Take a fresh look at your lifestyle.

أثر العقل في إعادة تشكيل الوعي الإسلامي قراءة في وصية الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) لهشام بن الحكم

0 492

د. عبد علي حسن ناعور الجاسمي
الجامعة الإسلامية/ النجف الأشرف

 

           إن اهتمام الأمم بتراثها الفكري والحضاري، والتفات الشعوب في فترات يقظتها وسنوات انبعاثها إلى صفحات ماضيها، لا ينبغي أن يتحول إلى عودة هذه الأمم إلى العيش مرة أخرى في إطار القيم والمفاهيم والعلاقات التي سادت العصور التي دون فيها هذا التراث.
ولا ينبغي كذلك أن تتحول هذه الأنبعاثات إلى إغراق عقل الأمة وفكرها في أشد صفحات تاريخها وظلامها، وأكثرها بعدا عن العقلانية والاستنارة. وعندما نكون جادين حقا في بناء كيان حضاري، يطوي صفحات التخلف ويصل حاضرنا ومستقبلنا بالعصور الزاهية في تاريخ حضارتنا الإسلامية، فلابد إذن من أن نتعاطف ونلتزم بأعمال مفكريه التي انتصرت للمنهج العلمي في التفكير، وأعلت من شأن العقل ومجدت من شأن أتباعه، ضد الخرافة والجبرية والاستبداد، ومن ثم فإننا ـ ونحن نرفع شعارات بناء الدولة العصرية المستنيرة المتحررة ـ نستطيع أن نتخذ من استعمالنا للعقل مقياسا وحكما لمدى صدقنا في الإيمان بهذه الشعارات.

ولا شك في أن النظرة الفاحصة في آثار أئمة الهدى(عليهم السلام) التي نريد أحياءها الآن ـ في ظل انعدام الوعي وغياب التخطيط السائدين في هذا الحقل ـ تجعلنا ندرك أننا ما زلنا بعيدين عن اتخاذ منهجهم ووصاياهم سلاحا في معركة أنعتاقنا من قيود التسلط والتخلف والاستبداد.

بل لا نغالي إذا قلنا إن الكثير مما يقدم لنا من تراث هو ثمرة جهد لا يراد من ورائه إلا العودة بهذه الأمة إلى قرون خلت وقيم تخطاها التقدم الإنساني. أقول: بم اقتدينا في إعادة ترتيب بيتنا المحطم؟ ومن أي المشارب انتهلنا ماء حياتنا التي أوشكت على النهاية؟ أهو الوعظ والإرشاد ومن ثم البكاء، وبعدها نعود إلى ديدننا الأول؟ تساؤلات كبيرة وكثيرة ومريرة تخرج الكلمات من أغراضها وتحيل مقاماتها إلى مضان غير المضان التي نريد ولكننا نعزي أنفسنا إزاء هذا الارتداد عن طريق العقل بأن فينا آثاراً غزاراً من منابع أصيلة تأخذ من نبع إلهي لا ينقطع ما دامت السماوات والأرض، ومن هذه المنابع، سابع أئمة المسلمين الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)، الذي رسم لنا نهجا لا يصح غيره لإصلاح أمورنا، وبداية إصلاح أنفسنا لنعيد لعقيدتنا عزَّها المغيب، في وصية عمادها العقل والتفكير، يوصي بها تلميذه وتلميذ أبيه الصادق(عليه السلام) وهو هشام بن الحكم.

وقبل أن نعرض لبعض من هذه الوصية لابد لنا من أن نعرف بهشام بن الحكم لنعرف من خلال ذلك ولماذا خصه بهذه الوصية!.

ترجمة هشام بن الحكم:
هو أبو محمد هشام بن الحكم مولى بني شيبان، كوفي، تحول إلى بغداد من الكوفة وهو من أصحاب الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) من متكلمي الشيعة ممن فتق علم الكلام في الإمامة، وهذب مذهب أهل البيت(عليهم السلام) بالنظر والمحاججة، وكان حاضر الجواب سريع البديهة، دعا له الإمام الصادق(عليه السلام) فقال: أقول لك ما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) (لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك).

استعمل العقل بالدلائل والنظر من خلالها انتقل إلى القول بالإمامة بعد أن كان من أتباع الجهم بن صفوان، والجهم بن صفوان هذا هو القائل: لا قدرة للعبد أصلا، لا مؤثرة ولا كاسبة، بل هو بمنزلة الجمادات، والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما حتى لا يبقى إلا الله تبارك وتعالى. كان هشام بن الحكم منقطعا إلى البرامكة ملازما ليحيى بن خالد البرمكي، ثم تبع الصادق(عليه السلام) فانقطع إليه، وتوفي بعد نكبة البراكمة بفترة يسيرة وقيل: بل في خلافة المأمون. كان هشام يقول: (ما رأيت مثل مخالفينا، عمدوا إلى من ولاه الله من سمائه فعزلوه، وإلى من عزله من سمائه فولوه)(1).

الوصـية قراءة وتحليل(2):
تبدأ وصية الإمام الكاظم(عليه السلام) بقوله: (يا هشام إن الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه وقال: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) (الزمر18) واختيار هذه الآية طريقاً في الاستدلال المؤدي إلى إتباع القول الحسن، ليس اختياراً نمطياً أو استذكارياً، لأن استماع القول شيء وإتباعه شيء آخر، ولا أظن إتباع القول في هذا السياق غير إيحاء للتطبيق، أي: اتخاذ السلوك والعمل طريقاً إلى إثبات النية الصادقة ومشاركة الآخرين في ذلك، لأن البناء الإنساني لا يقوم على جهد فرد أو أفراد معدودين.

والإنسان في مرحلة كفاحه الطويل في سبيل البقاء لا يمكن أن نفصل فيه الجانب الأخلاقي عن الجانب الإجتماعي، ولا عن الجانب الروحي، فهو ـ في الوقت الذي كان يبني فيه نفسه ـ كان يبني في الوقت نفسه ذاته ومثله العقلية، وإن كان لا يعي من الأمر شيئاً.
فمنذ طور النشأة نمت فيه خصال اجتماعية جوهرية، أي: خصال لابد منها لتأمين حد أدنى من التضامن والتكامل والتواد والتحاب والتعاطف، ومن ثم أدرك أنه ليس من العقل في شيء أن يعتدي على جزء من أجزاء تلك الجماعة، ذلك لأن العقل في واحد من تعريفاته (قوة محصنة خالية من الفعل، أو هو الأستعداد المحض لأدراك المعقولات) فهو يبدأ منذ عرف الإنسان إن له حاجة يريدها.
فقد روى الجاحظ أن رجلاً من الحكماء سئل: متى عقلت؟ قال: ساعة ولدت فلما رأى إنكار الناس لكلامه قال: أما أنا فقد بكيت حين خفت، وطلبت الأكل حين جعت، وطلبت الثدي حين احتجت، وسكتُّ حين أعطيت، يقول: هذه مقادير حاجتي ومن عرف مقادير حاجاته إذا منعها، وإذا أعطيها، فلا حاجة به في ذلك الوقت إلى أكثر من ذلك العقل. (الحيوان: 7/56) ومن نعم العقل الفعلي أو العقل بالفعل كما يسميه أهل المنطق، هو أن تصير النظريات مخزونة عن قوة الفعل بتكرار الأكتساب، بحيث يحصل لها ملكة الأستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد، لكنه لا يشاهدها بالفعل.
وإلى هذا ذهب الإمام الكاظم(عليه السلام) في ذكر الآيات الكريمة إذ قال: (يا هشام إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان ودلهم على ربوبيته بالأدلة فقال: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)(البقرة164).
ثم يقول الإمام(عليه السلام): (يا هشام قد جعل الله ذلك دليلاً على معرفته بأن لهم مدبراً، فقال: (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) (النحل12).
وقال: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلاً مسمى ولعلكم تعقلون) (غافر67).

فالإمام(عليه السلام) يورد النص الأول في هذه النطاق ليعقل الإنسان ما حوله من المعالم التي يراها كل يوم، وحركة هذه المفردات الثابتة والمتحركة، ومن بعد هذا وذاك يدخل الإمام(عليه السلام) إلى الاستدلال عن طريق الإنسان نفسه ليكون هذا الإنسان ذا عقل مستفاد تحضر عنده النظريات التي أدركها بحيث لا تغيب عنه وذلك عن طريق الحسيات أو الدليل الحسي فضلاً عن التجارب الخزينة عند الإنسان نفسه من التفكير واستعمال العقل، وإلى هذا ذهب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)
في قوله: (لا عبادة كالتفكر في صنعة الله عز وجل)(2).

وعلى وفق هذا التدرج في النصيحة والاستدلال بالقرآن الكريم يستمر الإمام الكاظم(عليه السلام) حتى يصل إلى الغرض الأكبر من الوصية، وهو السلوك وأثره في بناء المجتمع المثالي، قال: (يا هشام إن الله تعالى يقول في كتابه: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب، يعني: عقل، وقال: ولقد آتينا لقمان الحكمة، قال: الفهم والعقل).

وعند الرجوع إلى معجمات اللغة وجدت أن العرب تقول: (رجل عاقل: وهو الجامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه، وقيل: العاقل: الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها والعقل: التثبت في الأمور، والعقل: القلب، والقلب: العقل، وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، أي: يحبسه)(4) إلى آخر هذه المضامين التي وردت عن العقل.
ولكننا نشير إلى المضامين الرئيسة التي تلت ذكر الآيات الكريمة، إذ بدأ الإمام(عليه السلام)

بإعطاء الخلاصات التي استمدها من النصوص الشريفة ليركز على الأغراض والمضامين الرئيسة التي أرادها من خلال هذه الوصية، ومنها: التواضع. أدلة الحق. ذم إتباع الهوى. حسن الخلق. ذم الكذب. كف الأذى. في سلسلة خلقية اجتماعية تنأى عن استعمال الخوارق وذكر المعجزات واتباع الأوهام والأباطيل، بل جاءت هذه المفردات علمية تطبيقية تدعو إلى اتخاذ العقل وسيلة إلى الرقي بالأعمال إلى حسن تطبيقها، وهو(عليه السلام)
من بيت حري أن يوصي لأنهم العاملون حقاً، ولأن دعوة الفضيلة والخلق والضمير تنبت من الأرض، ويمكن لعقل الإنسان أو قلبه أن ينادي بها ويحيا عليها.

إن الأمين الصادق الشجاع البعيد عن الترف والجشع، والطمع بسائر الدنايا هي صفات الرجل المؤمن من دون أن يحاول إثباتها من خلال إقامة المعالم والطقوس التي لها محل غير هذا المحل، ومن دون أن يلوح لصاحبها بالثواب في حياة أخرى أو يخوفه من عذاب النار، قال أمير المؤمنين(عليه السلام):
(لو كنا لا نرجو جنة ولا نخشى ناراً ولا ثواباً ولا عقاباً لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق
فإنها مما تدل على سبل النجاح)(5).

إن المدنية الحديثة قد سدت على الناس أبصارهم ومسامعهم وصورت لهم أن معنى الإنسانية ليس إلا العمل على إيجاد حياة أفضل والانتفاع من اللذة أكثر وكأن ليس للإنسان هدف غير ذلك، فالناس يفكرون في كيفية الحصول على مسكن أحسن ومركب أوسع، ومقام أرفع، ويجدون في أن يعرفوا أي السبل تدر عليهم ثروة أكثر كي يتمكنوا من ممارسة شهواتهم بصورة أوسع، في حين أن الإسلام يعد التفكير واستعمال العقل والتدبر في عوالم الخلق أعظم العبادات بدليل ما أسلفنا من قول أمير المؤمنين(عليه السلام): (لا عبادة كالتفكر في صنعة الله عز وجل)(6).

نعم إن المطالبة باتخاذ السلوك محجة للتطبيق ليس بالأمر الهين وهذا لا يتجه إلى العقل وحده، وإلا لهان الأمر، ولعله من الأصح أن نقول إنه يتجه إلى العقل بطريق غير مباشر ومعقد جداً، وعلى الإرادة مباشرة ومواجهة في محاولة للتأثير فيها، وهنا تكمن مسألة السلوك أو التطبيق، فليس الأمر هنا أمر إقناع، فنحن مقتنعون جميعاً أن الدخان وتعاطي المسكرات والإفراط في الشهوات تتلف الصحة، ومع ذلك فإن أكثرنا يتنكر لهذه التعاليم، ليس الأمر هنا تحصيل للمعرفة، بل هو تطبيق هذه المعرفة، والفرق بين التحصيل والتطبيق كالفرق بين السماء والأرض.

إن هذه العادات التي نريد اقتلاعها من نفوسنا لم ترسخ فينا بالعقل وحده وإلا لامكن انتزاعها بالعقل كأي نظرية علمية خاطئة يمكن التخلي عنها بسهولة عندما يثبت خطؤها، فما اقتنصناه بحكم العقل أيضاً يمكن انتزاعه، والصعوبة إنما تبدأ عندما يتدخل في الأمر عامل آخر غير عامل العقل، كالعادة وظروف النشأة والبيئة والمصلحة وغيرها.
ولكننا نستطيع على الرغم من هذه القيود أن نعد العدة لرابط حقيقي، والرابط الحقيقي هو ما يربط الإنسان بأخيه الإنسان، فليس لأحد أن يحيد عنه إذا كان حريصاً على الإلتزام بالقانون الخلقي قانون الإرادة الطيبة المتحققة من خلال العقل ومن ثم فليس لأحد أن يتطلب من أعماله أن تكون صادرة عن نداء العقل.

فإذا كان المرء يتخذ العقل رائداً وباعثاً له في سلوكه عند أدائه فسوف يشعر بشعور غامر بالسعادة الكاملة التي لا يشعر بها النفعيون والأنانيون وأصحاب المصالح والمآرب والأغراض.
إن المضامين الرفيعة التي أفاض بها الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) على تلميذه هشام بن الحكم طريق سالكة للإصلاح، ولإعادة ترتيب بيتنا المحطم كما تقدم في صدر هذا الكلام. والإصلاح عند أكثر المفكرين يبدو لأول وهلة أن منطلقه الأسرة، إذا صلحت صلح المجتمع كله وإذا فسدت فسد. وهذا يعبر عن جزء الحقيقة، لأن الأسرة لا يمكن تنظيمها قبل تقويم النفس، وعلى هذا المضمون ركز الإمام(عليه السلام) بإصرار وإعادة وتذكير.

إن وصيته موجهة إلى النفس أولاً إلى مكافحة هواها، وتقويم النفس لا يكون إلا بتطهير القلب، أي بتطهير النفس من الشهوات الفاسدة الدنيئة، والقلب لا يطهر إذا لم يكن مخلصاً في تفكيره، وهو لا يخلص في التفكير لأنه قد غلب عليه الهوى، فتشوهت الحقائق، ولم يعد ممكنا البحث في طبائع الأشياء بحثاً موضوعياً منزّهاً عن الأغراض والأهواء، فإذا سعى الناس إلى المعارف المنزهة عن الغرض والهوى أخلصوا في تفكيرهم، وإذا أخلصوا في تفكيرهم تطهرت قلوبهم من الازدواجية، وإذا تطهرت قلوبهم من الازدواجية صلحت نفوسهم وإذا صلحت نفوسهم صلحت الأسرة، سلسلة مترابطة من الحلقات يأخذ بعضها بأعناق بعض.
أما المواعظ التي تحث على الفضيلة فهي لا تجدي شيئاً، كما لا يجدي العقاب الرادع، فللإصلاح أبوابه، فإذا كان عزمنا إعادة الريادة إلى الأمة الإسلامية من خلال رموزها الحقيقية فحري بنا أن نأتي البيوت من أبوابها لا من ظهورها.

نشرت في العدد 32


(1) مقتطفات من وصية الإمام الكاظم لهشام، كما وردت في الكافي للكليني 1/13.
(2) قاموس الرجال، التستري 10/522 بتصرف.
(3) بحار الأنوار، المجلسي 68/324.
(4) لسان العرب، ابن منظور مادة: عقل.
(5) مستدرك الوسائل، الميرزا النوري 11/193.
(6) بحار الأنوار 68/324.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.