Take a fresh look at your lifestyle.

أخبار الماضين في نظر أمير المؤمنين(ع)

0 589

الشيخ حسن كريم الربيعي
كلية الفقه/ جامعة الكوفة

 

         حاول الكثير تركيز ثقافة السلبية والابتعاد عن التاريخ بحجة الكذب والتلفيق والتزوير وربما انطلت هذه الخدعة على العديد من الناس وانطبعت في أذهانهم أن ما دوّن هو كذب وخداع وتم الحكم على التاريخ كعلم ينقل لنا الماضي بكل صوره الجميلة السارة والقبيحة المرة وأختلط مفهوم التاريخ بما هو مركوز في أذهان الغالب من الناس ولكن الغالب الذي حكموا عليه كان التاريخ السياسي لا التاريخ الاجتماعي أو تاريخ الأفكار والعبر، يبدو أن المقصود هو التاريخ الدول أو تاريخ الخلفاء والرؤساء والأمراء والقادة وغيرهم هم الذين كتبوا هذا التاريخ وقد حسنوا صورهم فيه أو ما يسمى بتاريخ المنتصر وهو الذي يغلب على كل تاريخ ومع كل هذا يمكن للتأمل أخراج الزيف والخداع منه وأن كان التعامل مع هذا النوع من الخطورة بمكان للتعارض بين الروايات بشكل يثير الاستغراب ولكن المنهج العقلي يكشف الحقيقة ويظهر بما هو أقرب للواقعية ويدفع الخيال ويرفع الأشكال.
أن الأشكال الرئيس في تناول أخبار الماضين هو ما الفائدة من استعراض الحدث التاريخي كما هو؟، ربما يكون الجواب أن لا فائدة من استعراض الحدث التاريخي كمعلومة تاريخية أرشيفية بوصف الحدث نفسه وقد أيد هذا الجواب العديد من الباحثين.
فلابد أذن من أن الحدث التاريخي ينظر إليه من جهات عدة ولحظات متعددة لاستخلاص العبرة والابتعاد عن المسلك الخاطئ لذلك قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصية له مكتوبة لأبنه الإمام الحسن(عليه السلام) جاء فيها فيما يعرض على قلب الإنسان: (وأعرض عليه أخبار الماضين)(1)،

هذا النص الذي ذكره الإمام علي(عليه السلام) في وصيته يدل على أهمية هذا العرض وإلا لم ينبه عنه الإمام فله فوائد جمة، منها استشراف المستقبل بتجارب الماضين فأن الإطلاع على أخبارهم عبرة وعظة فيعد التاريخ من المصادر الوعظية للأمم والشعوب لذلك اهتمت به الدول المتطورة وتناولته بالتحليل والاستنتاج والرؤية المستقبلية للنهوض بمستوى الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي.
وأخبار الماضين مطلق أي الأخبار والحوادث والوقائع التي مر بها الناس في حياتهم ولا يوحي التاريخ السياسي فقط بل التاريخ بأجمعه ومنه التاريخ الاجتماعي المغيب عن أذهان العديد من الباحثين وخاصة التاريخ الاجتماعي فيما يخص سيرة الأئمة(عليهم السلام) أي الوعي بسيرتهم فأنهم الأسوة في هذه الحياة بكل معانيها فأن عرض أخبار الماضين الصالحين والطالحين لأعظم عبرة ليس للفرد وحده بل للأمة والجماعة والمجتمع والشعب وغيرها من مفاهيم الاجتماع في عالمنا المعاصر.
ثم يذهب أمير المؤمنين(عليه السلام) مذاهب التاريخ النفسي ومدى تأثير الحالات النفسية وخاصة وأن العرض على القلب الذي ربما يرمز إلى العاطفة والتعقل والموازنة والمعيارية أو أنه هو الوجدان الذي قد يكون هو الدليل على الصحة وتحديد المسارات الحقيقية أو الأقربية منها أي الدخول في وعيه لا الخروج منه.
ركز الإمام(عليه السلام) على مسألة العرض والتذكير العرض على القلب وتذكيره بأخبار الماضين لذا قال(عليه السلام): (وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين)(2)،

والتذكير حالة نفسية مصاحبة للعاطفة والتأمل والنظر وأثر ذلك في الوعي الاجتماعي كمردود اجتماعي يتغير به السلوك وهو نوع من التربية.
وربما أعطى الإمام(عليه السلام) معاني الدرس النظري أولاً ثم تحول إلى معنى الدرس العملي وهكذا يدرس التاريخ كعلم نظري وعملي كالعلوم الطبيعية وهو ما وعته المدارس العلمية المتطورة فاهتمت بمادتين نظري وعملي فقد حدد الإمام(عليه السلام) دراسة أخبار الماضين بنوعين:
1ـ الدراسة النظرية (التفاعل القلبي مع الحدث).
2ـ الدراسة العملية (النظر في الآثار المادية ، الأطلال، الخطوط، المخطوطات…).
ففي الدراسة الثانية قال(عليه السلام): (وسر في ديارهم وآثارهم فانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا واين حلوا ونزلوا…الخ)(3).
هذا التحديد الوارد في النص الثاني يبين الفهم العملي الصوري لمخلفات الأحداث بل النظر المادي (الحسي) للإحداث الماضية ومخلفاتها وفيها أعلى معاني التدبر والعبر من النظر إلى الماديات والآثار والأطلال التي خلفها الأقوام أصحاب الحضارات السابقة ومادة تحكي قصة حياتهم بلا شخوص ملموسة بل آثار محسوسة تعبر بصمت عن الحقب الزمنية وما آل إليه مصيرها وهي من أعظم العبر عند الوقوف على تلك الآثار والنظر في الانتقال من حال إلى حال وهو ينطبق تمام الانطباق على حال الفرد أيضاً لذا نية الإمام(عليه السلام) بقوله : (وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم…)(4)

وهذه نتيجة للكبريات والصغريات من القضايا في هذا الوجود الممتلأ بالأسرار والعجائب فليس المنهج التجريبي المادي وحده من مصادر المعرفة فالعقل يدرك الكلية الغيبية أيضاً بالتأمل بالآثار والمخلفات وأن كانت صامتة لأنها تعبر عن حالة موجودة قد حدثت ثم أنها سوف تحدث لا محالة مثل انتقال الإنسان والحضارة من مكان إلى آخر ومن نتائج النظر والرؤية النظرية والعملية إصلاح المثوى وعدم بيع الآخرة بالدنيا كما هو مفهوم كلامه(عليه السلام): (فأصلح مثواك ولاتبع آخرتك بدنياك…الخ)(5)،

وهنا يحدد الإمام مفهوم التاريخ والعبرة منه بإصلاح المسيرة للوصول إلى هدف أسمى يأمله أهل البصائر والقلوب ثم أن المعيارية في اختيار القرار الصحيح بعد النظر العملي الذي يسبق البعد النظري والعرض النفسي أن الآخرة أسمى مقاماً وأعلى قدراً من الدنيا فلا تركن للثانية وهو تحذير من مغبة الانتقال بدون العبرة والنظر، ويعطي الإمام تجربته في الحياة بخصوص أخبار الماضين وكيف تعامل معها؟.
قال(عليه السلام): (وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم بل كأني بما انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم فعرفت صفو ذلك مع كدره ونفعه من ضرره فاستخلصت لك من كل أمر نخيله (جليله) وتوخيت لك جميلة وصرفت عنك مجهولة…الخ)(6).
هذا النص يبين عدة مفاهيم هي:
1ـ النظر في الأعمال.
2ـ الفكر في الأخبار.
3ـ السير في آثارهم.
4ـ الاندماج المعنوي.
5ـ الرؤية الكلية للأعمال (مع أولهم إلى آخرهم).
وانتهى النص بعدة نتائج هي:
1ـ معرفة الحقيقة الصافية.
2ـ معرفة النافع والضار من الأعمال.
ويبدو أن النص يضع مفهوم التاريخ موضع اهتمام الفرد والأمة لتخطي العقبات التي قد تتكرر أو اختصار بعض الحلقات التاريخية والوصول إلى الأهداف بمدة أقصر والابتعاد عن أعادة تلك الحلقات وهو مبدأ التطور الطبيعي المادي والمعنوي، أن النص يشير إلى أن الإمام(عليه السلام) يهتم في النتائج أكثر من المقدمات النظرية والعملية وهو لا يهتم بالجزيئات بل يجب إيجاد القاعدة الكلية للرؤية التاريخية للأحداث وتمييز النافع من الضار ثم اختيار الصافي النافع من خضم التحولات والتراكمات المعرفية وتطورها في مجال الواقعي، وهنا يشير الإمام(عليه السلام) إلى النظرة الواقعية للأحداث والابتعاد عن الأسطورة التاريخية وتضخم الأحداث أو إضفاء هالة كبيرة أثناء تناول الشخصيات التاريخية ومعرفة ذلك بالعرض على القلب أو هو المنهج العقلي في تناول الأحداث التاريخية بعيداً عن التضخم والهالات غير الواقعية بالنظر إلى الأعمال أو نتاج المرء في حياته مع استعراض المشتركات بين الأفراد أي نظر البدايات والنهايات ولا تنفك المرحلة الأولى عن الأخيرة في أيجاد صورة جميلة واضحة أو مجهولة غير واضحة لذا يقول(عليه السلام) بعد نظرة إلى أخبار الماضين: (فاستخلصت لك من كل أمر نخيلة (جليلة) وتوضيت لك جميلة وصرف عنك مجهولة…)(7)،
وهنا يشير الإمام علي(عليه السلام) إلى مسألة مهمة في الدرس التاريخي التدبرية للأحداث عن طريقين:
الأول: الاستخلاص.
الثاني: التوخي (التحري).
ونظرية الاستخلاص هي رفع الزوائد والهوامش التي لا تنفع فيها والدخول في جوهر الأمور أو لبابها واعتمادها كمسار للحياة العامة للفرد والأمة فليس كل تاريخ يهتم به ويعتمد فأن التاريخ بإطلاق لفظه هو عالم واسع ينقل الثقافات المتنوعة والمتعددة للشعوب والأمم ومع هذا نفيه خطورة الانحراف والمزالق وبالأخص التاريخ السياسي الذي كتبه المنتصر ولبس فيه الباطل بالحق وزين ظواهر الأمور لإضفاء صفة الشرعية الحكومية والأحقية الحكمية.
أن التعامل مع التاريخ السياسي يحتاج التحري عن الحق ومعرفة الحقائق بالنظر في التاريخ الاجتماعي والنفسي وتاريخ تطور الأفكار لأن التاريخ المعرفي هو تاريخ الاجتماع وعوامل تطوره وانهياره أما تاريخ السياسة والحكم ففيه لبس كبير وعبره وعظة عظيمة لأن تغير الحكام والملوك ظاهرة عمت تاريخ البشرية السياسي بل أنه ظلم الأنسانية أكثره وقع من التاريخ السياسي ووصول الملوك والحكام إلى كرسي الحكم، وهنا ينبه أمير المؤمنين(عليه السلام) على تدبر أحوال هؤلاء والنظر في أوائل أمورهم وأواخرها وهنا يتدبر العاقل ما حل بهؤلاء فيعرف مواطن النفع ومواطن الضرر ويستخلص ويتحرى ما آلت إليه أمورهم من عواقب الأيام والدهور.

نشرت في العدد 38


(1) نهج البلاغة ص:537، شرح صبحي الصالح.
(2) نهج البلاغة، ص: 537.
(3) نهج البلاغة، ص: 537.
(4) نهج البلاغة، ص:537.
(5) نهج البلاغة، ص:537.
(6) نهج البلاغة، ص:539.
(7) نهج البلاغة، ص: 539.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.