Take a fresh look at your lifestyle.

الصلات التاريخية والحضارية بين النجف والحيرة

0 1٬060

            ارتبط تاريخ مدينة النجف ارتباطاً تاريخياً وحضارياً وثيقاً بمدينة الحيرة، هذا الارتباط لاشك أنه أكسب هذه المدينة دوراً مهماً لا يغفله الباحثون عند تصaديهم لكتابة تاريخها وتدوينه في صفحات الكتب.
على الرغم من أن الجذور التاريخية لمدينة النجف يعود إلى عصور قديمة سبقت هذه الفترة، إذ أن تاريخها لم يبدأ بنشوء مملكة الحيرة العربية كما يتصور البعض، لكن هو أبعد من ذلك زمنياً، إذ هناك كثير من النصوص المتناثرة في بطون المصادر تعطيها بعداً زمنياً يسبق هذا، فهناك إشارة واضحة من بعض الروايات إلى مرور نبي الله إبراهيم(عليه السلام) فيها، بل واشتراها من قبل السكان المحيطين بها، واستوطن فيها كما نقل ذلك ياقوت الحموي(1)، لاشك ان هذه لرواية تدلل على البعد التاريخي لهذه المدينة، بل وسبقت ظهور الحيرة على المسرح الحضاري بمئات السنين، وهناك روايات ونصوص أخرى لسنا هنا في صدد التعرض لها في هذا البحث.
أشارت بعض المصادر الجغرافية والتاريخية بان الحيرة على النجف(2)، وقال ياقوت الحموي: (الحيرة مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة على موضع يقال له النجف)(3)، وإلى مثل هذا القول أشار أبي الفداء بقوله: (والحيرة على موضع يقال له النجف)(4). وكذلك القلقشندي استند على ما ذكره السابقون بقوله: (والحيرة على موضع يقال له النجف)(5).
ومن هنا نلاحظ ان الحيرة نشأت في البقعة الجغرافية التي تعرف بـ(النجف) فكان لابدّ أن تضاف الحيرة إلى النجف فيقال: (حيرة النجف)، إلا أن العادة جرت بتعريف الغامر بالعامر فأضيفت النجف إلى الحيرة، فقيل النجف الحاري)(6)، وهذا ما أكده عبد المحسن شلاش بقوله: (وأما النجف فهو جزء من حيرة العرب(7)، وقصد بذلك الارتباط التاريخي والحضاري بين النجف والحيرة، ولبعض أهل الكوفة شعراً يشير إلى هذا الأمر(8):
وبالنجف الجاري إذا زرت أهله
مهاً مهملات ما عليهن سائس
خرجن بحب اللهو في غير ريبة
عفائف باغي اللهو منهن آيس
يردن إذا ما الشمس لم يخش حرها
ظلال بســاتين جنــاهن يابس
ونرى كذلك هذا واضحاً في الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) حيث تشير إلى مصطلح (نجف الحيرة) فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: (إني لما كنت بالحيرة عند أبي العباس كنت آتي قبر أمير المؤمنين(عليه السلام) ليلاً وهو بناحية نجف الحيرة إلى جانب الغري)(9)، وإلى هذا المعنى المتقدم أشار الشاعر البحتري بقوله(10):
أرمق الكـوفـة أرضـاً وأرى
(نجف الحيرة) أرضاها وطن
ويرجع بناء مدينة الحيرة وتأسيسها إلى الملك الكلداني نبوخذ نصر الثاني (604ـ562) ق.م حيث إنه جمع تجار العرب وبنى لهم حيرا على النجف وحصنه ثم ضمهم فيه ووكل بهم حرسا وحفظه(11)، ولذا فسر البعض تسمية الحيرة نسبة إلى الحير التي بناها نبوخذ نصر(12) وجاءت التنقيبات الأثرية في منطقة الحيرة لتؤكد هذا الأمر، حيث عثرت على مخلفات مادية يرجع.منها إلى العصر البابلي الحديث(13).
واقترنت أهمية الحيرة وظهورها كمدينة لها سماتها التاريخية والحضارية بنشوء مملكة المناذرة الذين اتخذوا الحيرة عاصمة لهم(14) وأصبح لها كيانها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، متمثلاً ذلك بسيطرتها على الأراضي الواقعة في شرق جزيرة العرب، حيث أخذ يمتد سلطانهم ونفوذهم من أطراف العراق إلى البحرين وإلى جبل طي(15).
وبحكم سيطرة الدولة الساسانية على العراق كان لابدّ لحكام هذه الإمارة ان يتمتعوا بعلاقات مرنه تسوقها المصالح المتبادلة بين الطرفين، لذا كانت هذه من أهم العوامل المساعدة وراء توسع نفوذ هذه المملكة وانتعاشها واستمرار زيادة نفوذها على القبائل القاطنة في المنطقة من مذحج، وحمير، وطي، وكلب، وتميم(16)، لذا جعل الساسانيون من هذه المملكة دولة حاجزة بينهم وبين القبائل العربية التي كانت تقوم بغارات مستمرة على أطراف السواد من حدود العراق الجنوبية الغربية تاركين عناء الدفاع عن هذه التخوم لملوك الحيرة(17)، وكقوة عسكرية بوجه الدولة الرومانية(18)، وإلى مثل هذا كان هدف الرومان نفسه في موضوع علاقاتهم بالغساسنة(19).
وما الخندق الذي حفره شابور ذو الأكتاف (309ـ379م) المسمى بـ(خندق سابور) الذي يبدأ من جنوب مدينة هيت بنحو سبعة عشر كيلومتر ويمتد على طول الحدود الغربية لأرض العراق السهلة وينتهي في الخليج العربي قرب مصب نهر بوبيان مدخل مصب نهر الفرات الواقع على بعد 30كم إلى الغرب من شط العرب وإلى الشرق من جبل سنام(20) (وبنى عليه المناظر والجواسق ونظمه بالمسالح ليكون ذلك مانعاً لأهل البادية من السواد)(21).
وقد نسب بعض المؤرخين حفر هذا الخندق إلى نبوخذنصر، وهذا ما اعتمده الامريكي بتزر(22)، بينما نسبه البعض الآخر إلى الملك الساساني انوشروان (531 ـ578)(23).
ولم يبق اليوم من آثار هذا الخندق الكبير سوى الجزء الفاصل بين مدينة النجف والكوفة ويطلق عليه اسم (كري سعدة)، ولا تزال هناك آثار نهر مندرس بالقرب من مدينة الرمادي يحمل نفس الاسم المتقدم تنتشر بعض القبور فوق ضفافه من العهد الساساني(24).
وكانت هذه المحاولات لصد هجمات القبائل الغربية المتكررة وإيقافها على السواد إلا انه لم يكن بمقدور الساسانيين حكم القبائل العربية في العراق بشكل مباشر، بل تركوا أمر ذلك لملوك الحيرة(25)، الذين استطاعوا بصورة أو بأخرى من بسط دائرة نفوذهم وسيطرتهم على هذه القبائل، أما بمنح رؤسائهم بعض الفوائد المالية، أو عن طريق استخدام القوة العسكرية(26).
أما صلة النجف بالحيرة، فقد أسست هذه المملكة العربية على منطقة النجف التي تقع ضمن بقعة جغرافية محددة، وكان يطلق على النجف مصطلح (الظهر) أو (ظهر الحيرة) نتيجة لارتفاع النجف عنها كما ذكرنا سابقاً، وتعتبر النجف ضاحية من ضواحي الحيرة يختلف إليها ملوك الحيرة وأمراؤها طلباً للراحة والاستجمام، وذلك لاعتدال مناخها، وعذوبة هوائها، كما اتخذوها مصحة (للأجسام العليلة ومنجاة من الأمراض الوبيلة)(27)، ويرى الاصطخري ان: (هواؤها وترابها أصح من الكوفة)(28)، وأيد ذلك إسحاق الموصلي عندما زار النجف مع الخليفة العباسي الواثق (227ـ232هـ) بقوله(29):
يا راكب العيس لا تعجل بنا وقفِ
نحيي داراً لسـعدى ثـم ننصرفِ
ما إن أرى الناس في سهل ولا جبل
أصفى هواء ولا أعذى من النجف
كــأن تربــته مسك يفــوح به
أو عنـــبر دافه العطار في صدف
حفت ببـــر وبحر من جوانبها
فالبر في طرف والبحر في طرف
وبين ذاك بســـاتين يسيح بها
نهر يجيش بجاري سيله القصف
ومــا يــزال نســيم من أيامنه
يأتيك منها بريّاً روضــة أنــف
تلقاك منه قبيل الصبح رائــحة
تشفي السقيم وقد أشفى على التلف
وعليه أصبحت منطقة الظهر متنزهاً لملوك الحيرة، حيث كانوا يخرجون إليها للاستمتاع بالمناظر الجميلة وللصيد والقنص(30).
وقد امتدت حضارة المناذرة لها، فأنشأت فيها القصور والقلاع، والحصون، والمعابد والأديرة وغيرها، ولم يقف الأمر عند أمراء الحيرة فحسب وإنما تعدى ذلك إلى أثريائها حيث يذكر الدكتور جواد علي: (أما نواحيها – الحيرة فكانت قد بنيت على بحر النجف وعلى شاطئ الفرات، وربما كانت مزارع الحيرة وأملاك أثريائها قائمة على جرف البحر…)(31).
وقد اكتسبت النجف كمنطقة أبعاداً حضارية لارتباطها بمملكة الحيرة بما بني على أرضها أديرة وقصور وقلاع، وما قصر الخورنق والسدير إلا عنواناً من عناوين حضارتها في النجف.

نشرت في العدد 37


(1) معجم البلدان، 1/331.
(2) اليعقوبي، البلدان، ص69.
(3) معجم البلدان، 2/328، البغدادي، مراصد الاطلاع، 2/441.
(4) تقويم البلدان، ص299.
(5) صبح الاعشا في صناعة الانشا، 4/333.
(6) مصطفى جواد،، النجف والحيرة، بحث مستل من موسوعة العتبات المقدسة “القسم الخاص بالنجف”، 1/ ص26.
(7) مدينة الكوفة في التاريخ وآثار الحيرة فيها، مجلة الاعتدال، العدد الخامس، السنة الثانية، 1934، ص212.
(8) الحموي، معجم البلدان، 5/272.
(9) ابن طاووس، فرحة الغري، ص58، المجلسي، بحار الأنوار، 100/244.
(10)، ديوان، ص309.
(11) الطبري، تاريخ، 1/612، مسكويه، 1/52، ابن الأثير،الكامل في التاريخ، 1/153، جوادعلي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 1/349.
(12) غنيمة، الحيرة، ص11.
(13) مديرية الآثار العامة، دليل المواقع الأثرية، بغداد، 1970، ص43.
(14) عبد الحميد بخيت، المجتمع العربي الإسلامي، ص73.
(15) صالح أحمد العلي، امتداد العرب في صدر الإسلام، مجلة المجمع العلمي العراقي، ج32، 1981، ص19.
(16) عبد الحميد الدجيلي، الحيرة وشعراؤها، مجلة الاعتدال، العدد الثاني، السنة الأولى، 1933، ص82.
(17) إبراهيم محمد علي، المناذرة دراسة سياسية حضارية (628 – 602م)، رسالة ماجستير، غير منشورة، كلية الآداب، جامعة الموصل، 1982، ص22.
(18) أحمد عطية الله، القاموس الإسلامي، 2/198.
(19) سالم أحمد محل، دور العرب في الصراع مع الساسانيين والبزنطيين، مجلة آداب الرافدين جامعة الموصل، العدد السادس عشر، تشرين الثاني 1986، ص381.
(20) الحموي، معجم البلدان، 20/392.
(21) ياقوت، معجم البلدان، 2/392، البراقي، تاريخ الكوفة، ص143، لسترانج، بلدان الخلافة الشرقية، ص90.
(22) جعفر الخياط، النجف في المراجع الغربية، بحث مستل من موسوعة العتبات المقدسة (قسم النجف)، 1/244.
(23) أحمد سوسة، تاريخ حضارة وادي الرافدين في ضوء مشاريع الري الزراعية والمكتشفات الأثرية والمصادر التاريخية، 2/283.
(24) رشاد الخطيب الهيتي، هيت أخبارها القديم والحديث، 1/24.
(25) نيكلس، تاريخ الأدب العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، ص22.
(26) كستر، الحيرة ومكة وصلتها بالقبائل العربية، ص33.
(27) جواد، النجف مصحة قديمة، بحث مستل من موسوعة العتبات المقدسة (قسم النجف)، ص23.
(28) المسالك والممالك، ص58.
(29) الأصفهاني، الأغاني، 5/180، الحموي، معجم البلدان، 5/271.
(30) جواد علي، المفصل في تاريخ العرب، 4/680.
(31) المصدر نفسه، 3/158.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.