د. عبد الله سعدون المعموري
قسم الهندسة المعمارية/ الجامعة التكنولوجية
م. محاسن هادي خلف
وزارة الإعمار والإسكان
تتمسك كل أمة بجذور هويتها محاولةً مقاومة إعصار العولمة أو الكونية الجديدة، رغم هذا نجد أن هناك ابتعاد عن أهم ما يميز الحضارة العربية الإسلامية وهو العمارة الإسلامية بتهميشها وإخراجها عن دائرة الاهتمام وحصرها داخل الإطار الديني، لهذا دعت الحاجة إلى دراستها دراسة جديدة وتقديمها كعمارة حديثة تستلهم التراث الإسلامي وتبنى عليه بتوظيف المفردات والمفاهيم الروحية ذات البعد الإنساني في محاولة لاستعياب المستجدات الفكرية والاجتماعية والثقافية والعقائدية وتجسيدها في بنى فيزياوية من خلال النتاج المعماري الأخلاقي الصادر من الذات الواعية المسؤولة والملتزمة في إطار العقل،
الحرية والمشروعية لتحقيق الاعتدال والتواضع والإنصاف ضمن مبدأ الشمولية والتبادلية، وتنفتح على تاريخ العالم الفني والإبداعي كعضو مساهم وفعال في التراث المعماري الإنساني المشترك. وتعد المدينة العربية الإسلامية المحيط الحضري الذي يتلاءم وشخصية الإنسان العربي المسلم من الناحية السلوكية والعقائدية والنفسية بما يمنحه القدرة على تقييم الملكات الكامنة فيه (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ)(1) من خلال قيمة التسخير وجعله خليفة لله فيها (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)(2) وفق صيغة تتشابك فيها قوى الروح والمادة للانطلاق من نقطة التوازن التي ينتفي فيها الصراع ويتحول الجهد الإنساني إلى سعي خلاق من اجل التوحد والتكامل والانسجام وبذا يحقق القدوة الحسنة لغيره في عمارة الأرض.
مفهوم التواضع
التواضع Modesty في المعنى المعجمي، الحياء، الاحتشام، الاعتدال، البساطة، اليسر والقلة. وفي اللغة، التَّذَلُّلُ، الوَضْعُ: ضدّ الرفع، وضَعَه يَضَعُه وَضْعاً ومَوْضُوعاً، والمواضِعُ: واحدها مَوْضِعٌ، واسم المكان المَوْضِعُ. وتَواضَعَتِ الأَرضُ: انخفضت عما يليها، ويقال: إِنَّ بلدكم لمُتَواضِعٌ، وقال الأَصمعي: هو المُتَخاشِعُ من بُعْدِه تراهُ من بَعيدٍ لاصِقاً بالأرض(3)، والخُيلاء والكِبر نقيض التواضع وهي حالة تدعو إلى الإعجاب بالنفس، والتعاظم على الغير، بالقول أو الفعل، لذلك قال تعالى: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)(4)،
وقوله تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً)(5)، وقوله: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ)(6). وهذا هو الكِبْرُ الذي قال عنه النبي(صلى الله عليه وآله): (إن من كان في قلبه مِثْقالُ ذَرَّة من كِبْرٍ لم يدخل الجنة). وعن الإمام الصادق(عليه السلام): (ما من رجل تكبر أو تجبر، إلا لذلة وجدها في نفسه)، وفيه قال الشافعي:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا
فكم تحتها قوم هم منك أرفعٌ
فإن كنت في عز وحرز ومنعة
فكم مات من قوم هم منك أمنعٌ
التواضع كقيمة أخلاقية تعني احترام الناس حسب أقدارهم، وعدم الترفع عليهم. وهو خلق كريم يستحق الإعجاب والتقدير، وقد أمر الله تعالى النبي محمد(صلى الله عليه وآله)
بالتواضع، فقال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(7). وقال رسولنا الكريم(صلى الله عليه وآله): (إن أحبكم إلي، وأقربكم مني يوم القيامة مجلساً، أحسنكم خلقاً، وأشدكم تواضعاً، إن أبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارون وهم المستكبرون) وأشاد أهل البيت(عليهم السلام) بشرف هذا الخلق، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): (ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء، طلبا لما عند الله، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالاً على الله)(8)،
وعنه(عليه السلام): (على أئمة الحق أن يتأسّوا بأضعف رعيتهم حالاً في الأكل واللباس ولا يتميزون عنهم بشيء) يكون قد رسم خطاباً أخلاقياً من خلال، الاعتدال في العيش دون الحرمان من الطيبات وهذه لعامة الناس، واختيار الفقر والحرمان للأئمة. وعن الإمام الصادق(عليه السلام): (إن في السماء ملكين موكلين بالعباد، فمن تواضع لله رفعاه، ومن تكبر وضعاه). ولابد من أن يتسم التواضع بالقصد والاعتدال الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، فالإفراط في التواضع داع إلى الخسة والمهانة، والتفريط فيه باعث على الكِبر والأنانية، وأما الاعتدال فيه فهو التواضع الممدوح، بإعطاء كل فرد ما يستحقه من الحفاوة والتقدير، حسب منزلته ومؤهلاته، وقال الشاعر:
ليس التطاوُلُ رافعاً من جاهلِ
وكذا التواضعُ لا يضرُّ بعاقلِ
التواضع في العمارة العربية الإسلامية
يظهر مفهوم التواضع في العمارة من خلال تجسيد الموضوع بشكل إنساني متفاعل مع البيئة الطبيعية وموظفا لتقنيات العصر من خلال الإحساس بقيمة المكان وعلاقة ذلك بالتجربة الإنسانية في تحقيق المتطلبات الإنسانية ليحمل التصميم معنى قيمة الحياة والمكان الصحيح للإنسان فيها، وان حضور عنصر الروح في التصميم جزء من الحل وليس الحل كله وان البناية التي يُعتمد مبدأ التواضع في فلسفة التصميم يُدرك فيها الالتزامات المحددة في محاولة العلاقة المباشرة بين الإنسان وعمليات الطبيعة(9). والذي يسعى لتحقيق المستوى الإنساني إذ لابد من إيجاد موازنة بين المصمم والمادة المستخدمة والمعرفة العلمية والأيديولوجية المتبعة. لذا فان الحوار مع المادة والشكل والخط المنحني، أو الخط المستقيم مع القوس والقبة مع شكل السقف والجدار، ضرورة في تحقيق ما يحتاجه الإنسان، رغم أن الحاجة الفعلية هي (أربعة جدران وسقف)، ولكن بما يحقق انتمائه للطبيعة وتفاعله معها، وهذا يتم باستخدام الطاقات الكامنة في عملية الإبداع(10)،
ويستمد التشكيل الحضري في الإسلام كفلسفة زمانية – مكانية صيرورته من جوهر مبادئ الدين الإسلامي من حيث البساطة وعدم المبالغة مع ضمان حفظ الخصوصيات وتحقيق التفاعل الاجتماعي. ومن أهم خصائص العمارة الإسلامية مراعاتها للمقياس الإنساني ومخاطبتها لجوهر الذات من خلال إحياء القيم الأخلاقية(11).
يعد ابن خلدون التواضع في العمارة الإسلامية متأتي من البيئة الصحراوية التي لا تحتوي على عناصر معمارية متنوعة، مرتبط بما لأهلها من سجايا الاعتدال في العيش والبساطة والدِعة(12)، وقد جاء في القرآن الكريم: (إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)(13)
.
وتميزت العمارة العربية الإسلامية بعضويتها وانسجامها مع المتطلبات الإنسانية وارتباط المفاهيم التي يعتمدها المصمم سواء على صعيد الفكرة التصميمية أو مواد البناء والتفاصيل الكامنة ضمن البنية الأساسية المرتبطة بقيم المجتمع وحضارته وجوهر العمارة فيه والوضع الإنساني والعوامل البيئية والتي تميزت بخصائص يمثل التواضع كقيمة أخلاقية مرتبطة بالمطلق أحد العناصر الرئيسية لها، ومنها:
– تحقيق المقياس الإنساني الذي يمثل النظرة الموضوعية للعمارة في مديات مواءمتها لخصائص وأفعال الإنسان الفطرية والمكتسبة ويرى ابن خلدون أن العمارة مرتبطة بالتحضر وسمة الترف فيه على خلاف البداوة ومنازعها، ويشير كذلك إلى أن الحكام المتسلطين هم الذين أسسوا لعمارة ضخمة ليبعثوا الخشية والرهبة وقوة السلطة في نفوس الرعية، ويتجلى ذلك واضحا في دور الإمارة في البصرة والكوفة ودمشق في العصر الأموي وسامراء وبغداد في العصر العباسي على خلاف ما ظهر من التواضع المعماري في عمارة مسجد المدينة والذي قال الرسول(صلى الله عليه وآله) لما بناه: (ابنوه عريشاً كعريش موسى)، فسُئل الإمام الحسن(عليه السلام):
وما عريش موسى؟ قال: (إذا رفع يده بلغ العريش)، يعني السقف، وكذلك ما ظهر من التواضع في دار النبي محمد(صلى الله عليه وآله) ودار الإمام علي(عليه السلام) في الكوفة والذي يعني إسباغ العمارة الإسلامية بالمقياس الإنساني الذي يحترم الإنسان دون الانحراف إلى الكبر والخيلاء مع اللجوء إلى تجزئة العناصر وتعددها من دون المساس بوحدة التصميم، (المقرنصات والزخارف وتعدد الأعمدة وتقسيم السطوح والتدرج)(14).
– البساطة والتبسيط التي تشكل سمة بارزة من سمات العمارة العربية الإسلامية. إذ لا تعني البساطة في هذا الإطار التبسيط والاختزال في الجوانب الكمية المجردة بل تشمل مجمل الأحاسيس والانطباعات التي تتولد عن حالة التكامل المتزن بين عناصر البنية الكلية للنتاج المعماري. وان مفهوم البساطة لا ينطلق من القيم الكمية المجردة والتكوينات والمفردات الحجمية أو اللونية أو الشكلية، وانما هو نتاج طبيعي لدرجة الشد والترابط والاتزان والاعتدال بين مفردات النتاج بما يجعله ثرياً بالمعنى، غنياً بالهيئة، حيث إن لكل جزء وظيفة ولكل عنصر هدف يترك في ذهن المتلقي إدراكاً آنياً دون تكلف.
– الانفتاح نحو الداخل ويتمثل بوجود الفناء الداخلي المعبر عن طبيعة الحياة الاجتماعية والمناخية، وبأسبقية الداخل على الخارج والمضمون على الشكل والجوهر على القشرة، والتأكيد على الأفقية والالتصاق بالأرض والتوجه نحو السماء وتأكيد مبدأ الاحتشام وعدم التعدي الاجتماعي.
– الوحدة والتنوع ميزة مهيمنة وواضحة في العمارة الإسلامية، وهي متأتية أصلا من وحدة الإله، يقول أبو حيان التوحيدي: (أنا أعوذ بالله من صناعة لا تحقق التوحيد، ولا تدل على الواحد، ولا تدعو إلى عبادته، والاعتراف بوحدانيته، والقيام بحقوقه، والصبر على قضائه والتسليم لأمره). ولكن هذه الوحدة لا تعني مطلق التشابه (بمعنى التطابق)، ومن هنا كانت عملية التنوع والاختلاف، بنتيجة المفاهيم المتغيرة (الفعل الأخلاقي النسبي)، في إطار المفاهيم الثابتة (القيم الأخلاقية المطلقة).
– التفاصيل والمعالجات المعمارية في التأكيد على التوازن البصري بالتقليل من التفاصيل الدقيقة في الهيئة الخارجية مع الاغناء في المعالجات الداخلية بتفاصيل ونقوش تضفي على الفضاء عناصر ثراء وحيوية، وتعد هذه أحد مقومات الشخصية العربية الإسلامية التي تتسم بالبساطة والتواضع المظهري والغنى والقوة في الروح والمحتوى. وتجلت بها الإيقاعات الهندسية باعتماد الأنماط والتفاصيل الزخرفية البسيطة التي تعتمد الخط العربي مع وجود محورية عالية وتماثلية واضحة على محور واحد أو محورين، لخلق أشكال هندسية نقية(15).
هذه بعض ملامح اللوحة الساحرة للعمارة العربية الإسلامية التي تصوغها الكتلة التقليدية والواجهات المختلفة، ولكن هذه كلها غيبتها العمارة العربية المعاصرة (حصراً في المدن العربية كحدود بحثية) في كهوف الماضي ولم يبقى منها إلا محاولات تنظيرية يتطرق لها الباحثون في دراساتهم مقابل نتاجات معمارية ملؤها التجريد والتقليص والخواء الفكري.
العمارة العربية المعاصرةوفقدان التواصل
ركز رسكن Ruskin على ضرورة رؤية العمارة بمنظور جدي على اعتبار أنه يمكن
العيش بدون عمارة والتعبد بدونها أيضاً ولكن لا يمكن التذكر بدون عمارة. وهذا يعني أهمية البُعد التاريخي في العمل المعماري بالإشارة إلى حقيقتين:
الأولى: رؤية التاريخ من خلال العمارة.
والثانية: أن تحتوي المقترحات المعمارية من الخصائص ما يؤهلها لأن تكون خالدة.
فالمحاولات المتعددة للتنصل من القيم الثقافية والاجتماعية بدعوى عدم صلاحيتها للحداثة خلّف نمطاً معمارياً غير محدد الملامح مما أنتج أعمال معمارية متشابهة على صعيد العالم أجمع، وطغى الإنتاج الصناعي لمواد البناء مع الاعتبارات الاقتصادية والقيم الوظيفية الضيقة على التنوع الحضاري لنتاج العمارة لمواكبة روح العصر الجديد وبدعوى الحرية من وجهة نظر أولئك(16).