نزل قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا)(النساء:3) في تعدّد الزيجات لضرورة يقتضيها ما آل إليه حال المجتمع الإسلامي.
ولعلّ الدلالة المركزية والمحورية في هذه الآية المباركة هي العدالة في معاملة الزوجات سواء كنَّ من اليتامى أم من غيرهن وبيان العدد المسموح للزواج بهنَّ بعد أن كان العرب يتزوّجون ما شاء لهم فقد ورد أن غيلان بن أمّية عندما أسلم كان تحته عشر نسوة، فأمره النبي (صلى الله عليه وآله) أن يختار أربعًا منهنّ ويفارق سائرهن، وذُكِر أيضًا أنّ القيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر فذكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله) فأمره أن يختار أربعًا منهنّ(1).
فتعدّد الزوجات نظام شائع عند العرب وغيرهم من الأقوام كالرومان، حتى عجزت عن محوه القوانين الصارمة، وكان هذا نظامًا اجتماعيًا عند قبائل الجرمان كذلك، وكان مباحًا عند المصريين، وقد مارسه الإغريق وأباحته التوراة، وكان اليهود يمارسونه في أوربا في القرون الوسطى، وما زالوا يمارسونه في البلاد الإسلامية(2).
عندما جاء الإسلام أخذ يقنّن هذه المسألة ويضع لها ضوابط تكفل العدالة في ذلك فناشد المؤمنين بضرورة أن يكونوا هم من يعمل على بسط العدالة والمساواة في الزواج وخاصة عند تعدّد الزوجات.
ربما يعود سبب عدم العدالة إلى أنّ بعض القبائل كانت تنظر للمرأة نظرة بغضٍ لأنّها في نظرهم تجلب العار عند سبيها وأخذها أسيرة فكان العربي عندما تلد له زوجته بنتًا يئدها لعارها حتى نهت السماء عن ذلك فنزل قوله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ*بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)(التكوير: 8) وقد يبيت الرجل عند غير أهله بسبب ذلك، وهذا أبو حمزة الضبيّ هجر امرأته وكان يقيل ويبيت عند جيرانٍ له حين ولدت امرأته بنتًا فمرّ يومًا بخبائها وإذا هي ترقّصها وتقول:
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظلُّ في البيت الذي يلينا
غضبان ألاّ نلد البنينا تالله ما ذاك في أيدينا
وإنّما نأخذ ما أُعطينا ونحن كالأرض لزارعينا
ننبت ما قد زرعوا فينا
فغدا الشيخ حتى ولج البيت فقبّل رأس امرأته وابنتها(3).
وقد يرجع نظام تعدّد الزوجات في مثل هذا الحال وشيوعه إلى الحروب وإلى وقوع النساء في الأسر فيكون الأولاد منها تابعين لمن يأسرها ويلتحقون به ويأخذون نسبه لأنها تكون ملكًا له فلذلك عُوملت الزوجة بعد وفاة زوجها معاملة التركة(4). ولهذا ولغيره شدّد الإسلام على ضرورة العدل والقسط مع النساء وخاصة اليتيمات منهنّ.
فقوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى، فالخوف في أصل معناه في اللغة الفزع(5)، وأوردها علماء العربية في الأضداد (قال أبو عبيدة: ومن الأضداد الخوف، يقال: خاف يخافُ خوفًا من الفزع الذي لا يتيقَّن وخافَ يخافُ خوفًا إذا أيقن الشيء وقال جلّ اسمه: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا)(النساء:3)أي ايقنتم، وقوله: (إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ) (البقرة:229)، أي يوقنا بذلك)(6)، وإنّما مرجع ذلك إلى كون الفعل (خاف) يتعدى إلى مفعوله مرة بـ (مِنْ) فيكون معناه الفزع الذي لا يتيقّن، ويتعدّى بـ (على) فيكون بمعنى التيقّن في وقوع الفزع، فلما أطلق الفعل في هذه الآية احتمل الأمرين لذا جعل الله تعالى تقدير ذلك لأولي الأمر بعدما عرفوا حدوده في عدم السطو على أموال اليتامى من النساء والاستحواذ عليها في إجبارهن على النكاح بهم لأجل ذلك.
فإطلاق الخوف بعدم استعمال حرف الجر المناسب قد أوقعَ المعنيَيْن لأجل أخذ الحيطة والحذر والتدبّر في نكاح يتامى النساء فأرشدهم تعالى في مثل هذه الحالة إلى نكاح مَن كانوا هم على يقين من عدم الوقوع في الجور تجاههن، ووافق هذا التعدّد في احتمالات الدلالة في (خفتم) أنه تعالى أردفها بـ(ألاّ تقسطوا) والإقساط هو العدل وزيادة في معنى آخر، لأنَّ العدل ضد الجور، والزيادة تتمثل بالقسمة التي يقسمها الذي يقدرها أو من اختصّ بها في أمرٍ ما، لأنّ الإقساط هو تمثيل لما يقدّره المقسط ومصداق ذلك ما نقله ابن منظور إذ يقول: (وفي الحديث: أنّ الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه.
القسط : الميزان، سمي به من القسط العدل، أراد أن الله يخفض ويرفع ميزان أعمال العباد المرتفعة إليه وأرزاقهم النازلة من عنده كما يرفع الوزّان يده ويخفضها عند الوزن، وهو تمثيل لما يقدّره الله وينزله)(7)،
فجعل من المقسط هو الذي يضع الموازين ويقدّرها كما يرفع الوزّان يده ويخفضها عند الوزن ليحكم بالعدل، لذا فإنّ دلالة القسط هي العدل متصّلة بمن يقدّر ذلك العدل، فهي دعوة لأولياء الأمر في اليتامى أن يكونوا عادلين في ولايتهم، وهم الذين يقدرون ذلك لأنهم أعرف بأمر اليتامى من غيرهم فضلًا على كونهم محاسبين أمام الله تعالى يوم القيامة، زيادة في دلالة الخوف فوسّعَه تعالى بعد تقييد فعل الخوف بحرف الجر فأطلق المعنى لتوسعة معنى الإقساط. وقد ذهب غير واحد إلى أنّ هذه الجملة القرآنية لا تُعنى بنكاح اليتامى من نساء المسلمين وإنما تختص بولايتهم والخوف من عدم العدل فيهم(8)،
وهذا بعيد بدلالة قوله تعالى: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ… )(النساء: 3)،فضلاً عن أنّ محورَ حديث الآية النكاحُ أصلاً، وعليه فإنّ تقدير (في نكاح اليتامى) أو (في مهورهن وفي النفقة عليهن) يكون هو الأوْلى ويعضده ما جاء من سبب النزول إذ (روي عن عائشة إنّها قالت: نزلت في اليتيمة التي تكون في حجر وليّها فيرغب في مالها وجمالها، ويريد أن ينكحها بدون صداق مثلها فنهوا أن ينكحوهنّ إلّا أن يقسطوا لها صداق مثلها وأُمِروا أن ينكحوا ما طاب مما سواهن من النساء إلى أربع)(9)، وسقوط غير هذا مما روي عن سبب النزول.
وقوله سبحانه: (وَإِنْ خِفْتُمْ) شرط وجوابه (فَانكِحُوا) ويعِضّده ما ذكرناه في سبب النزول، وهو المروي عن عائشة والإمام محمد الباقر (عليه السلام)(10)، ومما يلفت النظر فيه أن فعل الشرط جاء ماضيًا، وذهب النحاة إلى أنّ معناه الاستقبال وفي ذلك إنزال غير المتيقّن وغير الواقع منزلة الواقع(11)، وهذا يدلّل أن الخوف من عدم العدل واقع لا محالة بدلالة الزمن الماضي الذي ورد فيه فعل الخوف وعدم الإقساط، جاء عن ابن جني: (وكذلك قولهم: إن قمتَ قمت، فيجيء بلفظ الماضي والمعنى (معنىَ المضارع) وذلك أنه أراد الاحتياط للمعنى فجاء بمعنى المضارع المشكوك في وقوعه بلفظ (الماضي المقطوع) حتى كأنَّ هذا قد وقع واستقرّ لا أنّه متوقّع مترقّب وهذا تفسير أبي عليّ عن أبي بكر وما أحسنه)(12).
وهذا يدلّل على وقوع عدم العدل مع الزوجات في كلّ الأحوال، ولذلك نجد تكرار فعل عدم العدل والخوف منه أكثر من مرة في هذه الآية فذكر (إلا تقسطوا، إلا تعدلوا، إلا تعولوا) والأخيرة جاءت بمعنى (إلا تعدلوا) على أصحّ الأقوال.
وقوله تعالى: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) هو جواب للشرط (وإن خفتم)، وقد جاء بصيغة الأمر في (فانكحوا) إلاّ أنّه لا يدلّ على وجوب النكاح في حال بدلالة التخيير بين الحرائر ومِلك اليمين في ذيل الآية المباركة، وقوله تعالى: (مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)(النساء:3) جاء على سبيل الإطلاق في العدد ثمّ قيّد هذا الإطلاق باثنين وثلاثة وأربعة على البدلية، ولو قيل لماذا استعمل (ما) وهي لغير العاقل بدلًا من (مِن) للعاقل، والجواب أن الموضع هنا موضع إبهام فيليق به استعمال (ما) فلا يقصد فيه التفصيل والتخصيص وإنما قصد الصفات والأجناس فحَسُنَ لذلك استعمالها دون (من)(13)، أي جنس النساء المستطابة من الرجال في الأمور الزوجية وبناء الأسرة السليمة،
لذا فإنّ هذا يأخذ بنا إلى القول بعدم إجبار المرأة على الزواج إلاّ بمن ترضىَ به وأن لا تكون دون سن البلوغ، ولعلّ لفظة (طاب) توحي بذلك إذ إنّ دلالتها تعني النضج، فالبنت التي هي في سن دون سن البلوغ لا يمكن أن يأتي ثمارها من حيث مواضع الزوجية والإنجاب وغيرها.
وربما يعني بـ (ما طاب لكم) من الزواج المحلل، وقد حدّد تعالى النساء التي يحرم الزواج بهنّ.
فباتساع دلالة (طاب) توسّعت معها الدلالة في هذه الآية فلم يشمل الطيب من النساء بل شمل أيضًا الطيّب من الزواج المؤدّي إلى طهارة الولد لأجل طهارة المجتمع من الرجس، فالاحتمالان ممكنان في هذا النص المبارك.
ثم حدّد عدد الزوجات بالاثنين أو بالثلاث أو بالأربع على أنّ اجتماعهن عند زوج واحد يكون بشرط العدالة بينهنَّ من قِبَلِهِ وإلا فالنكاح بواحدة أو ما ملكت يمين الرجل من الإماء.
وقال تعالى: (مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) جاء بها معدولة عن اثنين وثلاث وأربع ولم يأتِ بها على أصلها، ولعلّ ذلك راجع إلى أنّ الاسم المعدول لابدّ وأن تكون له زيادة في معنى غير فائدة الاسم المعدول عنه، وألّا يجيء به فقد تكون الفائدة في حصر العدد على ما قرّر سبحانه باثنين وثلاث وأربع على سبيل التخيير بينها، ولو أراد التخير لاستعمل (أو) بدلًا من (الواو) بل على سبيل التحديد والحصر والإذن بها وعدم الزيادة على هذه الأعداد إذ إنّ دلالة (الواو) هنا ليست للجمع ـ على رأي أكثر المفسرين(14).
ولو أراد بها الجمع لدلَّ على إباحة تسع وهو مخالف لإجماع الأُمَة بدلالة أمر النبي محمد (صلى الله عليه وآله) لغيلان بن أمية عندما أسلم وتحته عشر نسوة أن يختار منهنّ أربع حرائر، وقال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) 🙁لا يحلّ لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر)(15).
قوله سبحانه: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، أي فإن خفتم الجور في نكاح النساء. وجاء بلفظة (ألّا تعدلوا) لأنّه لمطلق عدم العدل في النساء ولكن عندما خصّص الخوف بعدم العدل في يتامى النساء جاء بلفظة (ألّا تقسطوا) للزيادة في المعنى كما بيّنا ذلك. وجملة (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا) جملة فعل الشرط وجوابها (فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، والفاء فيها رابطة وتقدير فعل الشرط (فانكحوا واحدة أو…) وفي قراءة الأعرج جاءت (واحدة) بالرفع على تقدير (فواحدة تقنع) فهو ابتداء محذوف الخبر، أو يكون خبرًا لمبتدأ محذوف وتقديره فهي واحدة(16).
والأول هو الأوْلى لأنّ مدار حديث الآية على النكاح ولأنّه متعلّق بقوله سبحانه: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ….) الآية، فالمسوّغ أن يكون فعل النكاح هو الأقرب لذلك، ثم إنّ تقدير الفعل أفضل من تقدير الاسم في هذا المقام وذلك أنّ الجملة الفعليّة جملة دالة على التغيرّ والجملة الاسمية دالة على الثبات وهذا التغيّر ألصق بالمعنى العام للآية وذلك أن حال الرجل قد يختلف في المستقبل عمّا هو عليه اليوم من القدرة على الزواج من ثانية أو ثالثة ومن العَدْل بين نسائه فيكون تقدير الفعل أفضل من تقدير الاسم.
وقوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا) أي ذلك أقرب إلى أن لا تجوروا وتميلوا عن الحق، لأنّ أصل العول في اللغة (الخروج عن الحد والمجاوزة للقدر)(17) فالجور هو خروج عن حد العدل وهو رأي أكثر العلماء(18).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1) ظ: الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي: 3/20،التفسير الكبير/الفخر الرازي:3/488. 2) ظ: الحياة العربية من الشعر الجاهلي، د. أحمد الحوفي:223/224. 3) ظ: البيان والتبيين/الجاحظ:1/186. 4) ظ: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام/د. جواد علي: 5/533. 5) ظ: لسان العرب/ابن منظور: 4/248، مادة(خوف). 6) الأضداد، أبو الطيب اللغوي:1/236، ظ: مجاز القرآن، أبو عبيدة:1/116. 7) لسان العرب، ابن منظور:11/159، مادة(قسط). 8) ظ: معاني القرآن: الفراء:1/53، التفسير الكبير، الفخر الرازي:3/285. 9) التبيان، الطوسي: 3/103، ظ: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي:3/15، التفسير الكبير، الفخر الرازي:3/485. 10) ظ: التبيان، الطوسي:3/104. 11) ظ: معاني النحو، د. فاضل السامرائي:4/47. 12) الخصائص، ابن جني:3/107، ظ: معاني النحو، د. فاضل السامرائي:4/47-48. 13) ظ: حقائق التأويل، الشريف الرضي:306. 14) مجمع البيان، الطبرسي: م2/6. 15) ظ: م.ن: م2/5، البحر المحيط، أبو حيان: 3/228، التفسير الكبير، الفخر الرازي: 3/488، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: 3/20، إملاء ما منّ به الرحمن، العكبري: 1/166. كنز العرفان، السيوري:499. 16) ظ: مشكل إعراب القرآن، مكي بن أبي طالب:113، البيان في إعراب غريب القرآن، الأنباري:1/342، إعراب القرآن، النحاس:171. (17) مجمع البيان، الطبرسي: م2/6. 17) حقائق التأويل، الشريف الرضي:301. 18) ظ: وضح البرهان، النيسابوري:1/274، مجاز القرآن، أبو عبيدة:1/117، معاني القرآن، الفراء:1/255، التفسير الكبير، الفخر الرازي:3/489، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: 3/23.