كتابة السيرة الذاتية موضوع تعرض إليه الكثير من الأعلام الذين أوقفوا حياتهم ونذروها لطلب العلم وتحصيله، وكانت في سيرتهم العطرة محطات مشرقة، كان لها الأثر البارز في تعريف الآخرين بهم وبما أنتجته وأبدعته تلك المحطات.
البعض من هذه السيرة نشرت على صفحات الكتب أو المجلات والبعض الآخر ظل رهين المخطوط الذي لم ير النور لسبب أو لآخر، ومنه ما وصلنا اليوم ليراه الناس على صفحات مجلتنا (ينابيع) التي أخذت على عاتقها جزءاً من التعريف برجالات العلم والمعرفة، خصوصاً الذين لم تسلط عليهم الأضواء بالرغم من شهرتهم وما تداولته الأيدي من نتاجاتهم الفكرية التي عكست حالة الإبداع والرقي المعرفي التي بلغوها.
ومن هؤلاء العلامة السيد علي نقي النقوي اللكهنوي الذي كان أنموذجاً من نماذج المدرسة النجفية الكبرى، وبذا نفتح الباب أمام سيرة رجال كتبوا تاريخهم بأيديهم ليبقى شاهداً خالداً على مر الزمان.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أكرمنا بالهدى وجعلنا من أمة خير الورى والصلوة على نبيه المصطفى وآله مصابيح الدجى وبعد فقد سألني بعض من يجب علي إجابة سؤاله من السادة والعلماء الأفاضل جعله الله من أنصار الدين وحماة الشرع المبين أن أذكر له نبذة من شؤون حياتي وترجمة أحوالي حتى تكون تذكرة باقية وأحدوثة خالدة، فنزلت على حكمه وإن كنت أرى من قصور شأوي وسقوط خطري ما لا أستحق سمعه لذلك ومن أنا حتى يعنى بشأني ويبحث عن أحوالي ويسأل عن مبدأ أمري ومالي وهل أكون إلا امرئاً قليل البضاعة ساقط العزيمة كثير العثار وعقيد حاجة وافتقار (ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه)، ولكن حيث سُئلت وجب عليّ الإجابة ومن الله أستمد المعونة والتوفيق أما نسبي فهو ينتهي بثمان وعشرين واسطة إلى الإمام الهمام علي النقي الهادي سلام الله عليه وإليك بيانه:
أضعف العباد علي نقي بن ممتاز العلماء الثاني السيد أبو الحسن دام ظله ابن سيد العلماء الثاني السيد محمد إبراهيم بن ممتاز العلماء السيد محمد تقي بن سيد العلماء السيد حسين بن العلامة المجتهد الكبير السيد دلدار علي بن محمد معين بن عبد الهادي بن إبراهيم بن طالب بن مصطفى بن محمود بن إبراهيم بن جلال الدين بن زكريا بن جعفر بن تاج الدين بن نصير الدين بن علم الدين بن علم الدين بن شرف الدين بن نجم الدين بن علي بن أبي علي بن أبي يعلى بن محمد بن أبي طالب حمزة بن محمد بن الطاهر بن جعفر بن الإمام علي النقي الهادي سلام الله عليه.
ولدت يوم السادس والعشرين من رجب الحرام سنة 1323 ثلث وعشرين بعد ألف وثلثمائة من الهجرة في بلدة (لكهنو) عاصمة العلم والتشيع في بلاد الهند ولما كنت ابن ثلاث سنين وأشهر سافر بي السيد والدي دام ظله إلى النجف الأشرف سنة 1327 فبقي فيها خمس سنين ملتقطاً فوائد العلم عن أصداف صدور العلماء الأعلام ونشأت هناك في جوار باب المدينة (والحمد لله).
فلما بلغت سبع سنين رأى أن يشرع في تعليمي بيوم سعيد فأتى بي إلى مشهد أمير المؤمنين سلام الله عليه وكان العلامة الورع السيد محمد علي الشاه عبد العظيم وقتئذ جالساً على مصلاه يريد صلوة الظهر بالجماعة فسأله السيد والدي أن يبدأ بتعليمي تيمناً بأنفاسه الشريفة فعلمني بسم الله الرحمن الرحيم ونحن تجاه الضريح المقدس والصلوة قائمة بصفوفها وراء السيد الجليل ومنذ ذلك اليوم واظب السيد بنفسه على تعليمي فضرب لي وقتاً من الفراغ وسلك بي منهجاً كان هو المؤسس له فسار بي سيراً حثيثاً قلما يسير الطالب مثله حتى إني في طي ستة أشهر فرغت من القرآن المجيد وبعض الكتب الفارسية بكل ضبط وإتقان ودخلت في النحو والتصريف وكان في كل من يومي الخميس والجمعة يلقي عليّ أسئلة فيما قرأته في أيام الأسبوع
مع ما يتعلق بها من الفروع والأشباه التي يناط تخريجها بقوة الفطنة والذكاء فكنت أجيب فيها بما ساعدني عليه الفكر والحافظة ولربما أقف فيها فإن كان مما يحق لمثلي أن يقصر عنه لصعوبته كان هو دام ظله يوقفني عليه وإن تراءى له مني شيء من التفريط والتقصير فهناك الزجر والتنديد والبأس الشديد إلى أن أكون أنا المجيب عنه جواباً صحيحاً فإذا رأيت منه الرضا به والإقرار أكتبه تحت سؤاله حتى يكون تذكرة فيما يأتي فجمع عندي من ذلك كتب مدونة وقد رأيت لذلك في نفسي أثراً كبيراً من الزيادة في قوة الفطنة وتشحيذ الفكرة والإتقان في الضبط والمحافظة والتمرن على التأليف والتصنيف ومن مسلكه الخاص في تدريسي أنه لم يدعني أسمع وهو يقرر مطلب الكتاب بل ألزمني أن أقرأ العبارة وأبين معناها ومفادها والغرض منها حسب ما فهمت في أثناء المطالعة فإن كان صحيحاً بنظره أمضاه وإن كان به خطأ أمرني بالمراجعة ثانياً إلى أن أكون أنا المبين للمطلب.
نعم لو كان من المطالب الصعبة المستصعبة التي لا يمكن لمثلي أن يحل عقدتها بينها بنفسه حتى أنه ربما يمضي الوقت كله ويتم الدرس وهو لم يتكلم فيه بكلمة غير الإمضاء أو الأمر بالتأمل والمراجعة فبذلك أوجد في نفسي ملكة استخراج المطالب المشكلة من العبادات الصعبة بقوة المطالعة ثم ملكة التقرير وبيان المطلب العلمي على نحو يفهم المخاطب فكأنه في حين أنه يدرسني كان يجعلني مستعداً للبحث والتدريس فهو دام ظله بذلك المنهج وهذا حاول أن يجعلني مصنفاً ومدرساً في وقت واحد.
ولم أزل ملازماً له غدوة وعشياً في حين إقامته بالعراق ومن بعد رجوعه إلى الهند وهو في صفر سنة 1332 حتى قرأت عليه كل ما قرأت من العلوم من النحو والتصريف والمنطق والحكمة والهيئة والفقه والأصول ولم يبعثني يوماً إلى أستاذ سواه حتى عندما كنت أتعلم حروف الهجاء المفردة فهو بنفسه الشريفة كان يهتم بي في كل الأدوار وكل الفنون اللهم إلا الأدب فإنه أمرني بالحضور فيه على زميله العلامة المفتي السيد محمد علي دام ظله ابن العلم الشهير المفتي السيد محمد عباس آل المحدث السيد نعمة الله الجزائري وما كان من قراءتي على بعض الأجلة من الفقهاء والأعلام بالهند على ما ستأتي الإشارة إليه فإنما كان التزاماً بقانون المدرسة الذي يوجب على تلاميذها الحضور في مجلس بحثها البتة وكان من آثار ما سلكه بي من المنهاج إني طويت مراحل الدروس السطحية وأخذت الشهادات العالية من كبار مدارس الهند وجلتها وأنا ابن عشرين سنة ولولا ما ظهر في البين من العراقيل التي عطلتني في خلال ذلك زهاء ثلث سنين لكنت أبلغ الغاية قبل هذا الأوان بمدة طويلة ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها والأشياء تجري على مقاديرها والأمر لله وحده.
كان السيد آلى على نفسه أن لا يبعثني إلى أستاذ سواه على ما ذكرت لكن دعته المصالح الشتى من بعد ذلك إلى أن يدخلني في بعض المدارس العلمية حتى أنال منها الشهادات الثمينة فدخلت الجامعة السلطانية المشتهرة بسلطان المدارس في لكهنؤ وحضرت على أكبر أساتيذها العلامة حجة الإسلام السيد محمد باقر قدس الله سره فسمعت منه شطراً من أصول الكافي وطهارة الرياض وفوائد شيخنا الأنصاري(قدس سره) ودخلت الجامعة الناظمية المسماة (مشارع الواعظين) فحضرت لدى أستاذها الأكبر العلامة المصلح الشهير السيد نجم الحسن مؤسس (مدرسة الواعظين) دام ظله وسمعت منه أيضاً شطراً قليلاً من الرياض والرسائل وقرأت لديه أيضاً من كتب الهيئة كتاب التصريح في شرح التشريح وعرضت على مسرح الامتحان في كل منهما ثلاث سنين وأديت أيضاً الامتحان في الكلية العربية ببلدة (إله آباد)
وفي الكلية العظمى العربية أيضاً في لكهنو فكان مجموع ما أديت من الامتحانات ثمانية وكان من فضل الله عليّ ولطفه إني في كلها نلت قصب السبق وسبقت على شركاء الامتحان فلقبت من تلك المدارس حسب قواعدها بألقاب سند الأفاضل. وصدر الأفاضل. والفاضل. وممتاز الأفاضل. والعالم. وفاضل الأدب. وأخذت في التدريس منذ مبادئ أمري ومن لطف الله سبحانه عليّ أن جعل قلوب الطلاب تهوى إليّ حتى إني من بعد إتمام الدروس المرسومة في الهند واختصاصي بالتدريس مدة سنة أو أكثر لربما باحثت في يوم واحد أكثر من خمسة عشر درساً من فنون متباينة كالمنطق والفقه والأصول والأدب حتى أن السيد أبي دام ظله خاف عليّ من كثرة الاشتغال فلربما منعني إرشاداً وكاد أن ينهاني مولوياً ولما أنهيت الدروس السطحية إلى الرسائل والمكاسب في تلك البلاد وأديت الامتحانات ساعدني التوفيق الإلهي على المهاجرة إلى النجف الأشرف فزممت ركاب السفر وشددت رحال الطلب وخرجت من بلدي مودعاً للأهل والأخوان ليلة الأحد الثالث من شعبان سنة 1345 ووصلت إلى النجف الأشرف بعد التشرف بزيارة مشاهد الكاظمين والعسكريين سلام الله عليهم ومشهدي الطف على صاحبيهما السلام يوم الثلاثاء السادس والعشرين من الشهر نفسه وكانت عطلة عامة في الأبحاث لأجل قرب شهر رمضان فبقيت وفي شهر رمضان ألفت رسالتي (كشف النقاب عن عقائد ابن عبد الوهاب) وقد جعلها الله سبحانه مرضية عند الناس جميعاً وسبباً لمعرفة الناس وحسن ظنهم بي ومن التاسع من شهر شوال أخذت في تحصيل العلم بسعي متواصل وجهد مستمر إلى اليوم والحمد لله فقرأت الدروس السطحية في الرسائل والمكاسب والكفاية على أستاذي العلامة عمدة العلماء المحققين حجة الإسلام والمسلمين الميرزا أبو الحسن المشكيني النجفي دام ظله صاحب الحاشية على الكفاية وحضرت لديه أيضاً في خارج بحثه بكتاب الصلوة وحضرت في خارج الأصول بحث آية الله العظمى إمام المحققين شيخنا الأعظم الميرزا محمد حسين النائيني متع الله المسلمين بطول بقائه.
ومن حسن الاتفاق أن صادف أول حضوري لديه شروع دورته في مباحث الألفاظ فقد أدركت دورته الأصولية هذه من أولها إلى الحال على الاستمرار إلا نادراً في بعض الليالي إذا صادفني مانع سفر ونحوه وحضرت في مباحث الألفاظ وشطر من الأدلة العقلية ونبذة من كتاب الطهارة مجلس بحث رئيس الشيعة والمرجع في أحكام الشريعة آية الله في العالمين السيد أبو الحسن الاصفهاني دام ظله وقليلاً من بحث الفقه والأصول لحضرة مقدام المحققين وواحد الأساطين الشيخ ضياء الدين العراقي أدام الله أيام أفاضاته اللهم هؤلاء مشايخي فأجزهم عني خير جزاء المحسنين وآتهم الحسنى في الدنيا والدين.
أما ما برز مني من المؤلفات فهنا ما كتبته وأنا بالهند ومنها ما كتبته بعد تشرفي بالنجف الأشرف أما القسم الأول فمنه رسالة البيت المعمور في عمارة القبور رداً على الوهابيين. روح الأدب في شرح لامية العرب. فرياد مسلمانان عالم مجموعة مناشير ومقالات ضافية والاستغاثة بالعالم الإسلامي وهذه الثلاثة مطبوعات وهي بلغة (أردو) اللغة الإسلامية بالهند. تذكرة السلف وهي كتاب في ترجمة جدي الأكبر العلامة المؤسس السيد دلدار علي(قدس سره) نشر كثير منها في بعض صحف الهند أرواق الذهب في استدال معافات وذهب عن صاحب (أوراق الذهب) في ترجمة جدنا العلامة الوحيد سيد العلماء السيد حسين(قدس سره)
بالعربية. رسالة في حكم انتقاض التيمم بدلاً عن الغسل بالحدث الأصغر. تواريخ الأعلام وهي مجموعة لطيفة في تواريخ ولادات أو وفيات العلماء الأعلام والأفاضل الكرام هذه عدا ما أشرنا إليه من كتب دراسية في النحو والتصريف جمعناها من الأسئلة والأجوبة عند اشتغالنا بقراءة المبادئ العربية.
وأما القسم الثاني فمنه. كشف النقاب عن عقائد ابن عبد الوهاب وهو أول ما الفته في النجف وقد تقدم ذكره طبع في المطبعة الحيدرية بالنجف الأشرف. السيف الماضي على عقائد الأباضي في زهاء (350 صحيفة). شنف النضير في مسألة التصوير تراجم مشاهير علماء الهند. الردود القرآنية على الكتب المسيحية في الرد على النصارى. إقالة العاثر في إقامة الشعائر رداً على رسالة (التنزيه) السورة طبعت بالنجف. مطارحة علمية وهي ما جرى من المراسلات بيني وبين أحد الفقهاء الأعلام حول مواضيع رسالتي إقالة العاثر. رسالة في الاجتهاد والتقليد من تقريرات بحث آية الله شيخنا الأعظم النائيني دام ظله مجلد تام. مباحث الأدلة العقلية من تقريراته دام ظله برز منها جزء إلى أواخر البراءة. مجموع ديوان البقيعيات جمعت فيه ما قيل في فاجعة البقيع من المنظوم والمنثور. نظرات على كتاب السفور والحجاب للآنسة نظيرة زين الدين السورية. تاريخ وفيات الشيعة برز منها زهاء مجلدين ونشر منها شيء كثير في مجلة (الهدى) الإسلامية بالعمارة.
تقريرات بحث الصلوة لآية الله الاصفهاني. أقرب المجازات إلى مشايخ الإجازات برز منه مجلد ضخم يزيد على (300) صحيفة لم يتم. أصول الدين والقرآن رسالة بلغة (أوردو) الهندية. نظرات بحاثة في الأخبار الثلاثة كتبتها رداً على السيد رشيد رضا المصري صاحب مجلة (المنار) في إنكاره لقوله(صلى الله عليه وآله) أنا مدينة العلم وعلي بابها وقوله(صلى الله عليه وآله) أقضاكم علي وقول الخليفة الثاني لولا علي لهلك عمر. الشعائر الحسينية في العراق. بغية المرتاد في شرح نجاة العباد لم يتم. لمحات على كتاب (الفتاة والشيوخ) للآنسة (نظيرة) زين الدين السفورية.
رشحات القلم وهي مجموعة مقالات دينية نشرت مني في الصحف والمجلات الهندية. الظل الظليل في المكاتيب والمراسيل وهو مجموع ما دار بيني وبين جملة من الأعلام من المكاتيب العربية متضمنة النكات من البلاغة والأدب. حاشية الأدلة العقلية من الكفاية وفيها فوائد استفدتها من بحث شيخنا العلامة المشكيني دام علاه. تعليقات على المكاسب كذلك إلى غير ذلك من حواشي غير مدونة ومقالات ضافية منشورة وملاحظات انتقادية على الكتب التي طالعتها مما لا يسعني الآن بيانه وإني أعترف بالتقصير وأسأل الله سبحانه أن يوفقني للعلم والعمل بواجب الدين من نشر آثار سيد المرسلين وآله المعصومين إنه أرحم الراحمين.
وأما مشايخي في الرواية فهم كثير من أعلام الطائفة كالآيات والحجج والأعلام الميرزا محمد حسين النائيني. والميرزا علي أقا الشيرازي. والسيد حسن الصدر. والشيخ عبد الله المامقاني. والشيخ محمد باقر البيرجندي. وآقا رضا الاصفهاني النجفي. والشيخ مرتضى آل كاشف الغطاء طاب ثراه والسيد نجم الحسن الكهنوي. وسيدنا الوالد العلامة. والشيخ محمد كاظم الشيرازي. والسيد ميرزا هادي الخرساني. والميرزا محمد الطهراني. والشيخ محسن المعروف بآقا بزرك الطهراني نزيل سامراء. والحاج عباس القمي وغيرهم ممن ذكرت تراجمهم وأسانيدهم بأجمعها في كتاب (أقرب الأجازات).
هذا ما أردت بيانه في هذا المختصر قضاءً للوطر وإبقاءً للأثر. أسأل الله سبحانه أن يجعل عاقبة أمري خيراً ويرزقني الحسنى في الدين والدنيا إنه بالإجابة جدير وهو على كل شيء قدير.
كتبته في غاية الاستعجال وتوزع البال يوم الأربعاء الثاني عشر من ذي القعدة سنة 1349 هـ في بقعة النجف الطيبة الزكية على مشرفها ألف سلام وتحية وأنا الأقل علي نقي النقوي عفي عنه.