يعد النص القرآني النص الأخصب ـ دلالياً ومضمونياً ـ على وجه الإطلاق؛ إذ لا حدَّ لتوارد غرائبه ولا نطاق لتوقف عجائبه فلا وجود لنصٍ مماثل له يعاصر جميع الأزمنة سواه؛ لأنه التعبير الوحيد الذي لا يخضع لعامل الزمن ولا يسع أيُّ مستوى معرفي لأيِّ جيلٍ أن يفهم كل ما تم فيه من معاني وغايات بعيدة المدى.
فالتعبير القرآني نزل على وفق اللسان العربي بيد أن هذا لا يعني أن جميع نصوصه مفهومة من قبل مَن عاصرو نزوله وقتذاك؛ ذلك بأن أبناء اللغة الواحدة وإن كانوا يتعاملون باللغة نفسها فإن تملكهم للقدرة على التخاطب فيما بينهم لا تعني بالضرورة أن كل فرد منهم قادرٌ على الإلمام بكل مفردات تلك اللغة ومطلعٌ على جميع معانيها ومتضلع من أساليبها كافة؛ إذ إن معرفته بلغته وقدرته على التكلم بها لا تدل باللزوم على أنه قد استوعبها جميعاً أو أنه قادرٌ على استيعابها بأسرها.
من هنا نقول: إن الصحابة الذين عاصروا نزول القرآن الكريم في عهد الرسول(صلى الله عليه وآله) كانت تستوقفهم بعض معاني المفردات فيركنون إلى
الرسول(صلى الله عليه وآله) لإيضاحها واستجلاء دلالاتها؛ لأنهم كانوا يفهمون التعبير القرآني وقتذاك فهماً إجمالياً كلياً لا فهماً تفصيلياً احتوائياً فلا يسع احدٌ منهم أن يستوعب كل معاني ذلك التعبير المقدس؛ وذلك لفقدانه المقدرة على استيعاب كل تفاصيل الخطاب اللغوي الذي نزل به النص القرآني من جهة، ولعدم انسجام بعضهم الآخر مع أفكار ومضامين ذلك النص المعجز من جهة أخرى(1)؛
ذلك بأن القرآن الكريم قد استعمل بعض المفردات العربية على غير معانيها التي كانت تستعمل لدى العرب في ذلك الوقت من هنا فهي حينما ترد في سياق النص لا يفهمها العربي ولا ينسجم مع مضمونها روحياً، أما لأنها بعيدة عن نطاق استعماله الدلالي أو لأنَّه ما زال بعيداً عن روح النص فتصوره ـ والحال هذه ـ مازال محدداً مـُقيَّداً بالمعتقدات الجاهلية؛ لهذا تدعو الصحابيَّ وقتذاك الحاجةُ إلى الركون لمورد يستقي منه إيضاح دلالات النص القرآني؛ فظهرت من هنا بدايات التفسير القرآني على يد الرسول(صلى الله عليه وآله)؛ لأنه الوحيد القادر على تفسير النص وإيضاحه في زمن النزول، ثم إن مهمته الرسالية كانت تفرض عليه ذلك، إذ أوكل سبحانه للرسول مهمة بيان النص إلزاماً في غير موضع من كتابه العزيز من ذلك قوله تعالى (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ)(2) وقوله أيضاً (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(3)
فقوله في الآية الأولى (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) تدل على أن الرسول مكلف من الله تعالى في تعليم النص القرآني وإيضاح معانيه تفسيراً؛ ثم أن قوله (وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) فيه دلالة واضحة على أنهم لا يعلمون كل ما في النص القرآني وأن فهمهم له إجمالي وأن من هذا التعبير ما يحتاج إلى بيان منه(صلى الله عليه وآله).
وكذا الحال فيما يخص الآية الثانية حيث نجد فيها قوله (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فكان واجب على الرسول أن يبين عموم ما في النص القرآني .
وما يعضد كون الصحابة يحتاجون إلى بيان بعض نصوص القرآن – بناء على مقتضى الواقع- هو ما ورد عنهم من تردد في فهم بعض معاني القرآن الكريم من ذلك ما (روي من أن أبا بكر سئل عن قول الله تعالى (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً)(4) فلم يعرف معنى الأب من القرآن وقال: أي سماء تظلني أم أي أرض تقلني أم كيف أصنع إن قلت في كتاب الله بما لا أعلم أما الفاكهة فنعرفها وأما الأب فالله اعلم)(5)، وفي موضع آخر روى (انس بن مالك قال: إن عمر قرأ على المنبر: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً)(6)
قال: كل هذا عرفناه فما الأب؟ ثم رفض عصا كانت في يده فقال: هذا لعمر الله هو التكلف، فما عليك أن لا تدري ما الأب؟ اتبعوا ما بين لكم هداه من الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه)(7) فعمر وأبو بكر لم يستطيعا أن يفهما معنى لفظة (الأب) في الآية، لهذا احتيج إلى تفسير هذه اللفظة، ففسَّرها الإمام علي أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله إن الأب تعني الحشائش إذ (بلغ أمير المؤمنين(عليه السلام) مقالته في ذلك فقال: سبحان الله أما علم أن الأب هو الكلاء والمرعى وأن قوله سبحانه (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) اعتداد من الله بأنعامه على خلقه فيما أغذاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم مما تحيى به أنفسهم وتقوم به أجسادهم)(8) فكان الإمام مفسرا لهذه المفردة في الآية.
ومن ذلك أيضاً ما نقل عن ابن عباس من أنه لم يكن يعرف معنى لفظة (فاطر) حيث يقول: (كنت لا ادري ما فاطر السماوات حتى أتاني أعرابيان قد تخاصما في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي أنا
ابتدعتها)(9).
إن هذه الروايات وغيرها تدل دلالة واضحة على أن الصحابة لم يكونوا يعلموا كل ما في القرآن وإن منهم من يحتاج إلى معرفة ما استغلق عليه وغمُض؛ لذا كان من الواجب على الرسول(صلى الله عليه وآله) ان يفسر لهم ما اختلف في فهمه أو ما لم يستطيعوا الوصول إلى معرفته.
من هنا (تصدى النبي(صلى الله عليه وآله) لتفصيل ما أجمل في القرآن إجمالاً، وبيان ما أبهم منه إما بياناً في أحاديثه الـشريفة وسيرته الكريمة، أو تفصيلاً جاء في حل تشريعاته من فرائض وسنن وأحكام وآداب، كـانـت سنته(صلى الله عليه وآله) قولاً وعملاً وتقريراً،كان كلها بياناً وتفسيراً لمجملات الكتاب العزيز وحل مـبهماته في التشريع والتسنين)(10).
ومما ورد من تفسير عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)
لبعض ما أشكل على الصحابة معرفة هو تفسيره(صلى الله عليه وآله) للفظة (الصلاة) ؛ إذ كانت تعني لدى العرب (الدعاء) غير أنه سبحانه وجَّه هذا اللفظ الى خصوصيات معينة؛ لذا أشكل معنى هذه اللفظة على الصحابة في قوله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)(11) إذ أن لفظتي (الصلاة) و(الزكاة) مجملتان في هذه الآية لأن لفظة الصلاة في اللغة تعني الدعاء، أما لفظة الزكاة فمعناها الأصل هو (النماء)(12)، غير أن الله تعالى جاء بهاتين اللفظتين على غير ما عُرِف لهما من معنى أصل لدى العرب، (فقد أمرهم تعالى بالصلاة والزكاة على سبيل الإجمال)(13)
المبهم في هذه الآية، ولكن لرب سائل يسأل (كيف أمروا بالصلاة والزكاة وهم لا يعرفون حقيقة ما في الشريعة؟ قيل: إنما أمروا بذلك لأنهم أحيلوا فيه على بيان الرسول(صلى الله عليه وآله)؛ إذ قال (ما آتاكم الرسولُ فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)(14) ولذلك جاز أن يأمرهم بالصلاة والزكاة على طريق الجملة ويحيلهم في التفصيل على بيان الرسول(صلى الله عليه وآله)(15) في السنة،
فالزكاة لا يراد منها معناها اللغوي وإنما يراد شرائطها ومقاديرها وما تجب عليه التي بينها الرسول(صلى الله عليه وآله)، فـ(الزكاة في الشريعة ما يجب إخراجه من المال نماء ما يبقى ويثمر)(16) وكذا الحال للصلاة فهي (في الشرع عبارة عن الركوع والسجود على وجه مخصوص وأركان وأذكار مخصوصة)(17)
وقد فسرها الرسول(صلى الله عليه وآله) أيضا بقوله للناس حينما أدى الصلاة أمامهم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)(18) فكان المعنى الشرعي للصلاة مجملاً عليهم وقتذاك لاحتواء المعنى على خصوصيات (القيام والركوع والسجود والتسبيح ومراعاة حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن وحقوقها الباطنة من الحضور والإقبال بالقلب والجوارح)(19) فهذه الأمور كانت مبهمة لديهم لجهلهم بها؛ فاحتاجت إلى تفسير وإيضاح من الرسول(صلى الله عليه وآله).
وفسر صلوات الله وسلامه عليه لفظة (الحج) بالسنة العملية أمام الصحابة حينما أدى مناسك الحج وقال لهم: (خذوا عني مناسككم)(20) فكان هذا الفعل بياناً وتفسيراً للفظة (الحج) في قوله تـعـالى: (وَللّهِ عَلى الناسِ حجُّ البيتِ مَن استطاعَ إليهِ سَبيلاً)(21)؛ (وهكذا كان الصحابة يستفهمونه كلما تلا عليهم القرآن أو أقرأهم آية أو آيات،كانوا لا يجوزونه حتى يستعلموا ما فيه من مرام ومقاصد وأحكام؛ ليعملوا بها ويأخذوا بمعالمها)(22).
ومن ذلك أيضاً قـولـه تـعـالـى: (وَالمُطلقاتُ يَتَربصْنَ بأَنفسِهِنّ ثَلاثَة قُرُوءٍ)(23)،
فلفظة المطلقات في النص عامة تدل على كل من طلِّقت سواء أكان الزوج داخلاً بها أم لا، فجاءت السنة مخصصه لهذا لعموم المطلقات فخص الرسول(صلى الله عليه وآله)
هذا الحكم بالمدخول بهن، أما غير المدخول بهن فلا اعتداد لهن. من هنا نصل إلى قناعة تصر على أن تفسير الرسول الكريم للنص القرآني كان محكوما بأمرين ملحين هما:
1ـ تلبيةً للتكليف السماوي الذي دعاه إلى كشف ما أبهم واستغلق من طيات النص القرآني على الناس، حتى يلزمهم بالحجة والبيان.
2ـ اقتضاء حاجة الواقع المعاش وقتذاك إلى ضرورة وجود مُوضِّح للنص؛ ذلك بأن الصحابة يتفاوتون في فهم دلالات التعبير المقدس على وفق تَقبُِل عقولهم؛ إذ من المحال أن يفهم أحدهم جميع ما في النص القرآني من معانٍ؛ وإن قيل تسامحاً بإمكان ذلك فإن ثمة دلالة تبقى خفية لم يفهمها ذلك الصحابي ولن يصل إليها بعد، ألا وهي دلالة باطن النص؛ إذ أن النص لا يُعتَمَدُ في بيانه على ظاهره فحسب؛ بل إن لباطنه وما تخفيه الألفاظ وراءها من دلالات ما يحتاج إلى تأمل ونظر وطول تَمرُّس حتّى يتسنى لقارئ النص أن يلتقط تلك الدلالات المخفية ويستظهرها على سطح النص، من هنا اقتضت الضرورة أن يكون الرسول هو أول من يُفسِّر للنص وقتذاك.
ولكن ثمة سؤال يثار وهو هل فسر الرسول(صلى الله عليه وآله) القرآن الكريم بأجمعه؟، وللرد على هذا التساؤل انقسم العلماء في إجابته على صنفين الأول يرى أن الرسول لم يفسر القرآن بأسره وإنما فسر بعضه دون بعض لأن الوارد عنه في الأثر لا يدل على أنه قد فسر التعبير القرآني بأسره وتزعم هذا الاتجاه السيوطي؛ إذ يقول: (الذي صح من ذلك قليل جداً؛ بل أصل المرفوع منه في غاية القلة)(24).
على حين مال آخرون إلى أن الرسول قد فسر النص القرآني بأسره، وللخروج من هذا التزاحم نميل إلى أن ثمة تفسيرين للنص القرآني كما ذهب إلى هذا السيد محمد باقر الصدر إذ يرى أن الرسول قد فسر القرآن على مستويين(25):
1ـ تفسير عام وهو ما اختص به الصحابة حينما يسألونه عن معنى مفردة ما أو دلالة آية معينة لا يعرفون مضمونها تفصيلاً.
2ـ تفسير خاص وهو ما ألهمه إلى الإمام علي أمير المؤمنين(عليه السلام) إذ فسَّر له القرآن كله دون استثناء وذلك تأسيسا على تصريح الإمام بذلك، حيث يقول: (فما نزلت على رسول الله(صلى الله عليه وآله) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي، وعلمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصها وعامها، ودعا الله لي أن يؤتيني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله، ولا علما أملاه علي وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك شيئا علمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون، ولا كتاب منزل على أحد قبله في أمر بطاعة أو نهي عن معصية إلا علمنيه وحفظته فلم أنس حرفاً واحداً)(26).
تأسيساً على قول الإمام نجد أن الرسول قد خصّه بتفسير النص بأكمله من أوله إلى آخره وهذا ما لم يميز فيه الرسول أحداً سوى أمير المؤمنين(عليه السلام)، فنستدل من هنا على أن الرسول قد فسر القرآن تارة على وفق الحاجة إلى ذلك من السائل أو ما يرى فيه الرسول(صلى الله عليه وآله) ضرورة للإيضاح، وهذا تفسير جزئي للنص وتارة فسره وأوضحه توضيحاً كلياً للإمام(عليه السلام) للبيان بان هذا الإمام سيتولى النيابة عنه في بيان مكنوات النص وخفاياه .
نشرت في العدد المزدوج30-29
(1) السيد محمد باقر الصدر:بحوث في علوم القرآن، ص140ـ 141.
(2) سورة البقرة: 151.
(3) سورة النحل: 44.
(4) سورة عبس: 31.
(5) الفيض الكاشاني، التفسير الصافي، 5 /286.
(6) سورة عبس: 27- 31.
(7) الغدير، الأميني، 6 /99، وينظر: الزمخشري، الكشاف، 4/220، والحاكم، المستدرك، 2/514 ، ومناقب أهل البيت(عليهم السلام)، 340. ـ قصد الإمام بذلك مقالة أبي بكر ـ.
(8) الفيض الكاشاني، التفسير الصافي، 5 /287.
(9) السيد محمد باقر الصدر، بحوث في علوم القرآن، ص142.
(10) محمد معرفة، التفسير والمفسرون في قشيبه الجديد، 1/157ـ 158 .
(11) سورة البقرة: 43.
(12) ينظر: ابن منظور، لسان العرب، 14/465، والطوسي، التبيان، 1/193 والطبرسي، مجمع البيان، 1/96.
(13) الطبرسي، مجمع البيان، 1/96 وينظر: الحائري، مقتنيات الدرر، 1/151.
(14) سورة الحشر: 7.
(15) الطوسي، التبيان:، 1/193، وينظر: الطبرسي، مجمع البيان، 1/96.
(16) الطوسي، التبيان، 1/193.
(17) م .ن: 1/54.
(18) البخاري، صحيح البخاري، 1/226.
(19) الحائري، مقتنيات الدرر، 1/40، وينظر: الشيرازي، الأمثل، 1/161. وشبر، الجوهر الثمين، 1/66.
(20) ينظر: مسند الشافعي ترتيب السندي، ص963، والموطأ (رواية محمد بن الحسن)، 2/329.
(21) سورة آل عمران: 97.
(22) محمد معرفة، التفسير والمفسرون في قشيبه الجديد، 1/ 158.
(23) سورة البقرة: 228.
(24) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، 2/473.
(25) السيد محمد باقر الصدر، بحوث في علوم القرآن، ص 148.
(26) الخصال، الشيخ الصدوق، ص257.