يحفل سجل التاريخ القديم بنصوص لا يشك المرء من الوهلة الأولى أنها من بنات خيال الإنسان، بخاصة تلك التي تتحدث عن عالم يرى فيه الإنسان أخاه الإنسان عن بعد أو يتحدث إليه عبر القارات، أو يتصل به عبر فضاءات غير مرئية، فلم يكن الواقع الإنساني يتصور إمكان التخاطب عن بعد، ولذلك عمد أكثر الناس إلى تجاهل مثل هذه النصوص ورميها في سلة الخيال الخصب، وبعض ـ وعلى أسس عقيدية ـ رفضها جملة وتفصيلاً، والبعض الآخر على الأسس نفسها تقبلها بقبول حسن واضعا إياها في خانة الإخبار الغيبي القابل للتطبيق في قابل الزمان.
والكثير مما كان في عالم الإستحالة انتقل في عصر المعلومات إلى عالم الإمكان، فرفع ذلك من وتيرة فضول بعض المهتمين في نصوص التاريخ إلى محاولة اكتشاف الغامض من النصوص، لكن هذا البعض قاصرٌ عن التحقق من النصوص بوسائل علمية حديثة، لأنها في معظمها حكر على حكومات ومؤسسات غربية لا تدع للآخر معرفة أسرارها، كما أن دول الشرق بشكل عام لا تمتلك مثل هذه المؤسسات البحثية والدراساتية، أو لا يراد لها أن تمتلك ناصية العلم وأن تدخل مضمار العلوم الحديثة، على أن البعض مع اكتناز خزينة النصوص الإسلامية للكثير من الدرر العلمية غير واعين لأهمية هذا الكنز النفيس، ولهذا كلما استجد على ساحة العلم جديد تباروا لبيان أفضيلة الإسلام وعدم تقاطعه مع العلم والتأكيد بأن هذا المكتشف العلمي أو ذاك من صميم الإسلام، وأن الإسلام سبق الآخرين في البت فيه، وما إلى ذلك من أقوال تعبر عن حسرة وغصة، لكننا نعدم الوسائل التي تترجم هذه النصوص إلى حقائق علمية تجريبية وحسية، فانشغلنا بلعبة التفاخر والإعجاز وتفرّغ الآخر لآلة التطور والإنجاز.
أما الأسوأ من هذا أن البعض لا يكتفون برفض النصوص الحديثية أو القرآنية التي تستبطن مظاهر المدنية العلمية أو تستظهرها وتحث المسلمين على الوغول في تلافيفها، فإنهم يرفضونها بدعاوى كثيرة جاعلين الشيطان هو المدخل إلى رفض الجديد حتى وإن كان في خدمة الإنسان، فكل جديد نسب إلى الشيطان، في محاولة للحجر على عقل الإنسان، وإن كان يخبر هذا التصرف غير العقلائي عن كينونة هؤلاء البعض القائمين أصلا على التحجّر، فهم يظللون الناس عن مستنقع جمودهم بوصم الجديد بالشيطنة، فمثل هؤلاء كما يؤكد الفقيه الشيخ الدكتور محمد صادق الكرباسي عند تناوله لوسائل الاتصال الحديثة في كتاب (شريعة الإتصالات) الصادر حديثا عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 48 صفحة من القطع الصغير مع تقديم وتعليق الفقيه الشيخ حسن رضا الغديري: (لم يميزوا بين الإبتداع في الدين أو في غيره، بل ولم يميزوا ما يُنسب إلى الدين أو إلى غيره، ومن هنا نشأت فكرة التكفير بمجرد مخالفة الرأي الآخر لاجتهادهم البليد الناشئ عبر عقول متحجرة وأفكار نامية في قرى التخلف).
الآلة الصماء
لقد جرت قاعدة الإباحة مجرى المسلمات، فكل شيء مباح للإنسان تصنيعا واستعمالا إلا ما قيده نص وأخرجه من الإباحة والحلية، وهذه القاعدة هي المبتنى في كل جزئية من جزئيات الحياة الدنيا، فلا يمكن وصم الجديد بالبدعة بحجة أن الأجداد لم يعهدوه وجوداً واستخداماً، أو أن البعض استعمل الشيء الجديد في موارد غير صحيحة معارضة للشرع والعرف، فالآلة تبقى هي آلة صماء يستنطقها لسان الاستعمال، فإن استعملت في الخير كانت لسان حق وإن استعملت في الشر كانت لسان باطل، وحسب تعبير آية الله الكرباسي: (فإن الآلات الحديثة والتأليت الحادث عبر التطور المستمر يخضع للنظام الإسلامي العام، فما استخدم في وجوه الصلاح والإصلاح فجائز، وما استخدم في وجوه الفساد والإفساد فهو محرّم، فالاستخدام هو المهم، أما الآلة فهي جامدة كالسكينة إن استخدمتها لأغراض مباحة وإنسانية فهي محللة، وان استخدمتها للقتل والطعن فهي محرمة، فهي ذات وجهين تتحدد بنوعية الاستخدام، إلا إذا خصصت لأجل ما هو محرّم دون شك ولا ريب).
ومن طريف ما يذكر في مجال التطور العلمي على صعيد الاتصالات، أن الهاتف دخل دولة عربية للتو وعندما حضر احد كبار رجال الدين مجلس الحاكم وجد إلى جانبه جهاز الهاتف وعندما حاول الحاكم استخدامه نهره العالم ناعتا الهاتف بالشيطان، فاحتال الحاكم على رجل الدين بأن أوعز لأحد موظفي القصر أن يتلو عبر الهاتف آيات من الذكر الحكيم، ولما استمع العالم إلى القرآن يصدر من الهاتف، عاجله الحاكم بالسؤال: وهل يمكن للشيطان أن يتلو القرآن يا مولانا؟ فأُسقط في أيدي العالم وتقبل الأمر على مضض كون الهاتف ليس بشيطان رجيم!
فالعبرة في نوعية الاستخدام لا في أصل الجهاز، فوسائل الاتصال، ومنها القنوات الفضائية، واحدة مما أشارت إليها النصوص، فقد ذكر الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) في بيان علامات آخر الزمان عند الحديث عن المهدي الموعود(عليه السلام): (إن المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق ليرى أخاه الذي الذي في المغرب، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي في المشرق) (منتخب الأثر: 483)، فهناك قنوات تنشر الفضيلة وأخرى تنفث الرذيلة، والأمر نفسه مع آلة الهاتف، ولذا يؤكد الفقيه الكرباسي أن: (الاستخدامات المحرّمة لا توجب حرمة الأدوات، فلو أن الهاتف أصبح وسيلة للدعارة فإن الهاتف لا يصبح محرماً بل استخدامه في هذا الغرض محرّم) وذلك كما يعقب الفقيه الغديري: (لتبعية الأحكام لأغراض الأعمال ولا علاقة لها بالأدوات بما هي، إلا إذا وضعت للأعمال المحرّمة، ولا يمكن الاستفادة منها في غير المحرّم).
اتصالات وحضارات
كل ما في الوجود مسخر لخدمة الإنسان، فحريته وكرامته مقدمة على كل شيء، والتنوع في الملل والنحل، والأبدان والأديان، واللغات والصفات، مدعاة للتقارب البشري والتعاون على البر والتقوى لإعمار الأرض وإحيائها، ولا وسائل علمية كوسائل الاتصال أدل على مركزية التقارب البشري الذي يقرب البعيد ويعزز القريب، مما يجعل البشرية بقاراتها السبع أسرة واحدة إذا جمعتها السياسة في منظمة الأمم المتحدة جمعها العلم عبر وسائل الاتصالات والإرسال، من هاتف بكل تفريعاته من مسموع ومقروء ومرئي ومصوّر أو مذياع أو عدسة فضية (تلفزة) أو بريد كهربي (إلكتروني) أو شبكة بينية (الإنترنيت)، لأن من مفاهيم الاتصالات كما يشير المعد، أن: (الإتصال هو تقارب الشيئين واقترانهما، ومنه اتصال النيّرين الشمس والقمر أي اقترانهما واستقبال أحدهما بوجه الآخر).
ومن الاتصال يحصل التقارب ومن التقارب يتحقق التفاهم على تذليل الصعوبات والتوافق على تحييد الاختلافات، ولهذا فإن أي تطور باتجاه تقريب النفوس يعد خطوة مباركة، من حيث أن التطور المعرفي الخاص بالاتصالات كما يعتقد الدكتور الكرباسي له مدخلية كبيرة في تقليص الخلافات بين الأقوام وهو: (الطريق الأنجع إلى تلاقي الحضارات وفهم الشعوب والأمم بعضها للآخر).
ولا شك أن استخدام وسائل الاتصال الحديثة يدخل في نطاق حرية الإنسان، بيد أن الحرية ليست مفتوحة النهايات والمديات، وليست هي حرية مقيدة قصيرة المساحات والمسافات، وإنما هي حرية مسؤولة تقدر حق الأنا وتحترم رغبة الآخر، فلا يجوز على سبيل المثال استخدام الهاتف المصور من غير رضا الطرف الآخر قريبا كان أو بعيدا، ومن ذلك كما يشير الكرباسي: (هناك أشخاص لا يرغبون الاتصال بغير مكاتبهم جعلوا البيت مكاناً للراحة وللعائلة فالاتصال بهم، مع العلم بعدم رغبة الطرف الآخر، محرّم)، فالناس مسلطون على أنفسهم، فلا يصح التدخل في شؤونهم بلا رقيب أو حسيب، ومن ذلك تعمد بعض الشركات الإعلانية إلى استئذان صاحب البريد الكهربي (الالكتروني) فيما ترسل إليه من إعلانات وتعطيه الخيار في الاستمرار أو رفضه، لإدراكها بأهمية حرية التلقي وتلافيا للإزعاج.
وعلى مستوى الأمة، فإن اختراق قوانين البلد، أو التعدي على حقوقه جريمة يعاقب عليها القانون الوضعي فضلا عن الحرمة الشرعية، فعلى سبيل المثال، أن: (نشر أية أخبار كاذبة أو كشف أية أسرار لأشخاص أو دول محترمة الحقوق عبر هذه الوسائل لا يجوز)، وهذا دائر مدار مخالفة القانون أو احترامه، وعلى الإنسان احترام قوانين البلد، ذلك أن: (مخالفة القوانين العامة التي وضعت لأجل الحفاظ على البيئة أو الإنسان محرّم، كما لو منعت السلطات الخاصة من استخدام الهاتف النقال أثناء السياقة فإن مخالفة ذلك محرّم، وبالأخص إذا كانت الدولة محترمة القوانين)، لأن المدار كما يؤكد الفقيه الغديري، هو أن: (الإلتزام العام يقتضي رعاية جميع القوانين الموضوعة لأفراد المجتمع وإذا كانت هناك شبهة شرعية فيقتصر عليها حسب المورد).
واحترام القوانين الموضوعة لخدمة الإنسان وتنظيم عمل وسائل الإتصال واجب على الإنسان بغض النظر عن البلد موطنا كان أو مهجرا، بلدا مسلما كان أو غير مسلم، ولذلك يرى الفقيه الغديري أن احترام القانون سيان في البلد المسلم أو غير المسلم، ذلك أنه: (إذا كانت الدولة غير مسلمة والتزم الإنسان برعاية قوانينها ضمن القرار العام، فيجب العمل حسب التعاقد، كما هو الحال للمسلمين المقيمين في البلاد الغربية فإنهم ملزمون باحترام قوانين تلك الدول أولا وبالذات، وثانيا بالعرض، أي أصالة أو بالتبع)، وفي اعتقادي أن مسؤولية المسلم في البلدان غير المسلمة تعظم وتكبر، لأن وسائل الإعلام على الأعم الأغلب، وهي جزء من وسائل الاتصالات، ناظرة إلى فعال المسلمين وأدائهم لا إلى أصل الإسلام وقواعده، ولهذا فأية إساءة للقوانين تنعكس سلبا على الإسلام والمسلمين، لأن المجتمعات غير المسلمة تقرأ الإسلام عبر صفحات كف المسلم وما تجنيه يداه فإن أحسن أحسن للإسلام وإن أساء أساء للإسلام!
معالجات حديثة
ومن الطبيعي أن كل وسيلة أو آلة خاضعة لقانون المنفعة والمضرة، دون أن تدخل حيز التحريم الكلي، كما أن إحترام القوانين لا يعطي الحق الكامل للسلطة الاعتداء على حقوق المجتمع وحريته، وإن كانت الحكومة منتخبة، إلا في إطارات ضيقة للغاية، تفرضها المصلحة العامة من باب تغليب العام على الخاص، فكما لا يجوز استخدام وسائل الاتصال في أي وجه من وجوه الحرام فإنه وبنظر الفقيه الكرباسي: (لا يجوز للشركة المسؤولة أو الدولة التنصت على المكالمات الهاتفية وكل وسائل الاتصال إلا في ظروف استثنائية وبإذن حاكم الشرع) والسبب في ذلك كما يشير الفقيه الغديري: (لكونه من مصاديق التجسس المحرّم، ولا يجوز التدخل في الشؤون الشخصية إلا أن يكون هنا داع آخر من حفظ الدين والبلد الإسلامي وأمثاله، فيتوقف الأمر حينئذ على الإذن من الحاكم الشرعي، وفي ظروف معيّنة وشرائط خاصة، من غير تعدٍّ للقيود المحدّدة).
وفي جانب آخر لا يصح استخدام وسائل الاتصالات الحديثة للترويج إلى ما هو محرّم ومناف للأخلاق والفطرة الإنسانية والأعراف الإجتماعية السليمة، من هنا: (لا يجوز استخدام هذه الوسائل في الأمور المحرمة كالدعاية للخمر والفاحشة أو نقل بيانات الإرهابيين والقتلة وما فيه تقوية لهم ولأعداء الإسلام والمسلمين)، وبإزاء هذه الحرمة في التبليغ لدعاة الإرهاب والتطرف الذين يستغلون وسائل الاتصال الحديثة للوصول إلى عقل الإنسان والتشويش على فطرته السليمة واستغفال القصّر والشباب والشابات، فإنه من باب أولى: (لا يجوز بأي شكل من الأشكال استخدام الهواتف النقالة في الأعمال الإنتحارية والتفجيرات)، والمسألة لا تحتاج إلى عناء تفكير، والعلة كما يؤكد المعد: (لكونه من مصاديق المعاونة في قتل النفوس ونهب الأموال وإيجاد الخوف في قلوب الناس وسلب الأجواء الأمنية في المجتمع ونقض السلام وهدم بُنية الحياة الإجتماعية، وغصب حقوق البشر، وتقوية روح الإرهاب وتنمية فكرة العنف) وليس هذا الكلام ببعيد عن تفكير الفقيه الغديري وإيمانه بحرمة العمليات الإنتحارية حتى وإن ألبسها دعاتها لبوس العمليات الإستشهادية.
في الواقع أن (شريعة الإتصالات) التي تضمنت (76) مسألة فقهية حديثة تتناول قضية إفرازات الثورة العلمية في مجال الإتصال مع (82) تعليقاً غنيا بمفاهيم إسلامية وشرعية تواكب العصر وتطوره، تمثل قفزة نوعية في مجال التأسيس لفقه معاصر يعالج كل مستجدات العلم الحديث بما يغني المجتمع ويضع المرء على جادة الصواب ويحمي المعمورة من سلبيات العلوم الحديثة وتداعياتها .