لقد شهدت مدينة النجف وخلال القرون الأولى من نشأتها وصيرورتها كمدينة تحمل في خواصها وطابعها وقوامها مزايا المدينة التي نمت وازدهرت بفعل عوامل متعددة، فكما كان العامل الديني أحد العوامل الرئيسة التي ساعدت على ظهور ونشوء مدينة النجف، كان للعامل العلمي أثر واضح في ارتقاء هذه المدينة ووقوفها إلى مصاف المدن الإسلامية. وقد سار هذا العامل جنباً بجنب مع العامل الديني، فكان للعامل العلمي دور لا يقل عن غيره في تهيئة دوافع الاستقرار والتوطن(1)، وذلك من أجل العلم والتلمذة على منبر النجف.
فيذكر الدكتور المظفر: (إذ إن العامل الديني والثقافي المتصل بالدين، لعب دوراً في إيصال النجف إلى المرتبة الحجمية التي هي عليها الآن، سواء أكان ذلك عن طريق النمو الطبيعي، أو الهجرة التي هي حصيلة عوامل دفع اقتصادية، واجتماعية، وعوامل جذب دينية، وثقافية، واجتماعية متداخلة)(2)،
ويبدو من خلال هذا الرأي المتقدم ما للعاملين الديني والفكري اللذين كانا وما زالا من المقومات الأساسية التي جذبت الكثيرين للعيش في مدينة النجف والهجرة للنجف بالأمس هي أنفع منها اليوم.
ومدرسة النجف إنما ازدهرت فيها حلقات الدرس والتدريس بفضل شخصية الشيخ الطوسي العلمية، حيث عد انتقاله من بغداد إلى النجف منعطفاً كبيراً في تاريخ الحركة العلمية(3).
وقد أشار عدد غير قليل من المؤرخين إلى وجود حركة علمية في مدينة النجف قبل نزول الشيخ حيث أولوا عناية خاصة بدراسة المرحلة التي سبقت عصر الشيخ الطوسي ويذكر الدكتور مصطفى جواد: (وفي التحقيق أنه قد احتوى التاريخ على علماء من الشيعة بثوا العلم في الغري قبل العلامة الفقيه الطوسي)(4)، في حين يذكر بحر العلوم: (إن النجف قبل هجرة الشيخ الطوسي في سنة 449هـ، كانت فيها جذور علمية، وتضم بعض رجالات الفضل والعلم، واتخذوا من النجف الأشرف بعد ظهور القبر فيه مقراً لهم)(5).
لقد استمرت مدرسة النجف بالعطاء العلمي بعد وفاة الشيخ الطوسي، وقد وقع بعض الباحثين في وهم كبير، عند ذكر انه عقب وفاة الشيخ: (بدأ الفتور يدب في نفوس طلاب العلم)(6)، وهذا الرأي بعيد عن الصحة، بل على العكس من ذلك، فبوجود أبي علي الطوسي الذي استطاع أن يقوم بمهام الحوزة العلمية بعد الفراغ الذي خلف والده بشهادة كثير من المؤرخين، ولم يدب الفتور الحقيقي إلى مدرسة النجف حتى القرن السابع الهجري بغياب الزعامة الدينية فيها(7).
تولى أبو علي الطوسي زعامة مدرسة النجف ومهامها الدينية، وأصبح المرجع الأول للأمامية، فيقول ابن حجر العسقلاني: (ثم صار فقيه الشيعة وإمامهم بمشهد
علي(رضي الله عنه))(8) وإليه تنتهي أكثر الإجازات العلمية عند الشيعة(9)، قام بدور كبير في إدارة دفة الجامعة وتولى الحفاظ على استمرارها وبقائها في مدينة النجف: (وكانت الرحلة إليه والمعول عليه في التدريس والفتيان وإلقاء الحديث، وغير ذلك من شؤون الرياسة العلمية)(10)،
وقد اجمع كافة المترجمين له على علو شأنه في العلم والعمل، وانه أحد كبار فقهاء الشيعة وأجلاء علماء الطائفة، وأفاضل حملة الحديث وأعلام الرواة وثقاتهم، ومنتهى الإجازات، وقد بلغ من علو الشأن وسمو المكانة انه لقب بالمفيد الثاني(11)، تميزاً عن الشيخ المفيد أستاذ أبيه.
وإن الزعامة الدينية لم تكن تنتهي إلى أبي علي الطوسي لولا ما كان يتمتع به مكانة علمية وأكثر قابلية من سائر تلامذة الشيخ الطوسي: (لتحمل أعباء المسؤولية لإدارة شؤون الجامعة، واستمرار الحركة العلمية فيها زماناً ليس بالقصير، وهي تؤدي عملها العلمي بصورة امتدادية للشيخ الطوسي)(12).
والشيء الذي نحاول الوصول إليه أن انتهاء الزعامة إلى أبي علي الطوسي لا لكونه ابن الشيخ الطوسي، وإنما لما أظهر من قابليات علمية في زمن والده ميزته عن غيره ورشحته لنيل هذا المنصب، ويقول الأفندي: (وكان أبو علي شريكاً في الدرس مع الشيخ أبي الوفاء عبد الجبار بن علي الرازي، والشيخ أبي الحسن بن الحسين بن بابويه القمي، والشيخ أبو عبد الله محمد بن هبة الله الوراق الطربلسي)(13).
وظلت مدرسة النجف خلال هذا الدور، بمواصلة مسيرتها العلمية، واستقرار أوضاعها ما دامت الحوزة العلمية لم تخرج من مدرستها فبقيت محط توافد طلبة العلم من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، لأجل النهل من علومها والاستفاضة من معارفها الفياضة، واقتفى أبي علي الطوسي آثار والده من أجل النهوض بمدرسة النجف وتطوير مراحلها الدراسية.
ويمكن أن نتعرف على مدى رواج الحركة العلمية في مدرسة النجف على عهد الشيخ أبي علي الطوسي ما أوردته كتب الرجال عدداً غير قليل من حملة العلم والحديث من الفريقين الذين تتلمذوا على يده، فقد ذكر الشيخ منتجب الدين بن بابويه صاحب كتاب الفهرست أربعة عشر رجلاً وأضاف إليها الشيخ أغا بزرك الطهراني ستة عشر رجلاً، كما ذكر ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان ثلاثة أشخاص من العامة، فيكون المجموع أربعة وثلاثين.
وذكر ابن حجر العسقلاني من العامة تتلمذوا على يد الشيخ أبي علي الطوسي بقوله: (سمع منه أبو الفضل بن العطاف، وهبة الله السقطي، ومحمد النسفي)(14).
وهناك عدد غير قليل من الحلقات الدراسية التي كانت تعقد في المشهد الشريف، حيث تولى أمر التدريس فيها بعض من تلامذة الشيخ الطوسي، وان أغلب تلامذة أبي علي الطوسي التي ذكرناهم كانوا قد تتلمذوا على يد الشيخ المفيد أبي الوفاء عبد الجبار بن عبد الله الرازي تلميذ الشيخ الطوسي وهذا ما وجدنا، عند تتبعنا لتراجم هؤلاء في المصادر الرجالية، إضافة إلى أن هناك عدد آخر من الأساتذة الذين تولوا إلقاء الدروس على طلبتهم في المشهد الشريف أي كان هناك إلى جانب أبي علي الطوسي كانت ترتكز مدرسة النجف على دعائم أخرى من تلاميذ الشيخ الطوسي، كان شيوخ الحوزة العلمية في النجف في الفترة التي أعقبت وفاة الشيخ الطوسي، كالشيخ أبي الوفاء بن عبد الله الرازي، والشيخ أبي محمد الحسن بن الحسين بن بابويه القمي المدعو حسكا، والشيخ أبو عبد الله بن هبة الله الوراق الطرابلسي وأبو عبد الله الحسين بن علي الحمداني إلى جانب صهر الشيخ الطوسي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن شهريار(15)
حيث كانت له حلقة منفردة في المشهد الشريف يلقي فيها مختلف العلوم الدينية وكان من ضمن تلامذته الطبري صاحب كتاب بشارة المصطفى الذي تتلمذ على يده بقوله: (أخبرنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن شهريار الخازن بقراءتي عليه في ذي القعدة سنة اثني عشر وخمسمائة بمشهد مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام))(16).
واستمر الشيخ أبو علي الطوسي في إلقاء دروسه وبحوثه على طلابه في مشهد مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) حتى أواخر حياته حيث يقول الطبري: (أخبرنا الشيخ المفيد أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي بمشهد مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) ع
لي بن أبي طالب(عليه السلام) بقراءتي عليه في جمادي الآخرة سنة إحدى عشرة وخمسمائة)(17)، حتى وافاه الأجل في نفس هذا العام المذكور(18).
وعقب وفاة الشيخ أبي علي الطوسي ظلت مدرسته تؤدي دورها الرسالي في الدراسات العلمية والفكرية، حيث تولى رعايتها أسرة الشيخ الطوسي، فتقدم ولده أبو نصر محمد بن أبي علي الحسن بن أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي(19)، فتزعم الحوزة العلمية في النجف، ويقول فيه أغا بزرك الطهراني: (كان الشيخ أبو نصر من أعاظم العظماء، أكابر الفقهاء، وأفاضل الحجج، وأثبات الرواة وثقاتهم، فقد قام والده في النجف، وانتقلت إليه الرياسة والمرجعية، وتقاطر عليه طلاب العلم من شتى النواحي)(20) .
نشرت في العدد 32
(1) الخفاف، سكن محافظة كربلاء ـ رسالة ماجستير غير منشورة ـ ص55.
(2) مدينة النجف الكبرى، ص120.
(3) محمد جواد فخر الدين، تاريخ النجف حتى نهاية العصر العباسي، ص312.
(4) نظرات في الذريعة، مجلة البيان، العدد السادس، السنة الأولى، 1946، ص133.
(5) الدراسة وتاريخها في النجف ـ موسوعة العتبات المقدسة ـ القسم الخاص بمدينة النجف، 2/21.
(6) كمال الدين، هادي، فقهاء الفيحاء أو تطور الحركة الفكرية في الحلة، مطبعة المعارف بغداد 1962، ص80.
(7) محمد جواد فخر الدين، تاريخ النجف حتى نهاية العصر العباسي، ص385.
(8) لسان الميزان، 2/250.
(9) المامقاني، تنقيح المقال، 1/306، البروجردي، نخبة المقال، 1/105، القمي سفينة البحار، 2/360.
(10) أغا بزرك، مقدمة التبيان، 1/ أف.
(11) ابن شهرآشوب، معالم العلماء، ص32، الأفندي، رياض العلماء، 20/ ورقة رقم 77، الكاشاني، لباب الألقاب، ص31، بحر العلوم، تحفة العالم، 1/201، النوري، مستدرك الوسائل، 3/497، القمي، سفينة البحار، 2/390، هدية الأحباب، ص244، الأمين، أعيان الشيعة، 3/497، أغا بزرك، الذريعة، 4/236، بحر العلوم، مقدمة رجال الطوسي، ص120 – 121.
(12) بحر العلوم، الدراسة وتاريخها في النجف، ص42 – 43.
(13) رياض العلماء،، 2/ ورقة رقم 77.
(14) لسان الميزان، 2/250.
(15) ابن النجف في النجف سطور، مجلة النجف، العدد الرابع، السنة الثانية، 1958، ص27.
(16) ص86.
(17) بشارة المصطفى، ص22.
(18) الحكيم، الشيخ الطوسي، ص184.
(19) أغا بزرك، مقدمة التبيان، 1/ أخ، مقدمة الغيبة، ص11، طبقات القرن السادس، ص251، الذريعة، 4/236، بحر العلوم، مقدمة رجال الطوسي، ص122.
(20) أغا بزرك، مقدمة التبيان، 1/ أخ.