Take a fresh look at your lifestyle.

من فكر شهيد المحراب(قدس سره).. الأبعاد النهضوية في حركة الإمام علي(عليه السلام)

0 571

مؤسسة تراث الشهيد الحكيم
قسم الثقافة والإعلام

              إن شخصية الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في الجانب القيادي لا تحتاج إلى حديث واسع بعد أنْ نعرف أنّه ثاني شخصية في الإسلام بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، هذا أولاً، وثانياً: هو شخصية معصومة، ومن ثم فجميع صفات الكمال المفترضة في الإنسان هي موجودة في الإمام علي(عليه السلام)، ومنها المواصفات القيادية، ولكن مع ذلك يمكن أنْ نشير إلى عدة نقاط بارزة تعبّر عن هذه المواصفات القيادية في شخصية الإمام علي(عليه السلام):

الأولى: هي العلم والمعرفة اللذان يتمتع بهما الإمام علي(عليه السلام) فهو أعلم المسلمين بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو القائل: (علّمني رسول الله ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب)(1)، وعلي(عليه السلام) كان من العلم والمعرفة بحيث يقول فيه الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب: (لولا علي لهلك عمر)(2).

والعلم له دور مهم في الشخصية القياديّة، ولا سيما الشخصية القيادية الإسلامية، حيث يراد من القائد أنْ يقود الأمَّة نحو الهدى ويطبق عليهم أحكام الإسلام، فلا بد أنْ يكون عالماً بالإسلام وبالشريعة، وعلي(عليه السلام) له هذه الصفة البارزة التي كان يعرفه بها جميع المسلمين، وهي من الصفات التي يقرّ له بها جميع المسلمين بدون استثناء، حتى إنه ورد عن عمر: (أنّ علياً(عليه السلام) كان أقضى المسلمين)، وقد ورد ذلك عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)،
وهناك اعتراف آخر في كلام عمر بأنه ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): (أنّ علياً أقضى الناس)(3).

الثانية: التجربة الطويلة للإمام علي(عليه السلام)، وهذه الصفة مهمة جداً في الشخصية القيادية، حيث إنّ الإمام علياً(عليه السلام) منذ طفولته قد جرّب العمل السياسي والاجتماعي والقيادي، حيث تربّى في أحضان رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ومارس الأعمال السياسية والاجتماعية وهو في سنّ الطفولة، وعلي(عليه السلام) في بداية شبابه أوكل له رسول الله(صلى الله عليه وآله) مهمة عظيمة جداً، وهي مهمة أداء الأمانات عند الهجرة، عندما هاجر رسول الله(صلى الله عليه وآله)

إلى المدينة في ظرف كان مطارداً من قبل المشركين، وتحمّل علي(عليه السلام) أعباء أداء هذه الأمانات في ذلك الجوّ السياسي المشحون، وأدار العمليّة إدارة ناجحة وتمكّن أنْ يحقّق هذا الهدف وهو وحده في مكة وأمام المشركين جميعاً.
وهكذا نجد الإمام علياً(عليه السلام) في مختلف الأدوار التي مرّت برسول الله(صلى الله عليه وآله)، حيث كان يشارك في الغزوات والمعارك، وكانت مشاركته متميِّزَة أيضاً وتأتي في المقدّمة، كما أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) أوكل للإمام علي(عليه السلام) إدارة مناطق مهمة جداً في ظروف حساسة في المدينة المنوّرة عندما أراد أنْ يبتعد عنها(صلى الله عليه وآله) إلى مسافات شاسعة، كغزوة تبوك التي كانت من الغزوات المتميّزة ببعد الشقّة، كما يعبر القرآن الكريم عنها، أوكل أمر المدينة إلى الإمام علي(عليه السلام) وأرجف به المنافقون.

كما أنّ اليمن عندما فتحت أوكلت إدارتها إلى الإمام علي(عليه السلام) وهي منطقة حساسة في أطراف الجزيرة العربية، وكانت محكومة لملوكٍ آخرين، وليس حالها حال بقية أنحاء الجزيرة العربية التي كانت تحكم من قبل العشائر والقبائل في ذلك الوقت، إذن فالإمام علي(عليه السلام) كان طويل التجربة.

وبالرغم من إقصاء الإمام علي(عليه السلام) عن الخلافة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلاّ أنه كان له دور كبير جداً في تسديد الخلفاء، الذين حكموا بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) واعترفوا هم بهذا الدور الخاص من التسديد.
إذن كان الامام علي ذو تجربة طويلة الأمد وفي ظروف مختلفة وحسّاسة، وهذا يعطيه أيضاً جانباً مهمّاً في شخصيته.

الثالثة: ومن جملة الخصائص التي يمكن أنْ نذكرها للإمام علي(عليه السلام) هي: خصوصية الحزم والعزم، فالإمام علي(عليه السلام)
كان يتّصف بأنه حازم في مواقفه، وصابر على الشدائد التي كان يواجهها، وهذه الصفات هي من صفات الأنبياء، فإنّ صفة العزم صفة الأنبياء الذين لهم درجة عالية جداً في النبوة، وهم أولو العزم، فالإمام علي(عليه السلام) كان يتّصف بهذه الصفة ـ مضافاً إلى قضية الحزم ـ في اتخاذ القرارات الصعبة، فإنّ القرارات التي اتخذها الإمام علي(عليه السلام) في الحروب في زمانه كانت قرارات صعبة جداً، وهكذا قراره في الفتنة التي وقعت في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان، بالرغم من ظروف المسلمين والهجوم العام للقواعد الشعبية على الخليفة،فإن الإمام علي(عليه السلام) اتخذ القرار في أنْ يقوم بدور الدفاع عن الخليفة من أجل أنْ لا يقتل، فأرسل الحسنين لبيت الخليفة من ناحية ولكي يدخلا أيضاً في حديث مع الجمهور الثائرين من أجل تهدئة الأوضاع، ولم يتخذ أي شخص من الصحابة على الإطلاق ـ من القريبين من عثمان أو البعيدين عنه ـ مثل هذا الموقف الحازم الذي اتخذه الإمام علي(عليه السلام)، فهو يتّصف بهاتين الصفتين المهمّتين التين لابد من وجودهما في القائد.

الرابعة: والصفة الأخرى البارزة التي عرف بها الإمام علي(عليه السلام) وبقيت كصفة لا يشابهه فيها أحد غير رسول الله(صلى الله عليه وآله) هي: صفة العدالة فقد كان الإمام علي(عليه السلام) على درجة عالية من العدالة في التعامل مع جميع القضايا.

الخامسة: الموازنة. فقد كان الإمام علي(عليه السلام) يوازن بين التقوى ـ تقوى الله سبحانه وتعالى ـ والمصالح الإسلامية العامة، وهذه القضية من القضايا المُهِمَّة.
بعض الأشخاص لا يكون قادراً على إيجاد مثل هذه الموازنة مما يجعله ينساق مع حالة التقوى، فيغفل عن المصالح، ثم تذهب الكثير من المصالح المُهِمَّة، والبعض الآخر تكون عقليته عقلية المصلحة والفوائد والمنافع، فينسى التقوى والحكم الشرعي والارتباط بالله سبحانه وتعالى، وأمّا الإمام علي(عليه السلام) فكان دقيقاً في هذه القضية، وهذه من المواصفات المُهِمَّة جداً في القائد الإسلامي.

السادسة: توثيق الارتباط بالأمّة. فالإمام علي(عليه السلام) كان يمارس دوره القيادي من خلال تأكيد وتوثيق الارتباط بالأمَّة وقواعدها ـ القواعد الشعبية لها ـ فهو(عليه السلام) ذلك القائد الذي كان يريد أنْ يبقى قريباً من الأمَّة إلى أقصى ما يمكن أن يحقّقه القائد من قرب، ولذلك كان يمارس هذا الدور بصورة مستمرّة، وبقي الإمام علي(عليه السلام)
يعيش في قلوب الأمَّة وفي ضمائرها، باعتبار وجود هذا القرب الوثيق منه(عليه السلام) مع أبناء الأمَّة.

منهج الإمام علي(عليه السلام) في تربية الأمَّة الإسلامية

إن الإمام علي(عليه السلام) قد ترك لنا تراثأً كبيرأ جداً من حيث الحجم، وعلى درجة عالية من حيث المضمون والمحتوى، وأحد نماذج هذا التراث هو نهج البلاغة الذي يُمثِّل خلاصة للكثير من الخطب، مضافاً إلى ما تركه(عليه السلام) من تراث في مجال الأدعية في التأريخ الإسلامي.
هناك تراث يحتاج إلى دراسة كاملة من أجل الوصول إلى تصوّر متكامل عن منهجه(عليه السلام)، ولكن سأشير إلى بعض المعالم; لأنّ كل ما يقوله الإنسان في حق الإمام علي(عليه السلام) يرى أنه يقول شيئاً قليلاً، وهو قاصر ولا يمكن أنْ يفي بحق هذه الشخصية العظيمة، لكننا نشير إلى بعض المعالم للاستفادة منها:
المَعْلَم الأول: تربية الأمة.
وهو من المعالم الإسلامية والرسالية الإلهيَّة التي أكّدها القرآن الكريم ومارسها الأنبياء بصورة عامة، والإمام علي(عليه السلام) كان يهتم به، حيث مارس(عليه السلام) تربية الأمَّة من خلال الالتزام الشخصي بالأهداف وبالسلوك، وبالأعمال التي أراد صياغة الأمَّة وتربيتها وتزكيتها على أساسها، فكان(عليه السلام) يمثّل القمة في القدوة، وكان يريد من هذه القدوة أنْ تتكامل في دائرة الفضائل والكمالات الإلهيَّة التي كان يتصف بها من ناحية، ويريد أنْ يربّي الأمَّة على هذا الأمر من ناحية ثانية.

والمَعْلَم الثاني: متابعة أوضاع الأمة .
إنّ الإمام علياً(عليه السلام) كان يتابع بصورة دقيقة أوضاع الأمَّة متابعة شخصية، فكان(عليه السلام)
ينزل إلى الأسواق ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فنراه يتحدث في المساجد من أجل أنْ يربي هذه الأمَّة، ويحضر في أوساط الجيش والعسكر من أجل أنْ يربيهم على الأخلاق العالية ويزكيهم في مواقع العمل والجهاد وهكذا.
كان يمارس هذا الدور، وهو ما يعبّر عنه بدور المتابعة والإشراف المباشر لحركة الأمَّة وتطوّرها، وحركة التزكية والتطهير، وهو ما يمكن أنْ نعبّر عنه بالتربية، وهذه نقطة مهمة جداً في شخصية الإمام علي(عليه السلام).

المَعْلَم الثالث: الخطاب للأمة والجمهور.
فالإمام علي(عليه السلام) كان يمارس دوراً كبيراً جداً في تثقيف الأمَّة وتوعيتها للوصول بها إلى درجة عالية من المعرفة والفهم للحقائق، ولإدراك الأوضاع السياسية والاجتماعية التي تعيشها. وكذلك المعرفة والفهم للحقائق الكونية وللحقائق الاجتماعية والسنة التي تتحكم في مسيرة التأريخ من ناحية، والوعي لظروف وتفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية التي تعيشها الأمَّة من ناحية أخرى، فكان(عليه السلام) يستخدم الخطاب الجماهيري المتكامل، ويتحدّث إلى الأمَّة بصورة مستمرّة. لذلك لا نجد تراثاً قد تركه أحد بعد القرآن الكريم وبعد حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله)
مثل التراث الذي تركه الإمام علي(عليه السلام)، ولم نجد لأحد من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)
حفـظ لـه هـذا القـدر الكـبير من الخطاب الذي حفظ للإمام علي(عليه السلام)، باعتباره أنَّه(عليه السلام)
كان يهتم بصورة بالغة بهذا الخطاب الجماهيري وخطب نهج البلاغة كما أشرت، وهو أحد النماذج التي تعبر عن هذه الحقيقة.

المعلم الرابع: تربية الخواص (الصفوة).
والجانب الآخر من موضوع التربية هو أنّ الإمام علياً(عليه السلام) كان يهتم بتربية الخواص، وكان يعطي للكادر (وهو ما يعبر عنه بالخواص، أو الصفوة إذا أردنا أنْ نستخدم بعض المصطلحات القرآنية) دوراً خاصاً في عملية التربية، فلذلك اهتمّ(عليه السلام) اهتماماً بالغاً بتربية مجموعة من الأشخاص والعناصر التي تكون على مستوى عال من العلم والتقوى والفضل والمعرفة والصبر والجهاد، وغير ذلك مما تتصف به هذه العناصر، وهي (العناصر) تقوم بدورها في تربية الأمَّة وتطويرها والوصول بها إلى مرحلة التزكية والتطهير.
والإمام علي(عليه السلام) أعطى اهتماماً خاصاً لهذا الموضوع، ولذلك بقي خط الامام علي(عليه السلام) من خلال هؤلاء الخواص الذين كانوا يتحرّكون في أوساط الأمَّة، وتمكن ايضاً أنْ يبقى خطاً نامياً متطوّراً على مرّ الزمن، والخط البياني ـ كما نعبّر في المصطلحات الجديدة ـ دائماً كان بحالة تصاعدية، ولم يشهد الخط البياني لحركته(عليه السلام) حالة نزولية وتسافلية، فالإمام علي(عليه السلام) بنى مدرسة نامية ومتكاملة لتربية الأمَّة.

بناء المؤسسات
إنّ الإمام علياً(عليه السلام) لم يترك كل هذه الأمور بدون بناء المؤسسات، فقد اهتم(عليه السلام)
ببناء المؤسسة التي يمكن أنْ تقوم بدور هام في التربية بعده، وهو من المناهج المُهِمَّة التي اعتمدها(عليه السلام)، فقد أثر تأريخياً عنه أنه قام ببناء مؤسسة ما يسمى بـ (شرطة الخميس)، وهي ذات طبيعة خاصة يكون لها دور خاص في الأمَّة، أو المؤسسات العلمية المختصة بكتابة الحديث والنصوص، ولولا الإمام علي(عليه السلام) لم نشهد في حياتنا الحاضرة ما عرفناه من حفظ لأحاديث رسول الله(صلى الله عليه وآله)
وأحاديث علي(عليه السلام) ومن بعده من أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، لأنه(عليه السلام) هو الذي أسّس مؤسسة تدوين العلم، على العكس من الخلفاء الذين سبقوه، فقد منعوا عملية التدوين، وهو(عليه السلام) بدأ هذه المؤسسة بنفسه عندما جلس ودوّن القرآن الكريم وشرحه، وكان أول من قام بهذه العملية بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله).
إذن، فهو بنى هذه المؤسسات الإسلامية التي نشهد الكثير من معالمها، ويمكن أنْ نتعرّف على هذا التأسيس عندما نرجع إلى الكتب التي تناولت موضوع تأسيس علوم الإسلام ومنها تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، لآية الله السيد حسن الصدر(رحمه الله)، حيث يتحدث عن هذا الدور الكبير للإمام علي(عليه السلام) في تأسيس علوم الإسلام.
فأول من دوّن تأريخ الإسلام هو أحد تلامذته(عليه السلام)، وهو سُليم بن قيس، وسليم هذا كان أول مدوّن للتأريخ الإسلامي، وهكذا في بناء المؤسسة أيضاً، وكانت هذه من المناهج المُهِمَّة التي اعتمدها(عليه السلام) في موضوع التربية.

الإمام علي(عليه السلام) والبناء السياسي
من أهم مميزات البناء السياسي في عهد أمير المؤمنين(عليه السلام) هي:
أولاً: إخراج الدولة من الحالة الكسروية والقيصرية إلى الحالة الإسلامية، وهي حالة العبادة لله سبحانه وتعالى، وهذه قضية مهمة جداً، حيث إنّ الدولة قبل الإسلام في كل المجتمع الإنساني كانت دولة قيصرية أو كسروية في سيرتها، ولم تكن هناك سيرة أخرى، أو أن تكون هي الحالة القبلية والتمزّق والتشتت والاختلاف التي كانت تعيشها الجزيرة العربية التي لم تكن محكومة بدولة، فإما أنْ يوجد اختلاف وتشتت في الأمَّة، أو تكون أمَّة واحدة من خلال وجود قيصر أو كسرى مثلاً. فالإمام أخرج الدولة من هذه الحالة إلى تلك الحالة الخاصة، وكانت للإمام علي(عليه السلام) نظرية مأخوذة من الإسلام ومن مفاهيمه، والنبي(صلى الله عليه وآله) مارس هذا الدور في هذه الدولة إلى حدّ كبير.

والخلفاء بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) كذلك حاولوا أنْ يديموا ذلك، لكن كانت الحالة تتأرجح أحياناً من حالة الفوضى الموجودة في الحالة الجاهلية في الجزيرة العربية، أو الحالة الكسروية أو القيصرية في غير الجزيرة العربية الى حالة جديدة، وتوجد شواهد كثيرة على ذلك، لكن الإمام(عليه السلام) تمكّن في تلك السنين القصيرة أنْ يخرج الدولة من تلك الحالة إلى تشخيص صورة واضحة للدولة الإسلامية في مقابل حالة التمزُّق والفوضى، ومقابل حالة الكسروية والقيصرية.

ثانياً: الحرية السياسية، فالإمام علي(عليه السلام) عندما انشقَّ الزبير وطلحة وأم المؤمنين عائشة عنه لم يتخذ(عليه السلام) أي إجراء قمعي في مقابل هذا الانشقاق، بالرغم من أنه انشقاق سياسي واضح، لكن عندما حملوا السلاح في وجهه(عليه السلام) وهاجموا الوالي في البصرة ونهبوا بيت المال واتخذوا إجراءات من هذا القبيل دخل معهم في صراع مسلح.

وهكذا الخوارج الذين انشقوا عنه(عليه السلام) بعد صفين في التحكيم فإنه كذلك كان انشقاقاً سياسياً، لكن الإمام(عليه السلام) لم يتخذ تجاههم أي إجراء قمعي، وإنما اتخذ هذا الإجراء بعد أنْ حملوا السلاح وقطعوا الطريق وقاموا بأعمال مخلّة بالأمن العامّ للأمَّة، وهذه الحرية السياسية من المعالم المُهِمَّة التي ركَّز دعائمها الإمام علي(عليه السلام) في الدولة الإسلامية.

ثالثاً: العدالة، فالإمام علي(عليه السلام) كان مهتماً بتطبيق العدالة الإسلامية، ولا سيما في مجال الحقوق العامة للأمة ومجال العطاء الذي كان يأتي من الخراج الذي هو ملك لجميع المسلمين، وكذلك في مجال القضاء والمساواة بين المسلمين في هذا المجال، وفي مجال التعددية القومية، فالإمام علي(عليه السلام) اهتم بتحقيق العدالة التي نعبّر عنها بالمساواة بين العرب والأعاجم من القوميات الأخرى في داخل المجتمع العربي، ولم يرَ(عليه السلام) فرقاً لقريش على غيرها في الحقوق العامة، وهكذا بالنسبة إلى كل أبناء الأمَّة الإسلامية، وهذه من المعالم المُهِمَّة جداً، التي تمكّن أنْ يرسّخها في الدولة.

رابعاً: الأخلاقية العالية التي كانت متمثلة في هذه الدولة، والإمام علي(عليه السلام) في كثير من حروبه كانت هناك فرص يمكن من خلالها أنْ يلحق النصر على أعدائه، ولكن كانت تمنعه تلك الأخلاقية العالية، فإنّ معاوية جاء واستولى على الماء في منطقة صفين، وحرم جيش الإمام
علي(عليه السلام) منه من أجل أنْ يضعفهم من خلال العطش ـ وقد صنع ما صنع الأمويون في الحسين(عليه السلام) والقضية معروفة ـ لكن الإمام علياً(عليه السلام) عندما أزاحهم عن الماء واستولى عليه لم يقبل أنْ يقوم جيشه بمنع أصحاب معاوية منه.
وهكذا فيما يتعلّق بموضوع السب والشتم والقذف، فالإمام علي سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين ، إلاّ أنّه(عليه السلام) قال: (إني اكره لكم أن تكونوا سبابين)(4)، فهو(عليه السلام) يمتلك هذا النوع من الأخلاقية في مقام التعامل، وتؤثر عنه كثير من المواقف، كقوله: (لا تلاحقوا فاراً ولا تجهزوا على جريح)(5)،
إلى غير ذلك من الأخلاقيات العالية التي طبّقها(عليه السلام) في تعامله مع أم المؤمنين عائشة في حرب الجمل، ومع أصحاب الجمل في العفو عنهم وهي كثيرة جداً تعبِّر عن أخلاقية عالية في مقام التعامل، وهذا الجانب من الجوانب المُهِمَّة في موضوع الدولة الإسلامية.

رؤية الإمام علي(عليه السلام) إلى دور المرأة في المجتمع الإسلامي
هذا الموضوع من الموضوعات المهمة التي تحتاج إلى بحث واسع، ولكني سأتناول الموضوع بصورة مختصرة من خلال ذكر مثالين بارزين يمكن أنْ يُعبّرا عن نظرة الإمام علي(عليه السلام) لدور المرأة في المجتمع الإسلامي.

المثال الأول: هو الزهراء(عليها السلام) زوجة الإمام علي(عليه السلام) وحبيبته، كما هي حبيبة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، والعلاقة بينهما كانت على درجة عالية جداً من الحب والاحترام والتقديس والانسجام، ودور الزهراء(عليها السلام) يمثِّل صورة واضحة لرؤية الإمام علي(عليه السلام) ولدور المرأة في المجتمع الإسلامي.
الزهراء(عليها السلام) كان لها دور مهم جداً في البيت، وكان لها دور مهم في العمل الاجتماعي والسياسي، حتى أدّى الأمر بها إلى الاستشهاد من أجل العمل السياسي والاجتماعي، كما كان لها دور في العلم والمعرفة، حيث كانت على درجة عالية من العلم والمعرفة، ولها دور في العبادة والتكامل في العبادة، إلى غير ذلك من الخصائص التي يمكن أنْ نراها في شخصية الزهراء(عليها السلام) وفي حركتها الاجتماعية.

المثال الثاني: هو مثال زينب(عليها السلام)، فزينب بنت الإمام علي(عليه السلام) وتربّت في أحضانه وفي مدرسته، كما أنّ الحسن والحسين كانا في هذه الأحضان وفي هذه المدرسة.
ودور زينب(عليها السلام) في المجتمع الإسلامي كان واضحاً جداً، ولا سيما في قضية الإمام الحسين(عليه السلام)، حيث كانت شريكته في مختلف الأدوار التي قام بها(عليه السلام)، سواء في أدوار التمهيد للنهضة، أم في النهضة نفسها، أم دور الدفاع عنها والدعاية لها، وكان لها دور حماية البقية الباقية من الأسرة وأهل البيت(عليهم السلام)، وهذه الأدوار في الواقع يمكن أنْ نقول عنها بأنها تشكل نظرية الإمام علي(عليه السلام) في دور المرأة في المجتمع الإسلامي.

الإمام علي(عليه السلام) والخلافة
هناك أدلة على أحقيته(عليه السلام) من القرآن الكريم، وهناك من الآيات الكريمة التي تبلغ المئات،في شأن أحقية الإمام علي(عليه السلام)
وهناك نصوص تقول بأنه نزلت ثلاثمائة آية في الإمام علي(عليه السلام)، ولا توجد أي حالة أخرى مشابهة لها نسبت إلى أي إنسان في القرآن الكريم.
وهكذا الروايات الصحيحة المتواترة لدى جميع المسلمين، سواءً الواردة عن إخـواننـا أبنـاء الجمهور، أم الروايـات الصحيحة التي وردت عن طريق أهل البيـت(عليهم السلام)، مـن قبيـل حـديث الثقليـن وحـديث السفينة وحديث النجوم وحديث (علي مع الحق والحق مع علي)(6)،

وغير ذلك من الأحاديث والروايات التي وردت في شأن الإمام علي(عليه السلام).
ومن جملة الأمور المُهِمَّة الاعتراف العام بهذه الحقيقة، فالإمام علي(عليه السلام) كان يعترف له المسلمون بهذا الحق، وحتى أولئك الذين ذهبوا مذاهب أخرى فإنهم قالوا: نحاول أنْ نفسّر هذا المذهب الآخر لصالح الإمام(عليه السلام) لأنَّه ليس من
مصلحته(عليه السلام) أنْ يتصدّى للخلافة باعتبار أنه شاب وله ثارات مع الكثير من الناس في زمن
النبي(صلى الله عليه وآله)، وقد يكون تصدّيه يوجد اختلالاً في الوضع العام، وقد اجتهدوا في مقابل النصوص التي وردت عن النبي(صلى الله عليه وآله).
وحديث الغدير ـ وهو من الأحاديث المتواترة التي وردت في هذا الموضوع ـ فالاعتراف العام بهذه الحقيقة كذلك يشكل واقعاً في هذا المجال. وكذلك ما أشرت له قبل قليل من أنّ خطّ الإمام
علي(عليه السلام) بقي يسير بصورة متنامية ومتكاملة من الناحية البيانية، والإمام علي(عليه السلام)
بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان معه عدد من الأشخاص لا يتجاوزون العشرة، لكننا الآن نجد هذه الأمَّة الواسعة الكبيرة التي تؤمن بإمامته، بالرغم من عمليات القمع والمطاردة التي مرّ بها خطّ الإمام علي(عليه السلام)،
وهذه إحدى العلامات التي تدلّ على أنّ الحق يبقى ويثبت ويصمد ويتكامل ويبرز .

نشرت في العدد 33


(1) الغدير ج3ص113.
(2) الكافي ج7 ص421.
(3) شرح إحقاق الحق ج 15 ص 366.
(4) نهج البلاغة ج2 ص 185 ح206.
(5) بحار الأنوار ج 32 ص 171.
(6) بحار الأنوار ج 28 ص 175.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.