هو السيد علي خان صدر الدين بن أحمد نظام الدين المدني، المعروف بأبن معصوم نسبة إلى جده الأمير محمد معصوم.
ولد ليلة السبت الخامس عشر من جمادي الأولى سنة (1052هـ)(1)
في المدينة المنورة، ولذا لقب بالمدني، ونشأ وترعرع مدة طفولته وصباه فيها، وبجوار مكة المكرمة.
ولما سافر والده أحمد نظام الدين إلى حيدر آباد في الهند بطلب من سلطانها عبد الله قطب شاه وزوجه من أبنته، وبقي أبن معصوم في أحضان والدته ابنة الشيخ محمد بن أحمد المتوفى (ت1042هـ) وهو إمام الشافعية بالحجاز في زمانه.
لقد استدعاه والده إلى الهند فغادر مكة المكرمة في ليلة السبت السادس من شهر شعبان سنة 1066هـ، ووصل حيدر آباد في يوم الجمعة لثمان خلون من شهر ربيع الأول سنة 1068هـ(2)، وبقي في رعاية والده في حيدر آباد حتى توفي الوالد سنة 1086هـ(3)، وقد خصص له والده من يعلمه من العلماء الذين يرتادون مجلسه.
وعانى من آلام الغربة، وربما كان للغربة التي عاشها في صباه وحضوره مجالس والده ومصاحبته لخيرة علماء عصره، وأصله الطيب وأسرته العلمية، كان كل ذلك قد أتاح له أن يعيش حياة علمية طافحة بالعلم والمعرفة، التي قلما تتوفر لغيره، فضلاً عن أن التقاء الحضارات وتنوع الثقافات التي كانت في الهند والتي امتزجت فيها علوم الشرق مع علوم المسلمين، قد أثرت هي الأخرى في شخصية في أن يتجول في رياض هذه العلوم ويشم من أزاهيرها أطيب شذاها وأعطر طيبها، فجعلت منه قارئاً متتبعاً يغترف العلوم من أعذب منابعها، فركن إلى علماء عصره وشيوخه، يأخذ من هذا اللغة، ومن ذاك البلاغة والأدب ومن الآخر الفقه، فوجد فيهم ضالته بمجالس والده الذي عمر بهم، فكان مدرسة تخرج فيها ابن معصوم والتقى بأفاضل العلماء وأجلائهم، فنهل من معارفهم اللغة العربية والفلسفة، فانعكس ذلك الأمر فيما بعد على فنون ثقافته(4)،
فتنوعت مشاربه العلمية، فصنف في مختلف علوم عصره، فإذا قرأته وجدته مفسراً ومتكلماً وفقيهاً ومؤرخاً، باثاً كل ذلك في مصنفاته وكتبه.
حتى تميز بثقافة لغوية واسعة بفنون الكلام وعلومه، فكان موسوعياً، فضلاً عن كونه متخصصاً، فهو في البلاغة إمام عصره، وفي النحو سيده، وفي اللغة تفوق على من سواه، حتى سلمت اللغة له قيادها فتملكها تملك المتفوق من دقائقها، فوظف كل ذلك في تحليل الآيات القرآنية وبيان مضامينها.
كان من عادة علماء التفسير أن يعتمدوا على أمور في تفسير كلام الله العزيز منها: النقل المتمثل بالرواية الصادقة، والعقل المفضي إلى الحقيقة، فضلاً عن أدوات اللغة وعلومها، كالبلاغة والنحو والصرف وغيرها.
فالرواية أو النقل تعمل على كشف الحقيقة في النص القرآني، والعقل هو المرشد إليها، فيما تكون أدوات اللغة وعلومها هي الموجدة للحقيقة التي تضمنها النص الكريم، فابن معصوم المدني كان قد سلك في الرواية والنقل ما كان أسند إلى الأئمة المعصومين من آل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله)، حتى أكثر منه، لأن ذلك أصح للسند وأسلم، أو ممن صحت عن غيرهم الرواية.
ففي الدعاء ينقل ما (روى زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: إن الله عز وجل يقول: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)(5)، قال: هو الدعاء، قلت: إن إبراهيم لأوّاه حليم، قال: الأوّاه: الدَعّاء)(6)،
فهو في مضمار شرح أدعية الإمام علي بن الحسين(عليه السلام)، يورد الآية داعمة لقوله(عليه السلام)، فمن قوله(عليه السلام): (ليختبر طاعتنا وليبتلي شكرنا)(7)، قال ابن معصوم: (أي ليختبرنا أنطيع أم نعصي، وليبتلينا أنشكر أم نكفر، كما قال تعالى: (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر)(8)،
أو ليخبر طاعتنا وليبتلي شكرنا فيعلم حسنهما من قبحهما كما قال تعالى: (ولنبلوا أخباركم)(9) أي ما يحكي عنكم ويخبر عن أعمالكم فنعلم حسنهما من قبحهما)(10)، فكان كلام المعصوم(عليه السلام) مفسراً لقوله تعالى، أو أن قوله سبحانه داعماً لحقيقة كلام المعصوم، وهذا مما يوحي بأنه ممن لا يمنع من الاستشهاد بأحاديث آل البيت(عليهم السلام)، فضلاً عن أحاديث النبي محمد(صلى الله عليه وآله) لأن كلامهم في غاية الفصاحة، وهم كذلك، لأنهم ممن عاش في عصر الاستشهاد، فصّح لكل هذه الأسباب الاستشهاد بكلامهم عنده.
أما العقل، فقد كان له دور عنده في الكشف عن الحقيقة أيضاً، في شرح معاني القرآن وأهدافه وفي الرد على مقالات الفرق والمذاهب المخالفة لآرائه، ويبغي من ذلك الدفاع عن طائفته الشيعية الإمامية، ودحض ما أورد عليها من مخالفات، ففي قول إمامنا علي بن الحسين(عليه السلام): (الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين)(11)
يسوق الدليل العقلي معارضاً فيه غيره، فيقول: (وإنما قصرت الأبصار عن رؤيته تعالى لأن المرئي بالبصر يجب أن يكون في جهة وهو تعالى منزه عنها، وإلا وجب كونه عرضاً أو جوهراً جسمانياً، وهو محال، هكذا أستدل أهل الحق على نفي الرؤية. وأعترضه الغزالي بأنه أحد الأصلين من هذا القياس مُسَلّم، وهو أن كونه في جهة يوجب المحال، ولكن الأصل الآخر وهو ادّعاء هذا اللازم على اعتقاد الرؤية ممنوع، فتقول: لم قلتم إنه إن كان مرئياً فهو في جهة الرائي؟ أعلمتم ذلك ضرورة أم بنظر؟ لا سبيل إلى دعوى الضرورة)(12)،
ثم يذكر ما يدعم ذلك، مما يورده جده السيد نظام الدين أحمد، وهو غير والده أحمد نظام الدين (ت 1086هـ) مؤيداً ما رآه في رسالته لإثبات (الواجب تعالى)، فقال: (قد ثبت في محله أنه يجوز أن تعلم بعض النفوس المجردة الألهية الكاملة، إذ إنّ الواجب تعالى بالعلم الحضوري الذي هو عبارة عن مشاهدة ذاته من غير تكيف ولا مماسة ولا محاذاة، وإذا جاز ذلك فما المانع من قول من يجوز رؤيته تعالى في الآخرة، فأن الرؤية في الحقيقة عن مشاهدة حضورية ولا يشترط فيها وقوعها بالجارحة المخصوصة)(13).
فهكذا يجعل ابن معصوم للعقل دوراً في كشف بعض جوانب الحقيقة للردّ على آراء المخالفين ونصرة ما يذهب إليه، حتى بدا واضحاً في كثير من الآيات التي شرع في تحليلها وتفسيرها في مضانها.
أما أدوات اللغة وعلومها، فعنده هي الموجدة للحقيقة في النص القرآني، فهو ما أن يستنجد بالرواية أو العقل في كشف بعض جوانب هذه الحقيقة، فأنه يتجه صوب اللغة وعلومها من بلاغة ونحو وصرف واشتقاق ودلالة ومعانٍ معجمية لإيجاد الحقيقة التي يتضمنها النص القرآني المبارك.
ففي مقام الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، يقول: (ومثاله قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين)(14)، إلى قوله (إياك نعبد وإياك نستعين)(15)، فالتفت من الغيبة إلى الخطاب، والنكتة في أن العبد إذا ذكر الحقيق بالحمد عن قلبٍ حاضرٍ، ثم ذكر صفاته التي كل صفة منها تبعث على شدّة الإقبال، وآخرها (مالك يوم الدين)(16)، المفيد أنه مالك الأمر كله في يوم الجزاء يجد من نفسه حاملاً لا يقدر على دفعه على خطاب من هذه صفاته بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات)(17)، فكان بذلك واجداً لحقيقة الخضوع لله تعالى من خلال هذا المدخل البلاغي المهم.
كذلك إن معاني القرآن عنده لا تترادف، وإن جاءت مترادفة في عموم اللغة سوى القرآن، ويستدل لذلك في قوله: (والضياء والنور مترادفان لغةً، وقد يفرق بينهما بأن الضوء ما كان من ذات الشيء المضيء، والنور ما كان مستفاداً من غيره، قيل وعليه قوله تعالى: (جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً)(18))(19)، هذا فضلاً عن إفادته من لغات العرب والقراءات القرآنية، فهي مما تفتح عنده آفاقاً لتضيء له حقيقة النص، ففي قوله تعالى: (ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها)(20)،
قال ابن معصوم: (قرأ ابن كثير وأبو عمرو (ننسأها) بالهمز كنمنعَها، من نسأه ينسأه، بمعنى التأخير، أي نؤخرها أما بإنسائها من الصدور والذهاب بحفظها من القلوب، أو بإبطال حكمها وتلاوتها، والنسخ إبطال لحكم دون التلاوة ـ أو نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ، أو نؤخر نسخها، فلا ننسخها بالحال)(21).
هكذا نجد أن ابن معصوم منهجه التفسيري كان جامعاً لكل فنون اللغة وعلومها من بلاغة ونحو ولغة وقراءات قرآنية لبيان حقيقة النص المبارك، حتى بدا لنا كأنه الشريف الرضي في مجازاته، والفراء في معانيه، وأبو عبيدة في مجازه .
نشرت في العدد المزدوج 30-29
(1) ظ: الغدير/ الاميني: 11/346.
(2) ظ: رحلة ابن معصوم المدني:
(3) ظ: الغدير/ الاميني: 11/349.
(4) ظ: ابن معصوم المدني أديباً وناقداً/ كريم علكم الكعبي: 42.
(5) ظ: رياض السالكين/ ابن معصوم: 1/272.
(6) م.ن: 1/ 225ـ226.
(7) م.ن: 1/ 376.
(8) سورة النحل/ الآية40.
(9) سورة محمد/ الآية31.
(10) رياض السالكين/ ابن معصوم: 1/376.
(11) ظ: رياض السالكين/ ابن معصوم: 1/244.
(12) م.ن: 1/ 245.
(13) م.ن: 1/ 251.
(14) سورة الفاتحة/ الآية 1.
(15) سورة الفاتحة/ الآية 4.
(16) سورة الفاتحة/ الآية 3.
(17) رياض السالكين/ ابن معصوم.
(18) سورة يونس/ الآية 5.
(19) رياض السالكين/ ابن معصوم: 1/ 330.
(20) سورة البقرة/ الآية 106.
(21) الطراز الأول/ ابن معصوم: 1/ 213 مادة ننسأ.