لقد دأب خلفاء بني العباس على استدعاء أئمة أهل البيت(عليهم السلام) من المدينة المنورة، عاصمة العلم والشريعة، إلى بغداد وسامراء وخراسان عواصم السلطات الحاكمة، ليكونوا تحت الرقابة والمتابعة الجاسوسية، وليُطوَّق نشاطهم الفكري وغيره، فيعزلوهم عن شيعتهم وأنصارهم المتعاطفين معهم، فقد زجّ الرشيد العباسي الإمام الكاظم موسى بن جعفر(عليهما السلام) في السجن حتى استشهد فيه، وكما لاحقت السلطات العباسية آباءه وزجت بهم في السجون وبثّت من حولهم الجواسيس والعيون، فقد لاحقت الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) وأحاطته بالرقابة، وأحصت عليه تحرّكه، لتشلّ نشاطهُ الفكري وغيره، وتحول بينه وبين ممارسة دوره القيادي في أوساط الأمة.
لذلك فقد لجأ الإمام إلى العمل من خلال بناء علاقات خفيّة مع الأتباع والوكلاء، وأحكم تلك العلاقات، وتُفْصِحُ الوثائقُ التاريخية المتوفرة بين أيدينا عن ذلك الأسلوب الدقيق بوضوح كامل، نذكر منها:
1 ـ روى علي بن جعفر، عن حلبي، قال: اجتمعنا بالعسكر، وترصّدنا لأبي محمد(عليه السلام) يوم ركوبه، فخرج توقيعه: (ألا لا يسلِّمنّ عليَّ أحد، ولا يشير إليَّ بيده، ولا يومئ، فإنكم لا تأمنون على أنفسكم)، قال: وإلى جانبي شابٌّ، فقلت: من أين أنت؟ قال: من المدينة، قلت: ما تصنع هاهنا؟ قال: اختلفوا عندنا في أبي محمد(عليه السلام)،
فجئتُ لأراه وأسمع منه أو أرى منه دلالةً ليَسْكُنَ قلبي وإني لولد أبي ذر الغفاري.
فبينما نحن كذلك إن خرج أبو محمد(عليه السلام) مع خادم له، فلما حاذانا نظر إلى الشاب الذي بجنبي، فقال: (أغفاريٌّ أنت؟) قال: نعم، قال: (ما فعلت أمُّك حمدوية؟) فقال: صالحة، ومرَّ. فقلتُ للشاب: أكنتَ رأيتهُ قطُّ وعرفتهُ بوجهه قبل اليوم؟ قال: لا، قلتُ: فينفعُكَ هذا؟ قال: ودون هذا(1).
2 ـ روى أبو هاشم الجعفري، عن داود بن الأسود، وقادِ حمام أبي محمد(عليه السلام)،
قال: دعاني سيدي أبو محمد، فدفع إليَّ خشبة، كأنها رجل باب مدورة طويلة، ملء الكفّ فقال: (صر بهذه الخشبة إلى العمري)، فمضيتُ، فلما صرت إلى بعض الطريق عرض لي سقاءُ معه بغل، فزاحمني البغل على الطريق، فناداني السقاء صح على البغل، فرفستُ الخشبة التي كانت معي، فضربتُ البغل، فانشقت، فنظرت إلى كسرها فإذا فيها كتبٌ، فبادرتُ سريعاً فرددت الخشبة إلى كمّي، فجعل السقاء يناديني ويشتمني، ويشتم صاحبي، فلما دنوت من الدار راجعاً استقبلني عيسى الخادم عند الباب، فقال: يقول لك مولاي: (لِمَ ضربتَ البغل، وكسرتَ رجل الباب)، فقلت له: يا سيدي! لم أعلم ما في رجل الباب، فقال: (ولِمَ احتجتَ أن تعمل عملاً تحتاجُ أن تعتذر منه، إياك بعدها أن تعودَ إلى مثلها، وإذا سمعتَ لنا شاتماً فامض لسبيلك التي أمرتَ بها، وإياك أن تجاوب من يشتمنا، أو تعرِّفه من أنت، فإننا ببلد سوء، ومصر سوء، وامض في طريقك، فإن أخبارك وأحوالك ترد إلينا، فاعلم ذلك)(2).
3 – عن محمد بن عبد العزيز البلخي، قال: أصبحتُ يوماً فجلستُ في شارع الغنم، فإذا بأبي محمد(عليه السلام) قد أقبل من منزله، يريدُ دار العامة، فقلتُ في نفسي: تُرى إن صحتُ أيها الناس هذا حجّة الله عليكم فاعرِفوهُ، يقتلوني؟ فلما دنا منِّي، أومأ بإصبعه السبابة على فيه: أنِ اسكُت، ورأيته تلك الليلة يقول: (إنما هو الكتمان أو القتل، فاتق الله على نفسك)(3).
4 ـ روى أحمد بن محمد، عن جعفر بن الشريف الجرجاني قال: حَجَجتُ سنة، فدخلت على أبي محمد(عليه السلام) بسُرَّ من رأى، وقد كان أصحابنا حملوا معي شيئاً من المال، فأردتُ أن أسأله إلى مَن أدفعُهُ فقال قبل أن أقول ذلك: (ادفع ما معك إلى المباركِ خادمي). قال: ففعلتُ وخرجتُ، وقلتُ: إن شيعتَكَ بجرجان يقرأون عليك السلام(4).
5 ـ وروى سعد بن جناح الكشي، قال: سمعتُ محمد بن إبراهيم الورَّاق السمرقندي يقول: خرجتُ إلى الحجّ فأردتُ أن أمرّ على رجل كان من أصحابنا معروف بالصدق، والصلاح والورع والخير، يقال بَوْرَق البوشنجاني (قرية من قرى هراة) وأزوره وأحدث به عهدي… إلى أن قال: فقال له بورقُ خرجتُ حاجاً، فأتيتُ محمد بن عيسى العبيدي، فرأيتهُ شيخاً فاضلاً، في أنفِهِ اعوجاج، وهو القنا، ومعه عدة رأيتهم مغتمِّين محزونين.
فقلت لهم: ما لكم؟ فقالوا: إن أبا محمد(عليه السلام) قد حبس، قال بورق خرجت حاجاً، فأتيت محمد بن عيسى ووجدته قد انجلى ما كنت رأيت به، فقلت: ما الخبر؟ فقال: قد خلي عنه).
6 ـ ومن الوثائق الدالة على دور الإمام السياسي وبنائه لعلاقة منظمة مع أتباعه، ما أورده ابن شهرآشوب، قال: كتب أبو محمد(عليه السلام) إلى أهل قم وآبه(5): (إن الله تعالى بجوده ورأفته قد منَّ على عبادة بنبيِّه محمد(صلى الله عليه وآله) بشيراً ونذيراً ووفقكم لقبول دينه وأكرمَكُم بهدايتِهِ وغرسَ في قلوب أسلافكُم الماضين رحمة الله عليهم وأصلابكم الباقين تولى كفايتهم وعمرهم طويلاً في طاعته، حبّ العترة الهادية فمضى من مضى على وتيرة الصواب ومنهاج الصدق وسبيل الرشاد فوردوا موارد الفائزين واجتنوا ثمرات ما قدموا ووجدوا غِبّ ما أسلفوا)(6).
7 ـ وروى الكشِّي في رجاله: ورد على القاسم بن العلا نسخة ما كان خرج من لعن ابن هلال، فكان ابتداء ذلك أن
كتب(عليه السلام) إلى قوامه بالعراق: (احذروا الصوفي المتصنع)(7).
8 ـ قال أبو الحسن، علي بن محمد بن خشاب (أبو حباب) حدثنا أبو الأديان قال: كنتُ أخدِمُ الحسنَ بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)،
وأحمل كتبه إلى الأمصار، فدخلت إليه في علته التي توفي فيها (صلوات الله عليه) فكتب معي كتاباً وقال: (تمضي به إلى المدائن)(8).
9 ـ قال ابن شهر آشوب متحدِّثاً عن وكلاء الإمام وممثِّليه: من ثقاته علي بن جعفر قيم لأبي الحسن، وأبو هاشم داود بن القاسم الجعفري وقد رأى خمسة من الأئمة، وداود بن أبي يزيد النيسابوري، ومحمد بن علي بن بلال، وعبد الله بن جعفر الحميري القمي، أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري، والزيات، والسمان، وإسحاق بن ربيع الكوفي، وأبو القاسم جابر بن يزيد الفارسي، وإبراهيم بن عبدة بن إبراهيم النيسابوري.
ومن وكلائه محمد بن أحمد بن جعفر، وجعفر بن سهيل الصيقل وقد أدركا أباه وابنه(9).
وبالتأمل في تلك النصوص الوثائقية، ندرك أن للإمام أتباعاً في كل أنحاء العالم الإسلامي، وأن له وكلاء وممثلين عنه، وثقات يثق بهم ويعتمدهم في عمله العلمي وغيره لإدارة أتباعه وتشكيله المحرك لجماهير الأمة وللرأي العام والمهيّأ لقيادة أهل البيت(عليهم السلام). ونستطيع أن نلتقط العبارات الدالة على ذلك بوضوح:
فالرواية رقم (1)، توضح أن الإمام قد طلب من أصحابه (عدم التسليم عليه) (والإشارة إليه بيده) (ولا يومئ) (فإنكم لا تأمنون على أنفسكم)، نستطيع أن نتصوّر حجم الإرهاب والجاسوسية التي لا يأمنُ معها الإنسانُ على نفسه من القتل أو السجن والتعذيب، إن هو أظهر علاقة، ولو بمستوى التحية أو الإشارة بيده أو الإيماء بالرأس، معبِّراً عن علاقته بالإمام الحسن العسكري(عليه السلام) الذي تعرف السلطة العباسية والقادة والوجهاء والعلماء والعامة مكانتَهُ من البيت الرفيع، ومقامه العلمي والديني السامي.
وفي النص إشارة واضحة إلى التكتل السري لأصحاب الإمام(عليه السلام) والمخاطبة السرية بينه وبينهم: (اجتمعنا بالعسكر)، (وترصدنا لأبي محمد)، (مخرج توقيعه).
فالاجتماع الذي يُخشى من انكشاف علاقة أصحابه به و(الترصُّد) و(خروج توقيع الإمام إلى هذه الجماعة من أصحابه)، كلها عبارات تصوِّرُ حقيقةَ الوضع العصيب الذي أحاط بالإمام، وتكشف عن طبيعة الأسلوب الذي استخدمه الإمام لمواجهة ذلك الظرف وتلك المواقف الصعبة، وفي مقدمة تلك الأساليب هو النظم واعتماد السرية في بناء العلاقة معه.
والرواية رقم (2)،
تكشف لنا صورة أخرى من صور الكتمان والتنظيم في عمل الإمام العسكري(عليه السلام)، فالإمام يحذِّر صاحبه إيماءً بإصبعه، ويخشى التكلم معه، ثم يحذِّره في ليلة ذلك اليوم من عواقب المجاهرة بالولاء لآل محمد(صلى الله عليه وآله) والانتماء إليهم، فإن هذا الولاء والانتماء يكلِّف الإنسان حياته في تلك الفترة.
وذلك صريح وواضح في قول الراوي: ورأيته تلك الليلة يقول: (إنه الكتمان أو القتل).
في تلك الظروف العدائية المليئة بالإرهاب والخوف، مارس الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) جهاده العملي والسياسي، وواجه حكّام عصره، وكما تكشف لنا هذه الوثائق جانب التكتّم والسرية، فإن وثائق أخرى تكشفُ لنا جانبَ التكتل والعمل على بناء علاقة مع الأتباع والمحبين ، لذلك فقد اشتدّتِ الملاحقةُ على هذا البناء العقائدي، وزجّ بأبرز أشخاصه في السجون والمعتقلات.
ففي الرواية رقم (4) نجد النصّ الآتي: (وكان أصحابنا قد حملوا معي شيئاً من المال)، (وقلتُ إنّ شيعتَكَ بجرجان يقرأون عليك السلام).
وفي الرواية رقم (5): (فأردت أن أمرّ على رجل من أصحابنا ـ من أهل هراة ـ فأتيت محمد بن عيسى العبيدي، ومعه عدّة فرأيتهم مغتمِّين، محزونين…، فقالوا: إنّ أبا محمد(عليه السلام) قد حُبس).
وفي الرواية رقم (6) نقرأ: (كتب أبو محمد(عليه السلام) إلى أهل قم وآبه).
وفي الرواية ر قم (7) نقرأ: (كتب الإمام(عليه السلام) إلى قوامه بالعراق).
وفي الرواية رقم (8) نقرأ: (كنت أخدم الحسن(عليه السلام)، وأحمل كتبه إلى الأمصار، فكتب معي كتاباً، وقال: تمضي به إلى المدائن).
وفي الرواية رقم (9) نقرأ: (ومن وكلائه محمد بن أحمد بن جعفر، وجعفر بن السهل الصيقل).
وهكذا تتجمّع أمامنا تلك المعلومات الوثائقية الدالة على عمل الإمام العلمي والسياسي، لتوضَّح لنا كيف نظم الأمام(عليه السلام)
علاقته مع شيعته وكيف بنى تكتله العقائدي الذي استطاع أن يقاوم الإرهاب ومحاولات الإبادة المتتالية .
نشرت في العدد المزدوج 35-36
(1) المجلسي، البحار، ج50 ص269، عن الخرائج.
(2) ابن شهر آشوب، المناقب، ج4 ص427.
(3) الأربلي، كشف الغمة، ط دار الكتاب الإسلامي (بيروت)، ج3 ص212.
(4) المجلسي، البحار، ج50 ص262، عن الخرائج.
(5) آبه: بليدة تقابل ساوة تُعرف بين العامة بآوة، ياقوت، معجم البلدان، ج1 ص50.
(6) ابن شهر آشوب، المناقب، ج4 ص425.
(7) الكشي، رجال الكشي، ص449 و450.
(8) المجلسي، البحار، ج50 ص332، عن كمال الدين.
(9) ابن شهر آشوب، المناقب، ج4 ص423.