي :
نعني بالمدرسة الثانية مدرسة الخلفاء بشخص رئيسها الخليفة الثاني، والتي امتدت من بعده وبلغت أوجها على يد النعمان بن ثابت (أبي حنيفة) إمام الأحناف، إلى حد كان يخالف النص لأجل الرأي والاستحسان، فقد روى الخطيب البغدادي في تاريخه أن أبا حنيفة كان يقول: (رد أبو حنيفة على رسول الله أربع مئة حديث أو أكثر، قال : وقال أبو حنيفة : لو أدركني النبي وأدركته لأخذ بكثير من قولي، وهل الدين إلا الرأي الحسن؟!)(3)،
وتعتمداه المدرسة في مصادر التشريع إضافة إلى الكتاب والسنة على الرأي. وحركة الاجتهاد لديها لا تقتص على داخل حدود النص بل تتعداه إلى خارجه، وتجتهد وفق الرأي والاستحسان أيضًا. وتنطلق المدرسة المذكورة في عقيدتها هذه من فكرتها الخاصة حول الكتاب والسنة الشريفين وأنهما غير وافيين بما يحتاج إليه المسلمون من أحكام.
وقد برزت جذور هذه المدرسة في عهد النبي(صلى الله عليه وآله) والسنين الأولى من عصر الرسالة، فكان النبي(صلى الله عليه وآله) وهو الذي لا ينطق عن الهوى يقول شيئًا وجذور المدرسة المذكورة تحكّم رأيها واجتهادها في مقابل النص.وعلى سبيل المثال كان النبي(صلى الله عليه وآله) يأمر بكتابة سنته، والمدرسة تمنع، ففي حديث عبد الله بن عمرو بن عاص قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله(صلى الله عليه وآله) أريد حفظه فنهتني قريش فقالوا إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله(صلى الله عليه وآله) ورسول الله(صلى الله عليه وآله) بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منى إلا حق)(4)
وأمر(صلى الله عليه وآله) في أواخر حياته بإحضار كتاب يكتب لهم فيه ما لا يضلون بعده أبدًا، فامتنعت (المدرسة) وقال بعض رجالها في حق النبي(صلى الله عليه وآله) قد غلبه الوجع. وقد حدثنا البخاري في صحيحه عن ابن عباس: (لما حضر النبي(صلى الله عليه وآله) قال: وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال هلم أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده، قال عمر إن النبي(صلى الله عليه وآله) غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله(صلى الله عليه وآله) كتابًا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي(صلى الله عليه وآله) قال قوموا عني)(5). وينقل البخاري في موضوع آخر من صحيحه أنه(صلى الله عليه وآله) قال: (آتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا) فتنازعوا ـ ولا ينبغي عند نبي تنازع ـ قالوا : أهجر رسول الله)(6)
ويأمر النبي(صلى الله عليه وآله) بتنفيذ جيش أسامة ويجتهد آخرون في مخالفته. يقول الشهرستاني: (الخلاف الثاني في مرضه أنه قال جهزوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه، فقال قوم يجب علينا امتثال أمره وأسامة قد برز من المدينة وقال قوم قد اشتد مرض النبي(صلى الله عليه وآله) فلا تسع قلوبنا مفارقته والحالة هذه فنصبر حتى نبصر أي شيء يكون من أمره)(7) يقول أحمد أمين: (نقل عن كثير من كبار الصحابة قضايا أفتوا فيها برأيهم كأبي بكر وعمر وزيد بن ثابت… وكان حامل لواء هذه المدرسة أو هذا المذهب فيما نرى عمر بن
الخطاب)(8).
نشرت في العدد 51
(1) المائدة: 3.
(2) النحل: 89.
(3) أجوبة مسائل جار الله/شرف الدين ص56.
(4) مسند احمد بن حنبل ج2 ص162.
(5) صحيح البخاري ج8 ص161.
(6) صحيح البخاري ج1 ص429.
(7) الملل والنحل ج1ص22.
(8) فجر الإسلام ص240.