د. عبد الأمير المؤمن
باحث في علم الفلك
النظرة الساذجة لشمس والقمر
مُنذُ القِدم وجّه الإنسان نظرة نحو السماء، حيث الشمس والقمر، ومُنذ ذلك الوقت، كان القمر والشمس كائنين… حييّن، فيهما روحٌ، كروح الإنسان أو شبيهة بذلك، كانا ذكراً وأنثى، أو أخاً وأخته، أو زوجاً وزوجته، هكذا تصوّر الإنسان البدائي الشمس والقمر… وراح ينسج الإنسان من خياله وأوهامه ما شاء أن ينسج مُبتعداً كُل البعد عن الحقيقة والعلم، والمنهج الصحيح في التفكير وكانت الحصيلة التي أُُلتقطت من الكهوف، والمدافن، والمعابد، وعادات الأقوام المُتخلفة المعزولة عن العالم، كانت مادة خُرافية وأفكاراً وهمية، تلك التي نقرأها في الكُتُب التي تحدثت عن الحضارات البدائية.
وكانت الضحيّة، المادة العلمية، حيث وصلتنا مشوهة، مشوبة بالخرافة، وكان القمر والشمس والنجوم والمُذنبات أبرز تلك الضحايا، وأوضحها في عقل الإنسان البدائي.
فالبدائيون كانوا يُقابلون بين الشمس والقمر على أساس اختلاف الجنس (الذكورة والأنوثة)، مع عدم اتفاقهم على أي هو الذكر، وأية هي الأنثى، وكذلك عدم اتفاقهم على طبيعة العلاقة بين هذين الجرمين الحييّن، هل هي علاقة بين زوجين، أو بين أخوين وهكذا..؟!
ومن الطريف هُنا أن نذكر أنهُ عند قبائل الهنود أسطورة خُرافية تقول: إن الشمس هي الزوج، والقمر هو الزوجة، وإنما أنجبا ابناً جميلاً، يتبادلان تربيته ورعايته. وحين يحتضن الأب (أي الشمس) ذلك الابن تحتجب الشمس عنا، ويحدث الكسوف الشمسي، بينما يحدُث خسوف القمر حين تحتضن الأم (أي القمر) ابنها..!! كان ذلك بناء على افتراض الذكورة للشمس، والأنوثة للقمر. ومن خلال تلك المُقابلة كان الزواج والإنجاب. وغير تلك الصورة حملتها أفكار بعض الهنود الحمر في كندا، حيث اعتقدوا أن الشمس والقمر أخوان مُتحابان ففي أساطيرهم يتحدثون عن اثنين من الهنود أمكنهُما القفز إلى السماء، فوجدا نفسيهما فوق أرض جميلة مُضاءة بنور القمر الفُضّي، ولم يلبث القمر أن أقبل عليهما (أي الهنديين) من وراء التلال في شكل امرأة مُتقدمة في السّن، ولكن ذات وجه أبيض جميل، فتكلّمت إليهما في رقة ولُطف وصحبتهُما إلى أخيها (الشمس)، الذي حملهُما معـه في رحلته اليومية، ثُم أوصلهُما أخيراً إلى أرض القبيلة.
هكذا كانت صورة الشمس والقمر لدى الأقوام البدائية سواء الأقوام القديمة في التأريخ أو الأقوام البدائية المعزولة، والتي لا تختلف كثيراً عن تلك البدائية القديمة.
ولكن كيف نشأ هذا الثُنائي التاريخي بين الشمس والقمر… وما هو القاسم المُشترك بين هذه الأخوة، وهذه الزوجية، أو العلاقة عموماً..؟!.
إننا نفهم ـ في الوقت الحاضر ـ أن الشمس في وادٍ، والقمر في واد آخر، الشمس شُعلة نارية وهّاجة، والقمر جسم أرضي تُرابي بارد، وأن الشمس تكبُر الأرض من (1.300.000) مرة، والأرض تكبر القمر حوالي (50) مرة، إذن أين وجه التلاقي بين جُرمين يختلفان في النوع لا في الدرجة، إن صحّ التعبير؟!.
إن وجه التلاقي حدّدتهُ المرحلة الحضارية التي عاشتها تلك الأقوام البدائية والأقوام القديمة. فلا نتوقع من العين المُجردة البسيطة أن تُدرك الفرق الحقيقي بين الشمس والقمر، أنهما جرمان مُتشابهان، والجامع بينهُما هو ذلك الوضوح، وذلك المثول الدائم، وتلك الحركة الدائبة، وذلك الحجم الظاهري، المُتقارب المُشاهد بالعين المُجردة، ولا أكثر من ذلك.
الشمس والقمر ليسا مُتشابهين
الشمس تختلف عن القمر، بكُل ما تحمل كلمة الاختلاف من معنى، حيث أدركت الحضارات القديمة الشهيرة بعض ذلك الاختلاف، وأدركنا نحنُ ـ أهل الحضارة المُعاصرة والحديثة ـ الاختلاف كُلّه، وطبيعته وتفصيلاته، وأصبح الفرق حقيقة علمية ثابتة، بل من أوليات العلم وعلم الفلك خاصّة. فلم يعُد أحد طالباً كان أو أستاذاً أو عالماً يتحدّث عن تشابُه علمي بين الجُرمين (الشمس والقمر)، إلاّ من باب المجاز أو الأدب والشعر.
..
لقد أدركت الحضارات القديمة الكُبرى، الحضارة الصينية والهندية والفارسية والبابلية والمصرية، واليونانية وغيرها، أدركت فروقاً عديدة بين الشمس والقمر فإذا أخذنا الحضارة اليونانية ـ كأهم حضارة علمية قديمة ـ وجدنا أنها عرفت أن القمر أقرب الأجرام السماوية إلى الأرض، حيث يقع في الفلك الأول الذي يلتف حول الأرض، في حين تقع الشمس في الفلك الرابع. وأدركت أن الشمس أكبر من القمر. بل وأكثر من ذلك ذهب الفلكي اليوناني (أرسطو) الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، إلى أن الشمس تقع في مركز المجموعة الشمسية، وأنّ الأرض والقمر تابعان يدوران حول الشمس، وهذا سبق علمي مُهم(1).
القُرآن الكريم يُشير إلى الحقيقة
الحضارة الإسلامية ميّزت تمييزاً واضحاً بين الشمس والقمر، حيث اعتمدت أساساً على منهج علمي في دراسة النجوم والكواكب، فأنشأت المراصد واستخدمت آلات فلكية مُتطورة حصلت من خلالها على معلومات فلكية قيّمة.
لقد استمدت الحضارة العلمية الإسلامية عناصرها العلمية من خلال حث القرآن الكريم المتواصل على اكتساب العلم كما في قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(2) وقال أيضاً: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(3) وغيرهُما الكثير، وكذلك ورد حث عليه من خلال الأحاديث النبوية وقد تأثر المُسلمون بذلك كُلّه فقّدموا إنجازات علمية مُهمّة.
لكن قبل أن يُقدم العُلماء المُسلمون أفكارهم، وإنجازاتهم الرائعة في الفلك والشمس والقمر خاصة، أشار القُرآن وبأسلوب بلاغي فريد عن العلاقة بين الشمس والقمر، وأوضح الاختلاف بين هذين الجُرمين الجميلين قال تعالى في مُحكم كتابه الكريم: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً)(4)،
والفرق واضح هنا بين السراج الذي يشع إشعاعاً ذاتياً، والمنير الذي لا يدل على الإشعاع الذاتي بالضرورة. وقال أيضاً: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً)(5) مُفرقاً بين ضياء الشمس ونور القمر، فقد ورد (أنّ الضوء ما انتشر من الأجسام النيّرة، ويُقال ضاءت النار)(6)، أما النور فهو أعم، قال الراغب أيضاً: (إن الضوء أخصُّ من النور)(7).
إضافة إلى ذلك، أننا نستنشف فرقاً من خلال الآية الشريفة (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(8). وهناك آيات أخرى يُمكن أن تؤكّد ذلك.
أما عُلماؤنا المُسلمون، فقد قدّموا معلومات مُمتازة عن الشمس والقمر فأدركوا أبعادهما بالنسبة إلى الأرض، وأدركوا أحجامهُما، وإن كانت غير دقيقة، لكنها تدل على الجُهد العلمي الواضح، فالشمس أبعد من القمر بالنسبة إلى الأرض، وأكبر حجماً وأنها تمّد القمر والكواكب السيّارة بالضوء، وقد ذكر زكريا القزويني أن حجم الشمس 166 مرة قدر حجم الأرض، وأن القمر جزء من 39 جُزءً أو رُبع جزء من حجم الأرض. وهُناك معلومات أُخرى يطول ذكرها(9).