اعتاد شيعة أهل البيت(عليهم السلام) أن يأخذوا أحكام دينهم من الإمام(عليه السلام)
مباشرة، إما عن طريق اللقاء به وسؤاله وسماع الجواب منه، أو إرسال شخص يسأل السؤال المطلوب ويرجع بالجواب، أو كتابة السؤال وإرساله إليه(عليه السلام)،
واستلام الجواب بخطه الشريف، أو موقّعاً بتوقيعه، أو فيه ما يدل على أن الجواب صادر منه(عليه السلام).
فبهذه الطرق ـ والتي نتيجتها أخذ الحكم من الإمام مباشرة ـ وأمثالها يتعرف الشيعة على أحكام دينهم، والتي هي أهم ما يحتاجونه في حياتهم، ذلك لأنهم يتعلّمون ليعملوا بما أمرهم الله به.
فلم تكن الشيعة لتتعدى سؤال الأئمة إلى سؤال غيرهم، بل ربّما لم يكن سؤال غير الإمام مطروحاً آنذاك، لما هو المعلوم من أهمية الحكم الشرعي أهمية بالغة، ما يلزم معه عدم التفريط به في أخذه من غير المعصوم، نظراً لما جُبل عليه الإنسان من الاشتباه والنسيان، وإن كان ثقة مأموناً في حد نفسه.
فهم يأخذون الأحكام من الإمام(عليه السلام) مباشرة، لأنهم أحد مصادر التشريع، وهم حجج الله على خلقه، والمدار في نيل الثواب والعقاب، وهم المعصومون المنصوبون من قبل الله تبارك وتعالى لهذا الأمر، حيث قال: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(1).
وأحب التذكير هنا ـ قارئي الكريم ـ
بأمر لا يخلو من فائدة، وهو أنه في الوقت الذي يلزم على الناس أن يسألوا الأئمة ويتعلموا، كي يعملوا بعلمهم، حتى ورد في تفسير قوله تعالى: (فلله الحجة البالغة)(2) أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم. قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصم، فتلك الحجة البالغة(3).
في الوقت ذاته ليس على الأئمة(عليهم السلام) الإجابة على جميع الأسئلة التي توجّه إليهم، بل لهم حرية اختيار ما يجيبون عليه وما لا يجيبون، إذ هم أعرف بالمصالح والمفاسد المترتبة على الجواب، وأعرف بمدى قابلية السائل لتحمله، فعن الوشاء قال: (سألت الرضا(عليه السلام)، فقلت له: جعلت فداك (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)؟ فقال: نحن أهل الذكر، ونحن المسؤولون. قلت: فأنتم المسؤولون ونحن السائلون؟ قال: نعم. قلت: حقاً علينا أن نسألكم؟ قال: نعم. قلت: حقاً عليكم أن تجيبونا؟ قال: لا، ذاك إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل)(4).
فإشاءتهم(عليهم السلام) في الإجابة على أسئلة السائلين واستفساراتهم لم تكن أمراً كيفيّاً محضاً، فهم(عليهم السلام) أعلى شأناً من ذلك، وإنما هي خاضعة لوجود المصالح وعدمها.
وأعود لأقول..
لم تزل الشيعة على هذا المنوال، من مراجعتهم لخصوص أئمتهم(عليهم السلام)، حتى بدؤوا(عليهم السلام) يأمرون من يجدون فيه الكفاءة بأن يفتي الناس في المسجد، ويعلمونهم أحكام دينهم، فقد ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام)
أنه قال لأبان بن تغلب: (اجلس في مسجد المدينة، وأفتِ الناس، فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك، فجلس)(5).
وليكن معلوماً أن قوله(عليه السلام): (أفتِ الناس) ليس المراد منه نقل نص كلام الإمام(عليه السلام) للناس في المسجد، وإنما المراد منه نقل ما يفهمه ويستنبطه من كلامه(عليه السلام)، خصوصاً إذا عرفنا أن الإفتاء في اللغة هو الإبانة.
ولم يقتصروا(عليهم السلام) على الأمر بإفتاء الناس في المسجد، بل كانوا يرشدون أصحابهم ومواليهم ـ خصوصاً من لا يستطيع الوصول للإمام(عليه السلام) ـ إلى سؤال غيرهم، من ذوي الكفاءة والأمانة، مع تحديد للشخص الذي يُسأل.
ففي صحيح عبد الله بن أبي يعفور: (قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): إنه ليس كل ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه، فقال: ما يمنعك عن محمد بن مسلم الثقفي، فإنه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً)(6).
فلم يعلق الإمام الصادق(عليه السلام) على قول السائل: (ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه)، ولم ينكر عليه إجابته السائل على سؤاله، ولم ينهه عن تعليمه الحكم الشرعي، فلو كانت الإجابة من مختصات الأئمة(عليهم السلام) لنهاه الإمام عن إجاباته للسائلين.
بالإضافة إلى أنه(عليه السلام) أرشده إلى سؤال محمد بن مسلم، معللاً بأنه قد عاصر الإمام الباقر(عليه السلام) وسمع حديثه، وكان وجيهاً عنده، فهو يمتاز بسعة اطلاعه على الأحكام الشرعية، مضافاً إلى ما يتمتع به من أمانة عالية.
وفي صحيح شعيب العقرقوفي: (قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال: عليك بالأسدي. يعني أبا بصير)(7).
وعن عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعاً، عن الرضا(عليه السلام) قال: (قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم)(8).
وعن علي بن المسيب الهمداني قال: قلت للرضا(عليه السلام): (شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت، فممن آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا. قال علي بن المسيب: فلما انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم، فسألته عما احتجت إليه)(9).
فبعد أن كان المكلف إذا احتاج إلى السؤال عن حكم شرعي ليس له إلا سؤال الإمام(عليه السلام) لانحصار الأمر به، أصبح بإمكانه أخذ الحكم الشرعي من جماعة من الثقات، ممن حمل فقه أهل البيت(عليهم السلام)،
وروى حديثهم.
وغير خافٍ أن مشروعية رجوع المكلفين إلى غير الإمام وأخذ الحكم الشرعي منه لم تكن مختصة بحالة ما إذا لم يمكن الرجوع للإمام(عليه السلام)، بل حتى مع إمكان الوصول للإمام وأخذ الحكم الشرعي منه يمكن الرجوع إلى غيره، فكما أن الإمام(عليه السلام) حجة لله تعالى في أرضه، بمعنى أنه سبحانه يحتج على عباده به يوم القيامة، ولا يبقى عذر لمعتذر، كذلك من ينصبه الإمام(عليه السلام) للفتوى هو حجة لله تعالى في أرضه، وعليه فتتعدد الحجج بتعدد الأشخاص الذين ينصبهم الإمام(عليه السلام) للفتوى.
أما عن الأسباب التي دعت إلى إرجاع الأئمة(عليهم السلام) شيعتهم إلى أشخاص حملوا أحاديثهم، وعرفوا حلالهم من حرامهم، فهناك مجموعة من الأسباب لعل أهمها..
هو أنه لما كان في سابق علم الأئمة(عليهم السلام)
أن فترة تمكّن الشيعة من الالتقاء بهم وأخذ الأحكام منهم مباشرة محدودة جداً، نظراً لما ستُمتحن به الأمة من احتجاب الإمام المنتظر (عجل الله فرجه) عن شيعته وعن الناس، وعليه فسوف تمرّ على الشيعة أدوار ـ يطول أمدها ـ يفقدون فيها ما كانوا يألفونه من أخذ الحكم من الإمام مباشرة، مما قد تُسبّب غيبة الإمام(عليه السلام) صدمة عند شيعته، لفقدهم الجهة التي كانوا يأخذون منها أحكامهم الشرعية، ما لم تكن هناك عملية ترويض تدريجي يقوم بها الأئمة(عليهم السلام) تتمثل في خلق مناخات مناسبة وأجواء تسهم في تمكن الشيعة من الاستقلالية بأنفسهم والاكتفاء الذاتي.
فكان إرجاع الأئمة(عليهم السلام) شيعتهم إلى أعيان أصحابهم عملاً تربوياً هادفاً، اعتاد الشيعة ـ من خلاله ـ على الرجوع إلى غير الإمام، وأخذ الحكم الشرعي منه.
واستمر الشيعة على هذا النحو إلى حين الغيبة الصغرى، فكانوا ربما يكتبون إلى الإمام المنتظر(عليه السلام) عن طريق أحد نوابه الأربعة، أو يكتفون بسؤال أحد الأعيان ممن أرشد إليه المعصوم(عليه السلام).
حتى إذا أشرفت الغيبة الصغرى على الانتهاء، ليجيء من أمر الله تعالى ما أراده لخلقه، من غيبة الإمام(عليه السلام) غيبة يطول أمدها، وأصبح لزاماً على الناس ـ حينئذٍ ـ أن يستقلوا بأنفسهم، ويأخذ بعضهم الحكم الشرعي من بعض، ذلك لأنه لا يمكن ـ وبأي شكل من الأشكال ـ الاتصال بالإمام(عليه السلام)،
ومن الواضح أن إرجاعات الأئمة(عليهم السلام) الصادرة بحق أشخاص بخصوصهم إنما تدل على كفاءة الشخص بنفسه، ولا تنفع على طول الفترة، فهي لا تعطي ضابطة بالمؤهلات لهذه المهمة، حتى يمكن تطبيق تلك الضابطة على الأشخاص، لتمييز من توفرت فيه المؤهلات من غيره.
في هذا الظرف خرج التوقيع الشريف من الإمام المنتظر(عليه السلام) يقول فيه: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله)(10)، وكان الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) أشار إلى هذا المعنى بقوله: (فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه)(11).
فأصبح هذان الحديثان وأمثالهما بمثابة القاعدة، التي يُعرف من خلالها من تتوفر فيه مؤهلات الفتيا، والذي يكون حجة لله على خلقه مجعولاً من قبل الإمام(عليه السلام).
هذا وقد تحصل من جميع ما تقدم أن الإرجاعات الصادرة من الأئمة(عليهم السلام) على نوعين..
أحدهما: إرجاعات لخصوص أشخاص بأعيانهما، كالذي حصل من الإمامين الباقر والصادق(عليهما السلام) وغيرهما.
الثاني: إرجاعات لا لشخص معين، بل لعموم من تنطبق عليه القاعدة وتتوفر فيه الصفات.
وعلى هذا فكما أن الشخص الذي يُرجِع إليه الإمام(عليه السلام) بخصوصه والذي هو من النوع الأول يكون حجة ومجعولاً من قبل الإمام(عليه السلام)، كذلك الذي تنطبق عليه القاعدة والذي هو من النوع الثاني يكون حجة أيضاً ومجعولاً من قبل الإمام(عليه السلام).
ولا يخفى أن العلماء في زمان الغيبة الكبرى الذين تنطبق عليهم القاعدة وتتوفر فيهم الصفات التي ذكرها الأئمة(عليهم السلام)
هم من النوع الثاني، فهم مجعولون من قِبل الإمام(عليه السلام)، وبالتالي فهم الحجج على العباد، ويلزم الأخذ بفتواهم، والعمل عليها، كذلك لا يجوز الترافع عند المخاصمة إلا إليهم، وعند قضائه بأمر يحرم الرد عليه، ففي رواية عمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله(عليه السلام) أنه سئل عن رجلين قد تنازعا في دين أو ميراث هل لهما أن يتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة؟ أما ماذا يصنعان؟: (قال: ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله، وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله)(12).
بعد كل ما تقدم نقول..
لم يكن هذا الموضوع بما فيه من استدلالات إلا محاولة للتعريف بكيفية نشوء المرجعية الدينية، وبأهميتها في زمان الغيبة، وأنها الحجة الشرعية التي يجب اتباعها. وإلا فللحديث عن اعتبار سند الروايات المتقدمة ودلالتها مجال آخر، أفاض فيه الفقهاء الكلام في موضعه.
ولعل أقوى ما يمكن الاستناد إليه في ما نحن بصدده هو سيرة العقلاء، من رجوع الجاهل إلى العالم في علمه، وعدم استقلالهم فيما يجهلونه، بل عند تعدد العلماء في مجال من المجالات نرى العقلاء يحاولون اختيار الأكثر تمكناً من العلم، فالمريض يرجع إلى الطبيب في معرفة العلاج، بل يختار الأكثر فهماً من الأطباء والأقدر على المعالجة .
نشرت في العدد 31
(1) سورة النحل: 43.
(2) سورة الأنعام: 149.
(3) أمالي ابن الشيخ الطوسي:9.
(4) الكافي للكليني ج1ص210.
(5) رجال النجاشي ص10.
(6) وسائل الشيعة ج18 ص105.
(7) وسائل الشيعة ج18 ص103.
(8) وسائل الشيعة ج18 ص107.
(9) وسائل الشيعة ج18 ص106.
(10) الاحتجاج ج2 ص 283.
(11) الاحتجاج ج2 ص263.
(12) الكافي ج1 ص67.