Take a fresh look at your lifestyle.

عجز الموازنة العامة المبررات والمعالجات

0 554

أ. د. رضا صاحب أبو حمد
كلية الإدارة والاقتصاد/ جامعة الكوفة

             قبل التطرق إلى عجز الموازنة العامة لابد من تعريف الموازنة العامة، فهي خطة تتضمن تقدير نفقات الدولة وإيراداتها العامة خلال فترة قادمة غالباً ما تكون سنة ويتم هذا التقدير في ضوء الأهداف التي تسعى إليها السلطة السياسية.
أما عجز الموازنة العامة فهو تجاوز النفقات العامة الإيرادات العامة خلال مدة معينة، سنة غالباً، أو هو الوضع الذي تكون فيه الدولة غير قادرة على تغطية نفقاتها العامة من إيراداتها العامة.

أما تبرير وجود العجز فقد يحاول البعض إيجاد مبرر لسماح الحكومات بتكوين عجوزات في الموازنة العامة، في حالة كون النمو في النفقات الحكومية يهدف إلى تحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية، فزيادة الاستثمار العامة كنسبة من إجمالي الناتج المحلي عن طريق تحسين البنية الأساسية المادية على سبيل المثال قد تؤدي إلى ارتفاع نسبة العائد على رأس المال الخاص أو إلى إنتاج سلعة أو خدمة لن يستطيع القطاع الخاص توفيرها بسبب العوامل الخارجية، وقد تمثل زيادة الإنفاق على التعليم أو الرعاية الصحية أو شبكة الحماية الاجتماعية أو ربما لتمويل العجز حجة قوية لتعزيز رأس المال البشري للدولة، فهذا الإنفاق على رأس المال المادي والبشري يمثل استثماراً قومياً جيداً يقوم بتغطية تكاليفه من خلال زيادة الإنتاجية وزيادة الدخول ومن ثم زيادة الإيرادات الضريبية والإيرادات الأخرى.

ولكن من الصعب استخدام هذه المقولة لتبرير نمو العجوزات العامة فقد يكون لارتفاع مستوى النفقات العامة مؤشراً اقتصادياً إلى حد ما غير صحيح مما يؤدي إلى خفض معدل النمو الاقتصادي، فعلى سبيل المثال قد يؤدي الدعم الحكومي إلى الحد من الكفاءة الاقتصادية عن طريق حماية المؤسسات من المنافسة، وارتفاع تكاليف الإنتاج وتشويه مؤشرات الأسعار، وتشجيع الأنشطة الباحثة عن تحقيق الربح الاقتصادي بطرق مختلفة مما يؤدي إلى أن تكون النتيجة هي سوء توزيع الموارد بعيداً عن أكثر استخداماتها الإنتاجية.

حالات عجز الموازنة العامة ومعالجتها
إن لعجز الموازنة العامة أسباب مختلفة فقد يكون ناشئاً عن خطأ حسابي في تقدير اعتمادات الموازنة العامة وقد ينتج عن أسباب أخرى تزول بعد فترة: أزمة اقتصادية نشأ عنها عجز مؤقت (يتوقف على مستوى النشاط الاقتصادي إنعاشاً أو انكماشاً)، وقد يكون متأتياً عن خلل هيكلي في الاقتصاد القومي يتوضح من نقص مستمر في الموارد العامة، ولكن كيف نعالج هذه الحالات من خلال جعل الموازنة العامة في حالة توازن أي أن تكون نفقاتها العامة تساوي إيراداتها العامة.

أولاً: حالة الاختلال الناشئ عن خطأ حسابي في التقدير: وهذا لا يشير أية صعوبة في معالجتها، ذلك لأن مراعاة الدقة والموضوعية في تقدير الإيرادات العامة والنفقات العامة في المراحل اللاحقة سيكون كفيلاً بتجنبه.
ثانياً: حالة العجز المؤقت في الموازنة: والذي يتمثل بعدم التساوي بين النفقات العامة والإيرادات العامة، لأسباب متعلقة بزيادة النفقات العامة أو انخفاض الإيرادات العامة نتيجة لتراجع معدلات نمو الدخل القومي الذي حدث تحت تأثير حركة نزولية أنخفض فيها مستوى النشاط الاقتصادي، ويمكن قبول هذا العجز طالما أنه مؤقت وبخاصة إذا تم تطويقه بسياسة مالية ونقدية محددة ومخططة تبعاً لتوازن الاقتصاد القومي، وعلى الرغم من أهمية معالجة هذا العجز طالماً أنه ممكناً والسبيل إلى ذلك، تخفيض النفقات العامة وزيادة الإيرادات العامة أو استخدام الاثنين معاً، ولا شك أن لكل أسلوب منها حدوده وخطورته وأهميته سنتابعها كما يأتي:

1ـ تقليص النفقات العامة:
تتحدد الإيرادات العامة في ضوء مستوى النفقات العامة، وعندما يحصل عجز في الموازنة العامة، فيمكن تخفيض النفقات العامة لتتوازن مع الإيرادات العامة، ولاشك أن هذا الحل يمثل تطبيقاً لمبادئ الفكر المالي التقليدي، الذي أكد بأن النفقات العامة ما هي إلا نفقات استهلاكية لذلك فمن المنطق تقليل الاستهلاك العامة. ولا يمكن القبول بهذا الفكر بصورة مطلقة بسبب تعارضها مع:

أ ـ السياسة المالية الحديثة التي فرضت على الدولة أن تتدخل في النشاط الاقتصادي والاجتماعي، بالإضافة إلى واجبها الأساسي هو تقديم الخدمات العامة لإشباع الحاجات العامة، ولاشك أن الموارد العامة تتحدد تبعاً للإنفاق العام وليس العكس.
ب ـ أن تقليص النفقات العامة يعني تقليل الطلب الحكومي. الذي يؤدي إلى تقليص الطلب الكلي. وهذا الأمر يساعد على تقوية الاتجاه نحو الأزمة، لأنه يشحذ من درجة الانكماش في الدخل القومي، ويزداد سوءاً من خلال الانكماش في الحصيلة الضريبية وهذا يؤدي إلى تقليص أضافي في النفقات العامة.

ج ـ أن تخفيض النفقات العامة يخالف الاتجاه الطبيعي المتمثل في اتجاه معدلها نحو الزيادة في المدى الطويل.
د ـ وأخيراً فإن بعض النفقات العامة غير قابلة للتقليص بطبيعتها بصرف النظر عن الطريقة التي نشأت فيها، مثل فوائد الدين العام وأقساطه، أو أن الظروف لا تسمح بتخفيض بعض بنودها: الأجور والمرتبات، نفقات عسكرية ضرورية ولذلك تنصرف مسألة التقليص إلى بنود أخرى قد تكون أفضل من غيرها في هذه المحاولة ومع ذلك فأن هذا الأمر ليس مطلقاً حيث أن له حد معين يصبح بعده غير قابل للتقليص.

وفي ضوء ما تقدم أن سياسة تقليص النفقات العامة لمعالجة العجز في الموازنة العامة خاصة الضرورية منها والمتعلقة بالخدمات العامة وبالمشاريع الإنتاجية التي تزيد من تنوع مكونات الناتج القومي الإجمالي تكون غير فعالة ومشكوك في نتائجها حيث يصعب تحديد أثرها على الدخل القومي..ولو تتبعنا الآثار المباشرة وغير المباشرة لمثل هذا التقليص لتعذر تحديد نسبة التخفيض التي تسد العجز في الموازنة العامة.

2ـ زيادة الإيرادات العامة:
عندما تتوفر الإمكانية على زيادة بعض مصادر الإيرادات العامة، ويتعذر تقليص النفقات العامة، يمكن تحقيق التوازن في الموازنة العامة من خلال زيادة إيرادات المصادر المتاحة، مثل زيادة الصادرات من المواد الأولية والمصنعة وزيادة الإيرادات الضريبية إلا أن هذا الطريق ليس ممهداً لأنه يعتمد على مدى مرونة الجهاز الخارجي على هذه المنتجات، وكذلك على كفاءة الجهاز الضريبي وتنوعه، وعلى زيادة المقدرة الضريبية للمكلفين وعلى المحافظة على المال العام والحرص على زيادته، والقدرة على تحديد الحصيلة الضريبية المثلى (العبء الضريبي الأمثل) لأن أي زيادة فوق هذا الحد سيؤدي إلى انكماش الحصيلة الضريبية رغم زيادة أسعار الضرائب بل وأكثر من ذلك إذ حتى لو كانت الزيادة في أسعار الضرائب دون الحصيلة الضريبة المثلى، فإن لهذه الزيادة أثارها الانكماشية على الدخل على وجه التحديد، ذلك لأن الزيادة في سعرها يمثل زيادة الجزء المقتطع من الدخل وبالتالي تقليص الجزء المخصص للاستهلاك والادخار ثم الاستثمار.

3ـ معالجة النفقات والإيرادات العامة معاً:
يمكن استخدام جانبي الموازنة العامة لتحقيق التوازن فيها، أي العمل على تغيير مكونات النفقات العامة من خلال أحداث تغييرات كيفية ونوعية لا كمية فيها عن طريق زيادة بعض البنود والاعتمادات على حساب بعض آخر من البنود والاعتمادات بسبب التطورات والتغييرات التي تحدث في المجتمع والاقتصاد القومي، مثل ضغط التحويلات إلى الخارج وزيادة التحويلات إلى الداخل وزيادة النفقات الإنتاجية على حساب بعض النفقات العسكرية في حدود ما تسمح به الظروف الأمنية والسياسية الخاصة في البلد بالإضافة إلى زيادة الاهتمام بالرسوم الكمركية فهي فضلاً عن أنها إيراد مالي جيد فإنها تستخدم لتنظيم عمليات الاستيراد ولحماية المنتجات الوطنية وزيادة قدرتها على منافسة مثيلاتها من السلع الأجنبية، مثل هذه الإجراءات وغيرها تساهم في تحقيق التوازن بين الإيرادات والنفقات العامة.

ثالثاً: العجز الهيكلي في الموازنة العامة: يحدث هذا العجز إذا لم تمول الإيرادات العامة بصورة مستمرة النفقات العامة، حيث يصبح دائماً لا مجرد عدم التوافق بين الإيراد والنفقة، وإنما لعدم توازن الجهاز المالي كله، ويعود هذا الوضع عادة إلى زيادة النفقات العامة بمعدل يزيد عن القدرة المالية للاقتصاد القومي بجميع مصادره، أي قدرة الدخل القومي على تحمل الأعباء العامة على اختلاف صورها.

وهذا يشير إلى وجود خلل في هيكل الاقتصاد القومي نفسه حيث يكون الإنفاق العام غير منتج إنتاجاً كافياً، ويعتبر علاج هذا العجز صعباً إذا عولج بأساليب مالية محضة، وبالنظر إلى أن العجز الهيكلي يترتب بطبيعته على اختلاف في الهيكل الاقتصادي ذاته، ولهذا يجب أن يضاف إلى العوامل المالية عوامل اقتصادية متعددة.
وفي هذا المجال يمكن التخفيض من العجز الهيكلي بطريقتين: تتمثل الأولى في العمل على التخفيف من معدل الزيادة في النفقات العامة من خلال الضغط على النفقات ذات الأهمية القليلة ورفع إنتاجية النفقات العامة إلى أقصى قدر ممكن.

والطريقة الثانية تتمثل في زيادة معدل الزيادة في الموارد العامة وهي تعتمد على الأولى لأن زيادة إنتاجية النفقات العامة يؤدي إلى زيادة الدخل القومي، الذي يقود إلى زيادة الجزء المقتطع منه (الإيراد العام) وهذا يعني أن معالجة مصادر الإيرادات العامة وبخاصة الضرائب ينبغي ألا يكون بصورة مباشرة ومنفصلة عن الطريقة الأولى، وإنما مع العمل على زيادة الإنتاجية في النفقات العامة، لأن زيادة الضرائب تعني زيادة الجزء المقتطع من الدخل لتغطية هذا الإنفاق الذي قد يكون أحياناً أقل إنتاجية من الإنفاق الخاص، ويحدث ذلك في الحالات التي تفتقر فيها وحدات الاقتصاد العام إلى الكوادر الكفوءة في الإدارة العامة والاقتصادية ، أو لما ما تعانيه من خلل في تنظيماتها، أو لعدم الشعور بالمسؤولية وضعف الجهاز الرقابي أو الانتشار الفساد الإداري والمالي، أو لتخلف وسائلها الفنية عن مستوى التقدم العلمي والتكنولوجي في مجال الإنتاج…وعندئذ يقضي المنطق تخفيض الضرائب لوضع جزء كبير من الدخل القومي تحت يد الإفراد، وهذا يشكل عاملاً مشجعاً لأوجه النشاط الخاص، بشرط عدم إلحاق الضرر بالمصلحة العامة القومية في ضوء ظروف المجتمع وفي الحالتين فإن ذلك يساعد على تهيئه الفرصة للارتفاع بإنتاجية الاقتصاد الخاص والعام معاً .

نشرت في العدد 31

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.