كان الوجود على موعد مع وليد قُدّر له أن يملأ الدنيا نوراً ويزيح عن صدر الدنيا عهوداً من الظلام الدامس الذي تخبطت به بين التيه والضلالة، بين عبادة الأوثان وحياة الجهل والضياع.
ومن الطبيعي أن يكون لمثل هذا الوليد بما سيضفي وجوده من نعم وبركات علامات تمهد السبيل أمام انطلاقته الأولى المتمثلة بولادته، فهو ليس كغيره يدخل الدنيا دون أن تسلط عليه الأضواء، بل يُفترض أن تحتفل به السماء فتظهر على الأرض معجزات بينات يتلمسها البعيد والقريب، وأن تكون تلك المعجزات متوازنة مع هيبة هذا المولود وعظمته وما سيؤدي من دور خالد ينقل الدنيا من أود الحضيض إلى أوج الشموخ، إذ ستكون رسالته السماوية خاتمة لرسالات سبقته ومبشرة بالإسلام، الدين الذي ارتضاه الله جل وعلا لعباده، دين السماحة والعدالة حيث لا يُحاف مظلوم ولا يتسلط ظالم.
كانت أول علامة وقعت يوم ميلاد الرسول الأعظم محمد(صلى الله عليه وآله) سقوط الأصنام وانقلابها على وجوهها، ثم تلا ذلك تزلزل إيوان كسرى وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفاته بعدد الملوك الذين سيحكمون بلاد فارس لحين زوال دولتهم، ثم خمدت نيران فارس، هي التي لم تخمد منذ ألف عام، ثم غاضت وجفّت بحيرة ساوة وفاض وادي السماوة.
بعض هذه العلامات التي أدت دورها منذرة الظالمين والمستبدين بمجيء المنقذ الأعظم، ظلت كما هو الحال مع طاق كسرى الذي انقصم من وسطه الذي مازال باقياً ليومنا هذا، والبعض منها كان مؤشراً لشيء سيحدث، فتزامنت مع المولد الشريف ثم عاد لسابق عهده، لتكن تلك الحادثة نادرة لم يسبق لذلك الأثر أن عاصرها، منها بحيرة ساوة التي غاض ماؤها وانقطع، وقد عهده الناس فيّاضاً يملأ جوانبها وتترقرق فيها أمواجه.
حملنا هذا المشهد معنا وزرنا هذه البحيرة لتكن محطة نسلط فيها الضوء على هذه الظاهرة ونحن نعيش أيام المولد المحمدي الشريف.
عموماً فمصطلح البحيرة يطلق على طبقة مائية محبوسة في حوض أو منخفض طبيعي أو صناعي واسع المساحة ومتوسط العمق(1).
ساوة جغرافياً
لم يكن موقع بحيرة ساوة وما يحيط بها من أرض في يوم من الأيام مسكناً ولا ندري سبب ذلك، والظاهر أن ماء البحيرة غيّر الجيد لم يشجع العرب كي يتخذوها مسكناً ترتع فيه دوابهم ويهنؤون بالقرب منه حيث الماء غاية البدو و الأعراب.
مهما يكن من أمر فالجغرافيون يطلقون اسم ساوة على مكانين، أولهما مدينة جميلة في إيران بين الري(طهران) وهمدان، واليوم تعد من محافظات إيران المعروفة كما برز منها قديماً عدد من الشخصيات، وثاني المكانين البحيرة التي نحن بصدد الحديث عنها وهذه البحيرة مرتبطة بذكر المولد النبوي الشريف.
يقول الصالحي(2): كانت أكثر من ستة فراسخ تركب فيها السفن ويسافر منها إلى ما حولها من البلاد والمدن فأصبحت ليلة المولد ناشفة كأن لم يكن بها شيء من الماء وفي ذلك يقول الشاعر:
غارت وقد كانت جوانبها تفوت الميلا(3)
من قول الصالحي نستدل على أن طولها يبلغ حوالي 6 فراسخ، فإذا كان الفرسخ يساوي 4827 متراً فإن طولها بالأمتار إذاً يبلغ 28902 أي 29 كم تقريباً، وما يؤيد ذلك قول الشيخ محمد باقر الكجوري(4) في وصف البحيرة: ومحيطها 25 فرسخاً غار ماؤها ليلة ولادة النبي الخاتم، وكان العبور فيها عسيراً قبل أن تجف قيل إذا غرق فيها أحدٌ سكنت وهدأ هيجانها و أمكن العبور فيها)(5) ومن القول أعلاه نستنتج أموراً منها:
1ـ الظاهر من كلام الكجوري أن البحيرة كانت تستخدم لأغراض الملاحة بالرغم من عبارة (وكان العبور فيها عسيراً) ولم يوضح الكجوري سبب ذلك العسر؟
2ـ أحاط الكجوري البحيرة بنوع من الغموض حينما قال: (قيل إذا غرق فيها أحد سكنت وهدأ هيجانها وأمكن العبور فيها)، وبذا فقد دخلت البحيرة ضمن الأساطير وما يحكى عن ذلك كونها تستقر بمجرد أن يغرق فيها أحد، وقد يكون هذا الاعتقاد السبب الذي جعل الناس يبتعدون عنها ولا يسكنون على ضفافها خوفاً من هذه الحكاية.
كما جرى ذكر البحيرة في بعض قصائد الشعراء التي أشارت إلى ذكر المولد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) منها(6):
لمولده نيران فارس أخمدت فنورهم إخماده كان حينه
لمولده غاضت بحيرة ساوةٌ وأعقب ذاك المد جزراً يشينه
كأن بالأمس لم يكن ريّاً لناهلٍ وورد العين المستهام معينه
كما ذكرها السيد صادق الفحام في قصيدة مدح فيها النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) فقال(7):
سما ليلة الميلاد ساطع نوره فأخمد نور العرب نار الأعاجم
وزلزل من أرجائه عرش فارس وقد سيم رعباً باضطراب القوائم
وغاضت وقد عبّت بحيرة ساوة فردت وقد ريدت بغلة حائم
ولنا مع البيت الثالث وقفة حيث لم يحدثنا أحد أن ماء البحيرة كان رياً لناهل بل هو شديد الملوحة فلم يستفد منه أحد.
وقد خلط البعض في هذه البحيرة فقالوا إنها موجودة في ساوة المدينة الإيرانية ومنهم (كي لسترانج) في كتابه حيث يقول: (إن ساوة كانت في قديم الزمان على ساحل بحيرة غاضت عند مولد النبي فقد غاض ماؤها في باطن الأرض ابتهاجاً وفرحاً بالبشرى السعيدة على ما في كتاب المستوفي)(8)
بينما لم تحدثنا كتب البلدان بوجود بحيرة في مدينة ساوة الإيرانية، ولو كانت لتشبث الإيرانيون بهذه المنقبة وجعلوا من ساوة مزاراً مقدساً، بينما ساوة العراقية مهملة مهجورة لم تتشفع لها السمة الإعجازية ولم تنفعها الصفة السياحية.
تعد بحيرة ساوة من أهم المعالم المميزة في (القطر) العراقي وذلك لتكوينها الفريد والظواهر الطبيعية التي صاحبتها، فهي تتميز عن البحيرات الأخرى بأمور عديدة منها: عدم وجود مجرى مائي سطحي يغذيها، بل تعتمد على العيون وما يتدفق من مياه من الشقوق في أسفلها.
إن مستوى المياه في هذه البحيرة ثابت رغم مرور زمن طويل على وجودها، ثم ارتفاع البحيرة عن مستوى سطح الأرض المجاورة لها بحوالي خمسة أمتار مما يحول دون رؤيتها إلا من مسافات قريبة جداً، وتحيطها سداد طبيعية من صخور الجبس وكبريات الكالسيوم وترتفع مياه هذه البحيرة أحد عشر متراً فوق مستوى نهر الفرات، لذلك يمكن تصريف المياه الموجودة في هذه البحيرة عن طريق الانحدار بفعل الجاذبية(9).