(إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا)(1)، ما أعظمه من حديث يحمل للبشرية رسالة عظمى تحمل مبادئ وقوانين إلهية تهدف إلى سعادة البشرية جمعاء، فالقرآن الصامت المتمثل بالكتاب المجيد والذي يعد بمثابة دستور خالد ينظم الحياة بكل مفاصلها (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي للتِي هِيَ أَقْوَمُ)(الإسراء :9) والقران الناطق الذي يتمثل في شخصية أهل البيت(عليهم السلام) وهم خلفاء الله في أرضه وترجمان قوانين السماء التي جسدها القرآن الكريم، كلا المحورين يرسمان دائرة مغلقة، ذلك لأن التعريف بهما جامع مانع كما يحققه المناطقة في موضعه، ومن هنا فإن أي تحويل في المسار وأي خروج عن الدائرة المذكورة سيؤول بصاحبه إلى الهاوية، ولسنا بصدد البحث في هذا المقام عن المعاني السامية للحديث الشريف، بيد أننا نريد أن ننطلق من هذه النقطة لنشير إلى عمل مندوب أكدَّ عليه الشارع المقدس وأجرى لفاعله الكثير من الأجر والثواب، بما يحمل من أسرار تكشف عن عظمة الشخصية ذات العلاقة بهذا العمل، وموضوعنا هنا هو دراسة حول تسبيح الزهراء(عليها السلام) وما يحمل هذا الذكر من معان ذات علاقة بالجانبين المادي والروحي، قد لا يتراءى للكثيرين ضوءه مع شدة السطوع بسبب ظلمة القلب لا غير، وفي الواقع نرى أن الباحث عن شخصية الزهراء(عليها السلام) يجد نفسه أسيراً بين فيض من الأسرار التكوينية والتشريعية التي تحملها هذه المرأة العظيمة لسمو رفعتها وعلو مقامها، ولعل قول الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) بحقها أنها (أم أبيها) يكون كافياً ليستوعب معاني الأحاديث التي وردت بحقها في كتب العامة والخاصة، كما أن الحديث الوارد عن الإمام العسكري(عليه السلام) في حق سيدة النساء(عليها السلام): (نحن حجج الله تعالى على خلقه وجدتنا فاطمة حجة الله علينا)(2)
كاشف عن عمق العلاقة بين الله تعالى وهذه السيدة التي ظلمها من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، كما يستكشف من الحديث الوارد الذكر أن الزهراء(عليها السلام) هي علة التكوين وسر الله تعالى في خلقه، والوصول إلى كنه هذا السر أمر صعب مستصعب، إلّا أن السمات والمناقب وموارد الفضل يمكن استيعابها حينما يتأتى ذلك من قول المعصوم وفعله وتقريره، كما حققه علماء السير ورواة الحديث، ولكي نسلط بعض الضوء على أحد الأذكار التي تبين للقارئ الكريم مديات الارتباط بين الخالق والمخلوق، وأقصد بالذكر هنا تسبيح الزهراء(عليها السلام).
أفضل الذكر:
يعد تسبيح الزهراء(عليها السلام) من أفضل تعقيبات الصلاة، ويستحسن المداومة عليه بعد الصلاة الواجبة، وقبيل النوم، وقبل زيارة الأئمة المعصومين عليهم السلام، بل في كل زمان ومكان، والأحاديث متواترة في فضله وعلو مرتبته، فقد ورد عن أهل بيت العصمة(عليهم السلام) من أنه يوجب غفران الذنوب، ويرضي الرحمن، وأفضل من صلاة ألف ركعة مندوبة، و يوجب ثقل الميزان لأعمال الإنسان، كما أنه ومع تركيبته السهلة يعد سبيل المؤمن إلى الجنّة.
جملة من الروايات:
– عن الإمام الصادق(عليه السلام): (من سبح تسبيح فاطمة الزهراء(عليها السلام) قبل أن يُثني رجليه من صلاة الفريضة غفر الله له)(3).
– عن الإمام الباقر(عليه السلام): أنه قال: (من سبّح تسبيح فاطمة(عليها السلام) ثم استغفر الله غُفر له، وهو مائة باللسان، وألف في الميزان، ويطرد الشيطان ويرضي الرحمن)(4).
– عن أبي عبد اللَّه الصادق(عليه السلام): أنه قال: (تسبيح فاطمة(عليها السلام) في كل يوم في دبر كل صلاة أحب إليّ من صلاة ألف ركعة في كل يوم)(5).
أقول: إن الأحاديث الواردة في هذا المجال كثيرة وما ذكرناه ما هو إلّا غيض من فيض، وإن شئت عزيزي القارئ التفصيل فما عليك إلّا مراجعة كتاب الكافي وغيره من كتب الحديث الذي يغني الموضوع عن كثب. علنا نستنتج من الروايات التي ذكرناها عدة أمور يمكن لنا أن نلخصها بما يلي:
أولاً: إنه على من أراد أن يعقب بالتسبيح فعليه أن لا يترك فاصلًا بين التسبيح والصلاة ولعل هذا يكشف عن هوية التسبيح وكونه لا يقل فضلًا عن الصلاة، كما أشار إلى هذا المعنى حديث الإمام الصادق من أن التسبيح أفضل لديه من صلاة ألف ركعة مندوبة، وبطبيعة الحال فإن ما يحبه الإمام المعصوم هو مرضاة لله تعالى لأنه(عليه السلام) وليه في الأرض. كما أنه لا يخفى على القارئ الكريم أن الصلاة أقرب ما يتقرب بها العبد إلى الله تعالى وهي معراج المؤمن كما جاء في الأحاديث الواردة عنهم(عليهم السلام).
ومن هنا فإن التسبيح يعد من الأذكار التي تقرب إليه سبحانه وتعالى، ولعلها تعوض عن النقص في الصلاة من حيث انشغال القلب وبعده عن المحبوب عز وجل.
ثانياً: قول الإمام(عليه السلام) التسبيح يورث غفران الذنوب وإنه بمثابة الاستغفار، يدل على أن فاعله من العليين، ذلك لما ورد عن الإمام علي(عليه السلام) من أن (الاستغفار درجة العليين)(6)، كما أنه يسهم في إثراء برنامج العودة إلى الله بعد العصيان.
ثالثاً: لعل سائل يسأل عن ماهية السر في ما يترتب من أثر على من أتى بتسبيح الزهراء(عليها السلام) مع سهولته بالشكل الذي سنبينه فيما بعد.
وللجواب عن السؤال نقول : إنه ومع أن الذكر هو ذكر لله تعالى، ولا يعني أنه مجرد لقلقة لسان، بل إنها كلمات عظيمة تحمل معان عظيمة إلا أن المكان بالمكين كما يقولون وإن السر هنا هو العلاقة التي تربط بين من نسب إليها الذكر والفيوضات الرحمانية غير المحدودة التي تترتب على الذاكر، فكل ذلك كاشف عن أن تعظيم التسبيح يكمن في تعظيم قدر الزهراء(عليها السلام) وأنها هي المعنية في الذكر قبل الذكر ذاته، وما الذكر إلا وسيلة لإدراك كنه سيدة النساء(عليها السلام).
تجارب تتحدث:
يتحدث الكثيرون عن الأثر الوضعي لمن يلتزم بتسبيح الزهراء(عليها السلام)، حتى يكون جزءًا من حياته اليومية، فهو يذهب بالهَمِّ والغَمِّ، ويدفع الكثير من البلاء، ويجلب الرزق، وينعش الروح كونه، غذاءً روحيًا أسوة بغذاء الجسد، وطريقًا لاستجابة الدعاء، وقوة في البدن، وقناعة ونماء في الرزق، وصلاحًا في السلوك، فضلًا عما يتحقق من آثار أشارت إليها الأحاديث التي أوردناها والتي لم نذكرها لعدم سعة المقام، ولأن الأمر في الواقع يحتاج إلى بحث متخصص في هذا المجال. وبعد أقول (فهل من شك في يقين؟).
قصة التسبيح:
شَكَتْ فاطمة لرسول الله(صلى الله عليه وآله) مما تلقى من أثر الرحى (الطحن) فقال(صلى الله عليه وآله): (يا فاطمة أعطيك ما هو خير لك من خادم، ومن الدنيا بما فيها، تكبرين اللَّه بعد كل صلاة أربعاً وثلاثين تكبيرة، وتحمدين الله ثلاثاً وثلاثين تحميدة، وتسبحين الله ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، ثم تختمين ذلك بـ (لا إله إلا اللَّه)(7).
كيفية التسبيح:
1- (الله أكبر ): 34 مرة
2- (الحمد لله ): 33 مرة
3ـ (سبحان الله ): 33 مرة.
ثم يختم الذاكر ذلك بقول (لا اله إلّا الله) كما ورد عن الإمام(عليه السلام).
كما وردت صورة التسبيح عكس ذلك إلّا أن المتعارف هو ما ذكرناه وإن شئت فراجع.
نستدل من قول أمير المؤمنين(عليه السلام) عدة أمور منها:
أولًا: إن التسبيح له أثر وضعي في الدنيا كما أن له ثواب الآخرة، فهو يذهب التعب والنصب، ونستشف هذا من خلال ما شَكَت الزهراء(عليها السلام) لرسول الله تعالى من أثر الرحى.
ثانيًا: إن التسبيح هو خير من الدنيا وما فيها، أقول ما أعظم هذا الكلام وما أعظم أثره لدى الذاكر الذي يتعود على العمل به، حتى إنه يكون جزءًا لا يتجزأ من حياته اليومية.
آداب التسبيح:
من آداب التسبيح وكماله الخشوع أثناء التسبيح. وليكن جلوسك للتسبيح متصلاً بجلوسك للتسليم، وترك الكلام في أثنائه، والتلفت ونحوهما، كما تقدم، ومن شك في عدد التسبيح أعاده. فعن الإمام الصادق(عليه السلام): (إذا شككت في تسبيح فاطمة الزهراء(عليها السلام) فأعِد)(8)، ومن هذا الحديث نستنتج أن مقام التسبيح يضاهي مقام الصلاة التي هي عمود الأعمال(9)، وتوصية الإمام(عليه السلام) بالاعتناء به حفاظًا على كمال ما يترتب عنه من آثار دنيوية وأخروية لا يسعها المقام .
نشرت في العدد 50
(1) غاية المرام/البحراني ص211.
(2) تفسير أطيب البيان : 13 / 226.
(3) الوسائل 4 : 1021 الباب 7 من أبواب التعقيب الحديث 1.
(4) هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (ع)/الحرّ العاملي.
(5) شرائع الإسلام/المحقق الحلي ج1.
(6) جواهر الكلام / الجواهري ج7ص198.
(7) بحار الأنوار / المجلسي ج82ص336 .
(8) الكافي للكليني ج3ص342.
(9) المقصود هنا الصلاة المستحبة وليست الواجبة.