عندما ينظر الشخص غير المسلم إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام)
كعظيم لا يقارن ورجلاً يتمتع بكل الصفات والقيم والمبادئ الكبيرة وكواحد من الخالدين الذين أرسو قيم الخير والجمال والتسامح فأن هذا الآخر قد وجد فعلاً في علي بن أبي طالب هذه المزايا الفريدة وتلك الروح السامية والنزعة الإنسانية التي شملت العنصر الإنساني دون استثناء ومن هنا كان جورج جرداق الكاتب والشاعر المسيحي قد كتب عن علي بن أبي طالب(عليه السلام)
مجموعته الكاملة بما قد لا يستطيع كاتب مسلم كتابته لأن جرداق قد أحب علياً إلى حد العشق وأنسلت أفكار علي(عليه السلام)
وحكمه إلى روحه وعقله وتمثلت لديه أفعال إمام المتقين وسلوكه عندما عاش مع هذه الأفعال بعقله وفكره فوازن وحقق ليصل إلى الحق الذي معه علي على طول الخط ولن يفترقا وهذا الحال هو الذي ينطبق على أعداد من المفكرين والكتاب من غير المسلمين فتوماس كاريل نظر إلى علي كصانع للتاريخ البشري ومؤسس لمسير هذا التاريخ فهو بطل له الأثر في حركة التاريخ وتشكيل أحداثه ووقائعه وحتى جبران خليل جبران فهو يتذكر علي بن أبي طالب حين يعيش بمهجره فعلي عنده ولد لزمان غير زمانه إذ تقدم على زمانه وعصره.
كان مجموعة من الكتاب والمفكرين ومنهم الشيخ الدكتور أحمد الوائلي(رحمه الله) قد طرحوا مسألة في غاية الأهمية تدعو إلى قراءة علي بن أبي طالب قراءة عصرية جديدة تأخذ في تجسيد العلاقة بين ما جاد به الإمام العظيم من فكر وممارسات مع روح العصر بما يساهم في حل القضايا الإشكالية القائمة والجدال المحتدم بين المعاصرة. والحقيقة إن المشروع العلوي الإصلاحي الإنساني يمكن له أن يقدم حلولاً ومعالجات لمشاكل يحاول البعض أثارتها وربما بعضها مصدر لصراع فكري طال أمده ولم يتوصل المشاركون فيه إلى المبتغى من خلال إيجاد حل له.
قدم لنا الإمام العظيم ما يمكن أن نطلق عليه برامج عملية لحياة حرة كريمة وإنسانية سواء كان ذلك سلوكياً يومياً أو فكراً خالصاًَ نقياً وعميقاً ولعل الباحث يجد نفسه أمام فيض من هذه البرامج الحيوية المستقاة من علم إلهي ومعرفة إنسانية متراكمة ومعايشة دقيقة لوقائع اجتماعية وهكذا نجد إمام المتقين هو يغدق من ينبوعه الفكري الثر نظرية متقدمة في أصول الحكم وعلاقة الحاكم بالمحكوم والمواطن بالسلطة ففي عهده أو خطابه السياسي إلى مالك الأشتر حين أسند له حكم مصر متوسماً فيه وهو صديقه ورفيقه في السراء والضراء التطبيق والالتزام بهذا البرنامج السياسي
نجد الإمام قد أزاح التراب واللبس عندما تحدث عن العلاقة بين الحاكم والمحكومين بكل أطيافهم وأديانهم وعرقياتهم وبالفعل فأن الإمام قد أثار مسألة الإنسانية بأبعادها وارتباطاتها وقدسيتها فالمقدس عند أمامنا العظيم هو الإنسان المجرد المخلوق الإلهي لأن علي بن أبي طالب قد جعل روحه متعلقة بالله تعالى عارفة ومدركه ومفكرة بما يريده الخالق من عباده الصالحين بل إن الإمام عرف ما معنى عبادة الله وطاعته معرفة حقيقية وهذا هو سر عصمته وعظمته فكان ذلك أن جعل نظرة الإمام إلى عباد الله وخلقه متميزة وواعية لأن الإنسان مقدس وعزيز ومنظور من الله تعالى الذي يراقب مخلوقاته ومن ناحية أخرى فالإمام يشرح في هذا البرنامج السياسي حقيقة موقف الدين الإسلامي العظيم من البشر كبشر لا على أساس عقائدي.
ولأن إمام المتقين قد أغترف وراكم معارفه من ابن عمه محمد(صلى الله عليه وآله) نبي الإسلام وناقل الرسالة الجديدة إلى البشرية وهي الرسالة القائمة على النظرة الرحومة لكل الإنسانية لذلك فقد كان لعلي بن أبي طالب أصدقاء ومعارف من كل الديانات فكان هناك الصابئي والنصراني واليهودي وكان هؤلاء يتمارون مع إمام المتقين وكان يناقشهم بالموعظة الحسنة والحكمة بعقائدهم والحقيقة التي يمكن الوصول إليها إن قراءة لحكم وأقوال وأعمال الإمام لا تشير أو تظهر أي نزعة للتكفير أو الإقصاء أو الاحتقار لأية عقيدة دينية أو فكرية بل إن هناك ما يشير إلى مواقف تدعو إلى التأمل والتوقف عندها إذا ما قورنت بما يحدث الآن من أعمال وفتاوى تكفير وتحقير فالإمام كان يصرف المعاشات من بيت المال إلى الجميع وقد أولى فقراء أهل الكتاب رعايته واهتمامه البالغة وهو الإمام الذي يعرف معنى الإنسانية والتعامل مع البشر لأنهم مخلوقات الله بغض النظر عما تحمله عقائدهم.
ولما كان إمام المتقين يرى وهو العالم العارف المعصوم وخليفة رسول الله إن الشعوب لا يمكن لها أن تحيا وتعيش وتزدهر وتتقدم ويزول عنها الخلاف والأمراض والفقر وتحل عليها رحمة رب العالمين فقد كان للقانون والنظام وما يحدد العلاقة وينظمها بين البشر أنفسهم مكاناً في فكره وممارساته ولعلنا نجد الكثير من التوكيدات الداعمة لفرض القانون والنظام ورفض لشريعة القوي والضعيف فالجميع متساوون عند الإمام أمام حكم القانون فلا فوارق ولا امتيازات ولا طبقات والقوي المغتصب لحقوق الفقراء والمساكين لابد أن يأخذ حق الفقراء هؤلاء من عنده مهما كلف الأمر والباغي المستهتر عليه أن يخضع لحكم القانون ولو كان حاكما على مقاطعة كبلاد الشام وهو ما فعله علي بن أبي طالب مع معاوية بن أبي سفيان حين رفض بقاءه واليا على الشام لأن الرجل تجاوز الحدود وتحول إلى مالك للبلاد والعباد فالقانون هو الحاكم ومنظم العلاقة بين الناس هو ما أراده علي بن أبي طالب(عليه السلام) وهو الواقف مع النصراني على دكة القضاء وأمام قاضي ليحكم بين الخليفة والإمام وبين النصراني على درع مختلف عليه فهل هناك حكمة أروع من هذه ورأيا أبلغ من هذا مع ملاحظة السياق التاريخي للحدث وحداثة الدولة الإسلامية والسؤال هو ماذا لو سار أتباع علي وشيعته على نهجه؟
فقد وضع لهم قواعد دولة القانون لأن الإمام العظيم كان عارفاً إن الأمم والدول لا يمكن أن تبنى وتزدهر إلا في ظل قانون ولنا في التاريخ الإنساني القديم والحديث مثالاً على ذلك بل إن تجربة الإمام مع النصراني لم تكن ذات معانٍ ظاهرية بل لها أبعاداً فلسفية من خلال محاولة الربط بين الإيمان بالقانون وقضائه وتطبيق هذا القانون فأمام المتقين يؤكد على مسألة الإيمان بأن القانون مهم لنشر السلم والعدل والمساواة فانعدام الإيمان بالقانون هو الذي يقود إلى عصيانه والالتفاف عليه وتجاوزه ولذا فقد تقدم الإمام العظيم الصفوف لإشاعة فلسفة القانون والإيمان به والمراد إنه كان يبغي نشر قيم ومفاهيم عند المسلمين تقودهم بالتأكيد إلى الرقي والتطور وبها يحصلون على قوتهم وينظمون حياتهم وهو ما أخذت به أمم وشعوب أخرى فساد فيها التنظيم والإدارة الناجحة وأصبحت حياتهم أكثر سلاسة وكل يعرف ما عليه وماله.
والحقيقة إن كل ما جاء به علي بن أبي طالب(عليه السلام) من فكر وأعمال وممارسات حياتية تعبر عن حقيقة الإسلام الأصيل بوصفه رسالة عالمية إنسانية تقف على تناقص كامل مع ما يقدمه البعض من صور وممارسات جاهلية أعطت المبرر لأعداء الإسلام برميه بنعوت وصفات ليس للإسلام علاقة بها إن المدرسة العلوية التي هي امتداد أصيل وطبيعي للمدرسة المحمدية قدمت رؤية فلسفية وفكرية وأنموذج عملي لدولة حقيقية وضع الإمام العظيم أساسها ونظمها فإمام المتقين وكتطبيق لفكره الإنساني وخلال المدة القصيرة التي حكم فيها أوقف ما يعرف بالتاريخ الإسلامي بالفتوحات العسكرية وفضل البناء الداخلي للأمة الفتية لأن الإمام ومن منطلق قرآني يرفض سياسة الإكراه والإجبار والتوسيع بقوة السيف.
وخلال أية قراءة للتاريخ لن يجد الباحث أن علي بن أبي طالب وهو البطل الذي ليس له مثيل قد شارك في حروب الفتوحات مع شدته على الخارجين على القانون ومن الممكن القول إن الحوار والدعوة القائمة على الحجة والخطاب العقلي كان الأسلوب الذي اختاره الإمام وهذا ما جرى حتى مع معارضيه ومناوئيه فهو قد أعطى الحق للكل أن يعبروا عن أرائهم بصراحة ولا خوف وعلي بن أبي طالب لا يقتل إنساناً خلقه الله على كلمات أو شبهة ولنا في موقفه من عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي رفض بيعة الإمام ومحاولة البعض إكراهه على ذلك
فحينها وقف إمام المتقين مانعاً وكافلاً لعبد الله بن عمر وفي هذا الحدث تتجلى الحرية في الاختيار التي منحها أعدائه ومعارضيه وفي ذلك كلمة في السياسة إذ لكل شخص حريته في الاختيار والتعبير عن رأيه مادام لا ينتهك الأعراف والقيم وهذا ما لاحظه معاوية بن سفيان من جرأة أهل العراق بالتحدث الصريح أمام الحكام عند استقباله وفداً منهم أسمع معاوية من الكلمات الجريئة الكثيرة فقد قال معاوية إن هذا ما علمكم به علي بن أبي طالب وهذا بالفعل ما أراده الإمام من زرع للقوة والإيمان في النفوس وعدم الخشية من الحكام بل إن فلسفة الإمام تجعل من المواطن البسيط على نسق واحد مع الحاكم فعند علي الجميع متساوون لأن خالقهم واحد ومن مادة واحدة ومن هنا تنطلق الفلسفة العلوية فماداموا تابعين لإله واحد فلا فرق بين أحد وأحد بل الجميع متساوون وعلى نفس الدرجة.
وقد عبر الإمام عن هذه الفلسفة عندما وصف الإسلام على أنه سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وعمار بن ياسر وهذا الوصف يشير إلى عالمية الفكر العلوي ورفضه التمييز بكل أنواعه وحتى مع قاتله المجرم بن ملجم فقد أوصى أمامنا العظيم قبل استشهاده وعندما تم إلقاء القبض على المجرم بن ملجم أن يكون التعامل معه وفق قانون الإسلام ولا تميز فضربه بضربه ولا أذى أو عذاب وقد يكون هناك أمراً آخر لو كانت الإرادة الإلهية لم تنتخب الإمام إلى جوار خالقه وهناك افتراض لمن يعرف حقيقة إمام المتقين
أن يطلق سراحه فهو من يطبق العفو عند المقدرة وهذه صفات أهل البيت النبوة(عليهم السلام) وما موقفه من الخوارج إلا لنشر روح التسامح ورفض فكرة التكفير والإقصاء فقد رفض أن يكفرهم بل هم كما قال أخوة لنا ولم يقاتلهم عندما كانوا يعارضون سلماً وفكراً وقاتلهم عندما بغوا وقتلوا النساء وبقروا بطونهن وعندما قتلوا أكثر المسلمين إيماناً.
هذه نماذج من الفلسفة السياسية لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) كان يريدها منهاجاً للأمة وطريقاً صحيحاً لها لتشكل دولة يسودها القانون وترفرف عليها العدالة والمساواة والتسامح ولكن لك يعرف الإفادة منها إلا القليل وربما أفاد منها غير المسلمون فكيف ينتفع فيها المسلمون وفيهم من يسأل علي بن أبي طالب كم شعرة في لحيتي عندما وقف مخاطباً الجمهور أسألوني قبل أن تفقدوني فقد أراد الإمام أن يسألوه عن حالهم ومستقبلهم عن السياسة والاقتصاد والحياة وطرق بناء الدولة وكيفية التعامل لأن الإمام كان عارفاً وعالماً بما لا يعلمون من أمور الدنيا والآخرة
فهو أراد أن يعرفوا كيف يعيشون ويتقدمون وأراد اختبار وعيهم حتى سأل السائل بجهل وحمق ولكن الإمام قد وضع الأساس للدولة الكريمة وقانونها وتنظيمها دولة الحرية واحترام العقيدة والحفاظ على كرامة الإنسان وحقوقه دولة القانون والعدل والتآخي.