درس كثير من الباحثين شخصية الإمام الكاظم وأرادوا أن يقفوا على أسرار هذه الشخصية ومن أجل أن يتبين لهم أي إمام هو في ملامحه الشخصية الرساليّة التي تمثل جانب القدوة في حياة المسلمين أو في تخطيطه العلمي للمسألة الحركية التغييرية التي تواجه الواقع المنحرف، من أجل أن يتحول إلى الخط المستقيم لنتعرف من خلال ذلك إلى حركة التخطيط التغييري في واقعنا المتحرك الذي يختزن في داخله الكثير من عناصر التفجر(1)،
أي إن الدارسين وجدوا سمات وخصائص كثيرة منها طبيعة العلاقة بين الإمام والحاكم وكيفية التوفيق بين ما تنقله بعض كتب التاريخ من الخط الإيجابي فيها، وبين العناوين الكبرى التي تحكم قضية الرفض في الاستسلام للحكم الجائر، فيما كان الأئمة يؤكدون في وعي أتباعهم ذلك.
لقد صور المستشرق رونالدسن أن ولادة الإمام الكاظم(عليه السلام) تزامنت مع الكفاح المرير بين الدولتين الأموية والعباسية، وكان عمره آنذاك أربع سنوات عندما تولى السفاح أول خلفاء بني العباس(2)، ويضيف أن إمامة موسى الكاظم(عليه السلام) امتدت خلال السنوات العشر الباقية من خلافة المنصور وعشر سنوات من خلافة المهدي وسنة واحدة وبضعة أشهر من خلافة الهادي ونحو (12) سنة من حكم هارون العباسي فكانت مدة إمامته نحوًا من (33) سنة وهي تزيد على إمامة أبيه جعفر الصادق(عليه السلام) بثمان سنوات(3).
ونلاحظ أن هذا المستشرق يشير إلى مسألة طول مدة إمامة الكاظم(عليه السلام) وأنه قد عاصر عددًا من الخلفاء، وإمامة الكاظم(عليه السلام)
في نظر رونالدسن مركز خطير ترمقه العيون(4)، وهذا مما يؤخذ عليه لأن الإمامة لم تكن منصبًا من المناصب التي تعطى لفلان من الناس دون غيره، والصحيح أن الأئمة(عليهم السلام) بشر مثلنا إلا أنهم عباد مكرمون اختصهم الله تعالى بكرامته، وحباهم بولايته إذ كانوا في أعلى درجات الكمال اللائقة في البشر : من العلم والتقوى والشجاعة والكرم والعفّة وجميع الأخلاق الفاضلة، والصفات الحميدة، لا يدانيهم أحد من البشر فيما اختصوا به(5).
والمسألة الأخرى التي أثارها رونالدسن هي أنه ينقل تعدد الآراء في إمامة موسى الكاظم(عليه السلام) واختلاف الروايات فهو مرة ينقل أن الإمامة كانت في إسماعيل وأنه هو المعين للإمامة بعد أبيه وأن موته قبل موت أبيه سبب اضطرابًا كبيرًا عند الشيعة أجمعين(6)، ومرة أخرى يصور لنا أن أكثر الآراء إضرارًا هو القول بأن إسماعيل كان آخر الأئمة وهو السابع وأنه لم يمت وإنما غاب وأنه سوف يعود وأن هذه الفرقة سميت الإسماعلية(7)، ويضيف قائلاً :
أما الشيعة الاثني عشرية فيؤكدون أن الإمام جعفرًا الصادق(عليه السلام) نص على إمامة ابنه الأكبر إسماعيل بعده،غير أن إسماعيل كان سكيرًا فنقلت الإمامة إلى موسى وهو الوليد الرابع من بين سبعة أولاد، وكان الخلاف الناجم عن ذلك سببًا في حدوث انقسام كبير بين الشيعة كما أشار إلى ذلك ابن خلدون(8).
نلاحظ هنا أن رونالدسن يستند إلى ابن خلدون دون غيره من المصادر الكثيرة التي تناولت حياة الأئمة(عليهم السلام) والتي سبقت ابن خلدون واتسمت بموقف معتدل من فكر أهل البيت(عليهم السلام) وربما يكمن الدافع من وراء هذا النقل إلى المنهج الاستعماري والطريقة التي برمجها بعض المستشرقين لغرض تشتيت أمر الأمة والدعوة إلى تفريق الكلمة وإبراز وجهات الاختلاف، أو تعدد المذاهب، فيدعى المستشرق من قبل دوائرهم إلى تضخيم هذه النزعات أو تكثيف تلك الدعاوى، فيبث سمومه من خلال هذه الثغرات(9).
معجزات الإمام الكاظم(عليه السلام):
انتبه المستشرقون إلى قضية مهمة تتعلق بكرامات الإمام الكاظم(عليه السلام). ومعجزاته الخارقة للمألوف من الأمور الطبيعية، فقد أفرد لها رونالدسن مبحثًا خاصًا في كتابه وحصر عددها بـ (ثلاث وعشرين) معجزة تعزى إلى الإمام
الكاظم(عليه السلام) ومنها تختص بأخ له من إخوته أكبر منه يدعى عبد الله، وقد ادعى انتقال الإمامة إليه، فأمر موسى أن تجمع كومة كبيرة من الحطب في فناء الدار، ودعا أصحابه، وبينهم أخوه عبد الله فاجتمعوا، ولما استقر بهم الجلوس التفت موسى وأمر بإشعال الحطب وقام أمامهم جميعًا وتخطى النار ووقف في وسطها فلم تمسه بأذى ولم تحترق ملابسه، ثم دعا أخاه عبد الله وطلب منه، إن كان ادعاؤه حقًا، وإمامته منصوصًا عليها من الله أن يفعل مثل ما فعل هو، ويذكر الرواة أن عبد الله اصفرّ وجهه وخرج(10).
لاشك في أن إمامنا الكاظم(عليه السلام) كان شيخ الزاهدين وزين الساجدين وفخر العابدين، من يعجز البيان عن وصفه فقد ملأ الدنيا طيبًا بعرفه، وهو أحد الأئمة العظام الذين اشتد عليهم البلاء بما لم يحصل مع غيره من أئمة العصمة وكان(عليه السلام)
قادرًا على مواجهة الصعاب وحلحلة المشاكل وإيصال معلوماته إلى قاعدته الجماهيرية، ومناقبه في هذا المجال أكثر من أن تحصى.
لقد ورث الإمام الكاظم(عليه السلام) مدرسة أبيه الصادق(عليه السلام) وحظيت منه بالتوجيه والرعاية الشاملة، وقد أثرت عنه عدة مجموعات روائية مثل مسائل علي بن جعفر والأشعثيات وتصدى المعنيون بتراث أهل البيت(عليهم السلام) بجمع المأثور عن أهل البيت(عليه السلام) وتنظيمه وتبويبه من مختلف المصادر(11).
عبادة الإمام الكاظم(عليه السلام):
استفاد رونالدسن مما أورده اليعقوبي(12) عن حياة الإمام الكاظم(ع)، ليذهب إلى أنه لقب بالكاظم لكظم الغيظ(13).
ويذهب جرهارد إلى أن هارون… اعتقل موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام) أثناء الصلاة في جامع النبي بالمدينة ثم نقل الإمام من سجن إلى سجن آخر ، فبعد أن قضى عدة أشهر في سجون البصرة نقل في النهاية إلى سجن في بغداد وحمل اسم السندي بن شاهك، وهناك تركه الرشيد يتجرع السم، وكان موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام) قد بلغ من العمر الخامسة والخمسين ثم تسلم ابنه علي الرضا(عليه السلام)(14).
وفي هذا الكلام دحضٌ للروايات التي ترى أن هارون الرشيد ليس له علاقة بمقتل الإمام الكاظم(عليه السلام)، ويرى الدكتور عبد الجبار ناجي أن الأمر يبعث على الحيرة، كيف كان التاريخ الإسلامي يدوّن بأقلام غير منصفة وخائنة لهؤلاء الذين كانوا يخافون على حياتهم والأكثر على مصالحهم لئلا تتضرر من حكام تلك السلطات العاتية فأخفوا بل في الحقيقة أقصوا الكثير من المعلومات المتعلقة بالأئمة الأطهار(عليهم السلام) وحرّفوا هذا القليل المتوافر وزيّفوه(15).
ويستشهد الدكتور عبد الجبار بما ورد عن الطبري بقوله : (فلننظر إلى المؤرخ الطبري الذي نعدّه أبًا للتاريخ الإسلامي كيف أنه أحجم عن ذكر الإمام الكاظم(عليه السلام) ما عدا روايات معدودة تخدم هارون…، فمثلاً نجده يقف صامتًا إزاء مؤامرة الرشيد لقتل الإمام وذلك خوفًا من أن يثير عليه نقمة وثائرة الحكام العباسين المعاصرين له أو أنصار الدولة العباسية)(16).
لقد كانت نهاية الإمام الكاظم(عليه السلام) مُرَّة وقد روى الشيخ المفيد في الإرشاد كيف بدأت المؤامرة على الإمام من أصحاب الوجاهات والزعامات بل من أصحاب الامتيازات التي لا تقوم إلا على حساب دماء الأبرياء والأطهار من آل بيت العصمة(عليهم السلام)
حيث كان الكثيرون يتقربون إلى السلطة بالوشاية المغرضة فضلاً عن الدس والفتنة ليحصلوا على مال أو وظيفة أو رضا الدولة(17).
لقد استشهد الإمام الكاظم(عليه السلام) كما استشهد آباؤه من قبل طاهر الذيل نقي الكف صابرًا مجاهدًا محتسبًا عاملاً بالقرآن والسنة آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر .
نشرت في العدد 51
(1) ينظر : تأملات في آفاق الإمام موسى الكاظم عليه السلام : 7.
(2) ينظر : عقيدة الشيعة :160.
(3) ينظر : عقيدة الشيعة :160.
(4) ينظر : عقيدة الشيعة :160 .
(5) ينظر عقائد الامامية :99.
(6) ينظر عقيدة الشيعة : 160.
(7) ينظر عقيدة الشيعة : 161.
(8) ينظر عقيدة الشيعة :161 , ومقدمة ابن خلدون: 1\234.
(9) ينظر المستشرقون والدراسات القرآنية :16.
(10) ينظر عقيدة الشيعة :162.
(11) ينظر أعلام الهداية : 183.
(12) ينظر تاريخ اليعقوبي :418 وما بعدها .
(13) ينظر عقيدة الشيعة : 164.
(14) ينظر سطوع نجم الشيعة : 85.
(15) الإمام العبد الصالح : 3.
(16) الإمام العبد الصالح :3.
(17) ينظر الإرشاد : 307 وعظمة الإمام الكاظم: 329 .