Take a fresh look at your lifestyle.

الإنسان مقيّد بالزمان والمكان

0 592

د. عبد الأمير المؤمن
باحث في علم الفلك

 

                ظن الإنسان ولفترة طويلة أن الأرض التي يعيش عليها هي هذه المنطقة التي يعيش عليها وما جاورها من مناطق.
وأن السماء هي الشمس والقمر وعدد من الآلاف من النجوم والكواكب المرئية وعددها كما يقول القدماء 1029 جرماً(1)، وأنها تنتهي بالفلك المحيط الذي يُحيط بكُل الأفلاك.

وظل هذا الاعتقاد البسيط حتى مجيء العصر الحديث (في القرن السادس عشر الميلادي) عندما قلب الفلكي البولندي كوبر نيكوس النظام الكوني القديم إلى النظام الكوني الجديد الذي وضع الشمس في مركز الكون(2). وبظهور حقائق ونظريات وأفكار جديدة واكتشاف التلسكوبات والأجهزة العلمية المتطورة تبين أن الإنسان أمام سماء وأرض وأجرام كونية مُثيرة وهائلة لا حدود لها ولا إحصاء لها تبين أنهُ أمام عدد هائل من الأجرام والأسرار الكونية لا يُمكن عدّها ولا يُمكن فهمها من كُل وجوهها، فهي تفوق التصور وكُل القُدرات البشرية المحدودة.

وفي الوقت نفسه تبين لهُ أن هُناك أحجاماً صغيرة ضئيلة جداً لم تتمكّن أقوى الأجهزة من مُشاهدتها وإدراكها بشكل مُباشر، وهي المكونات الداخلية للذرة.

لقد وجد نفسهُ صغيراً ضعيفاً ضئيلاً أمام مُكونات الكون المتنوعة وتبين لهُ وبشكل واضح أن الآية الشريفة (وخُلق الإنسان ضعيفاً)(3)، أكثر وقعاً في النفوس وأبعد مغزىً في العقول.

فالإنسان يستطيع أن يصنع سيارة أو طائرة أو صاروخاً، أو يبني جسراً أو عمارة مؤلفة من 100 أو أكثر من الطوابق وما شاكل ذلك، ولكن لا يستطيع أن يصنع ذبابة أو بعوضة أو أقل من ذلك، ويستطيع أن يصل إلى أية مسافة على الأرض أو داخل المجموعة الشمسية، ولكن لا يستطيع الوصول إلى أقرب نجمة خارج المجموعة الشمسية. والسبب في ذلك قدرته المحدودة وقابليته المقيدة بحواسه وعقله المحدود. ولا شك أن هذه القدرة المحدودة والمقيدة، وإن كانت تستطيع خلق المعجزات العلمية والتكنولوجية كصنع الحواسيب (الكومبيوترات) والصواريخ الموجهة والمركبات الفضائية المتطورة والأبنية الضخمة وما شاكل ذلك.
إلا أنها تقف عاجزة في حدود مُعينة، قدرها لها الله تعالى لا تستطيع تجاوزها مهما جدّت واجتهدت.
أما الله تعالى خالق هذا الإنسان الذي أبدع الحواسيب والصواريخ والمركبات الفضائية والأبنية الضخمة فيختلف كُل الاختلاف.
فهو مطلق في كُل شيء، غير مُقيّد بزمان ولا مكان ولا بأي شيء آخر.

خلق هذا الكون كُله بقدرته العجيبة بعد إن لم يكُن، (إنّما أمرهُ إذا أراد شيئاً أن يقول لهُ كُن فيكون)(4).
إنهُ فوق كُل شيء في الكون، لأنهُ (خالق كُل شيء)(5)، لذلك جاء خلقه على مُستوى آخر غير نعرفه من الأشياء الذي يصنعها الإنسان، هذا المخلوق الضعيف. لقد خلق الإنسان والمجرات والنجوم والكواكب والظواهر الأُخرى والكون كُله، وهذه قدرة عظيمة جداً لم نعرف مثلها من القدرات.

الكون مسافات وأحجام وظواهر هائلة ولنرى الأرض قليلاً ولنرى بعض هذه القدرة ولنتجه نحو السماء، وهُنا سنكون أمام أرقام مُذهلة وأحجام مهولة ومسافات غريبة على عقولنا(6).

ففي الكون ما لا يُحصى من النجوم والمجرات، في مجرتنا وحدها (مجرّة درب التبانة) أكثر من مائة ألف مليون نجم. والنجم ـ كما نعرف ـ هو شمس كشمنا هذه لكنهُ ابتعد عنا فبان نُقطة صغيرة، وكذلك شمسنا لو ابتعدت عنا لصارت نقطة كبقية النجوم، ويذكُر عُلماء الفلك أن في الكون أكثر من ألف مليون مجرة مثل مجرتنا، أو أكبر أو أصغر.

أما المسافات بين مجرة وأخرى أو بين نجم وآخر فهي مُذهلة أيضاً ولا يُمكن أن يُصدق بها عقلنا الذي تعود على المسافات الصغيرة بين شارع وآخر أو بين مدينة وثانية، أو بين بلد وبلد، وهي مسافات نقدرها بالأمتار والكيلومترات ومئاتها وآلافها وقلما نتجاوز ذلك.

لكن مسافات السماء غير ذلك، مسافات غريبة ومُثيرة، بل ومُحيّرة، ولذلك حين ورد ذكر مواقع النجوم في القرآن الكريم قال تعالى: (فلا أُقسم بمواقع النجوم وإنهُ لقسم لو تعلمون عظيم)(7)، إن القسم بهذه المواقع عظيم لعظمة النجوم ومواقعها البعيدة. لذلك تقدر المسافات بين النجوم والمجرات بالزمن لا بالأمتار ومُضاعفاتها، فإذا كانت المسافة بين الأرض والقمر في حدود رُبع مليون ميل فهي بالمقياس الزمني في حدود الثانية الضوئية، والمسافة بين الأرض والشمس والبالغة 93 مليون ميل تقدر بثماني دقائق ضوئية، أما أقرب النجوم إلينا وهو (الفاقنطورس) فيُقدّر بُعدهُ عنا بنحو 4,4 سنة ضوئية، والسنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة واحدة علماً أن الضوء يقطع في الثانية الواحدة مسافة قدرها نحو 186.000 ميل أو 300.000 كيلو متراً تقريباً. حيث تصبح السنة الضوئية رقماً خيالياً من الأميال، في حدود 6 ملايين، أو نحو 10 ملايين ملايين كيلو متراً.

هذه هي السنة الضوئية وبها تقاس المسافات فهي الكون، وتستطيع المناظير الفلكية الضوئية والراديوية التعرف على نجوم أو مجرات تقع على آلاف الملايين من السنين الضوئية، فكم هو واسع هذا الكون وكم هو عظيم خلقه وإبداعه.

أما أحجام النجوم فمُثيرة حقاً، فالنجوم شموس كالشمس المعروفة(8)، بعضها يكبر شمسنا آلاف المرات وأكثر وبعضها أصغر منها… فإذا عرفنا أن شمسنا تكبُر الأرض في حدود مليون وثلاثمائة مرة أدركنا كم هي كبيرة أحجام النجوم.
وما مجموعتنا الشمسية بين هذا الكون الواسع والأحجام الضخمة والمسافات المذهلة إلاّ نُقطة صغيرة جداً تقطع في منطقة موحشة بعيدة كُل البعد عن أي جُرم سماوي آخر.

والحقيقة أنها هي مفتاحنا الذي نستطيع من خلاله غزو الكون. والاطلاع على أسراره أو بعض أسراره، فمن هذه الأرض ـ أهم أعضاء المجموعة الشمسية ـ انطلق الإنسان بعينه وعقله لاستكشاف الكون.
ولا يقتصر الكون على هذه المليارات من النجوم والمجرات، وإنّما هُنا أيضاً ظواهر كونية أخرى منها السلام والسديم هو غاز وغبار ينتشر داخل المجرات وخارجها، ولهُ إشكال مُختلفة، ومن تكاثفه تتولد النجوم والمجرات.

وجاء في القرآن ذكر الدخان في بداية خلق الكون (ثُم استوى إلى السماء وهي دخان)(9)، ويُمكن أن يُفسّر هذا الدخان بالسديم الأول الذي نشأ عنهُ الكون وظواهر الكون كثيرة ويُمكن أن نعد منها النجوم المتفجرة تلك التي تتفجر فجأة مكونة ضوءاً يُعادل ضوء المجرة أو أكثر. ومنها الثقوب السوداء ذات الجاذبية المهولة، وهُناك الكوازرات تلك المجرات التي تقع على حافة الكون، ويبعد بعضها 14 مليار سنة ضوئية، إضافة إلى تلك الظواهر الصغيرة كالمذنبات والشهب والنيازك وغيرها.

هذا هو خلق الله، خلقٌ مُنظم وجميل ومُثير، وليس فيه أي تفاوت (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت)(10)، كُله إبداع وروعة وعظمة، ودليل على أن خالقه مُبدع ومُتفرّد في إبداعه (وليس كمثله شيء)(11)، على حد تعبير القرآن الكريم.
وأن الإنسان أمام ذلك الخالق المبدع المتفرد في إبداعه ضعيف ضئيل إلى أبعد الحدود .

نشرت في العدد المزدوج 30-29


(1) عدد النجوم قديماً 1022 ومع السبعة السيارة 1029 عجائب المخلوقات للقزويني ص22.
(2) نظام كوبر نيكوس ـ قاموس دار العلم الفلكي ـ عبد الأمير المؤمن ص516.
(3) سورة النساء: 28.
(4) سورة يس: 82.
(5) سورة الأنعام: 102.
(6) الكون نظرة تراثية ومعاصرة، عبد الأمير المؤمن ص159 ـ 165.
(7) سورة الواقعة: 75 و76.
(8) المنظومة الشمسية، عبد الأمير المؤمن، ص99 ـ ص116.
(9) سورة فصلت: 11.
(10) سورة الملك: 3.
(11) سورة الشورى: 11.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.