Take a fresh look at your lifestyle.

مرقد مسلم بن عقيل.. رمز التضحية الأولى في ملحمة كربلاء الخالدة

0 1٬566

                 اجتمعت للبيت الهاشمي مميزات وصفات قلما تجتمع في بيت من بيوتات العرب، حيث التقت الأصول الشريفة والموروثات النقية عند هاشم بن عبد مناف، جد الأسرة وباني مجدها التليد، تلك الشخصية التي طالما دارت حولها أحاديث منتديات مكة وأسواقها، حيث كانت تعج بالحركة التجارية مع ما يتبعها من نواد يتبارى فيها الشعراء كما يتبارى الشجعان في ساحات الحرب.

ولما كانت مكة ملتقى للقوافل ومنزلاً للوفود، فمن الطبيعي أن يأخذ هاشم حيزاً من اهتماماتهم، أليس هو من سن الرحلتين؟!، رحلة الشتاء والصيف، وهو من قبل قد اجتمعت له الوفادة والرفادة دون قريش وهو بعد الذي هشم الثريد للحاج مرة وأخرى عندما ضرب مكة القحط وفيه قال شاعرهم:

(عمرو العلى) هشم الثريد لقومه
وأهل مكة مسنتون عجاف

ولما مات هاشم بغزة من أرض فلسطين في رحلته تلك قام أبناؤه مقامه، جارين على عادته ولطف سجيته، فكانوا بحق آل هاشم الذين وصفهم الجاحظ بقوله: (هم ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلى العالم والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كل جوهر كريم، وسر كل عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك والنصاب الوثيق، ومعدن الفهم، وينبوع العلم…)(1).

وقد زاد الله في شرف هذا البيت مذ اختار منه سيد أنبيائه وخيرة خلقه محمد بن عبد الله(صلى الله عليه وآله)، وهكذا بسقت الشجرة الهاشمية وأصبحت فروعها تمتد وتمتد حتى اكتسبت مما في الجذور من صفات نبيلة وأخلاق حميدة، ولما بدى بينها ذلك الفرع الندي، قدر له أن يكون مغرساً جديداً في أرض التضحيات التي لا تنبت إلا فسائل الشهادة، ولا ترتوي إلا بدماء الشهداء فكان دمه أول الدماء التي خطت ملامح واقعة كربلاء وإن بعد عنها، إنه مسلم بن عقيل بن أبي طالب(عليه السلام)، العلم الخفاق في سماء الكوفة الذي لازال معلمه شاخصاً يحكي لزائريه والمتنسمين شذى مزاره، بسالته وشدة تنمره في ذات الله، تسليمه لقضائه وولائه المطلق لإمامه الحسين بن علي(عليه السلام).
من ذلك الصرح الطاهر سجلنا استطلاع هذا العدد من مجلتنا (ينابيع)، تزامناً مع ذكرى استشهاده (صلوات الله وسلامه عليه).

 

أضواء على سيرة مسلم بن عقيل
لعل سيرة مسلم بن عقيل(عليه السلام) أخذت من مسامع الناس ما يكفي لفهم حركته واستيعاب فكرته، فقد أصبح حديث سفير الحسين(عليه السلام) جزءاً لا يتجزأ عن حديث كربلاء وها هي كتب المقاتل والسير تفرد صفحات لتبيان ما جرى عليه، وهذا يجعلنا لا نطيل السرد في حديث ألفته الأسماع واستوعبته العقول إلا أننا نأخذ لمحات هنا وهناك أينما نجد ما يثير سؤالاً عنه(عليه السلام).

ولادتـه
اختلف المؤرخون في السنة التي ولد فيها مسلم(عليه السلام) فقائل: (استشهد وسنّه (28) سنة، وآخر يقول (34) سنة، لدة العباس الأكبر بن أمير المؤمنين(عليه السلام)، وآخر يرى أن سنّه يوم استشهد (38) سنة)(2).

وقد رجح الشيخ عبد الواحد المظفر الرأي الأخير وعليه تكون ولادته سنة (22هـ)، (وقد ولد في دارهم المعروفة بدار عقيل والتي صارت أخيراً مقبرة لآل أبي طالب وهي في أول البقيع)(3).

أما والده عقيل بن أبي طالب فقد كان أحب ولد أبي طالب له وقد أشار النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) إلى ذلك حينما سئل هل تحب عقيلاً؟ فقال(صلى الله عليه وآله): (إني أحب عقيلاً حبين، حباً له وحباً لحب أبي طالب له)(4) وقد كان عقيل نسابة عالماً بأنساب العرب وقريش، وقد تميز على علماء الأنساب بإحاطته بالمحاسن والمساوئ وعلم بالمناقب والمثالب، وقد أبغضته قريش لنشره فضائح أسلافها فمقتوه لذلك ورموه بالعظائم وبهتوه بأعظم الأشياء حتى نسبوا إليه أنه فارق أخاه أمير المؤمنين(عليه السلام) ولحق بأعدائه من بني أمية، هذا ولعقيل يداً في الحديث والفقه والتفسير، كما شهد من شاهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) حنيناً وما بعدها، وقيل شهد خيبر ومؤتة).

أما والدته فهي كما حدث ابن قتيبة بقوله: (كانت أم مسلم بن عقيل نبطية من آل فرزندا)(5)، (وعلى هذا فليس مبتعداً عن الواقع من يرتئي أن عقيلاً خطب لنفسه بعض من عشائر النبطيين الذين يجمعهم وإياه الوقوف بتلك المشاعر المعظمة التي حث الله تعالى العباد إليها ذللاً)(6)،

في حين توجد رواية أخرى تقول إن أم مسلم (يقال لها: علية) اشتراها عقيل من الشام)(7).
ويكفي أم مسلم من المجد والرفعة أنها ولدت أول فدائي من الشهداء الذين أعادوا للإسلام نضارته وجددوا بدمائهم حيويته.
نشأ مسلم بن عقيل(عليه السلام) وهو يتنقل بين تلك البيوت الطاهرة وقد عاصر مسلم ثلاثة أئمة كان أولهم عمه أمير المؤمنين(عليه السلام)

الذي غذاه بلباب علومه وسقاه من نمير كوثره، ما أهله كي يكون طليعة الحسين(عليه السلام) وسفيره، وعن هيئته ينقل البخاري عن أبي هريرة قوله: (ما رأيت من ولد عبد المطلب أشبه بالنبي(صلى الله عليه وآله) من مسلم بن عقيل)(8).
وقد تزوج مسلم(عليه السلام) (رقية بنت أمير المؤمنين(عليه السلام)، فولدت له عبد الله بن مسلم الذي كان له يوم الطف موقفاً متميزاً إضافة لعلي، وأما محمد فأمه أم ولد، أما مسلم وعبد العزيز لم يعين ابن قتبية أو غيره أمهما وله بنت واحدة أمها أم كلثوم بنت أمير المؤمنين)(9).

 

مع مسلم بن عقيل في رحلته
ما أن تناقلت الأخبار هلاك معاوية بن أبي سفيان حتى تنفس الكوفيون المخلصون، الموالون لآل البيت(عليهم السلام) الصعداء وبدأت مبادراتهم الواحدة تلو الأخرى، تحث سيد الشهداء أبا عبد الله الحسين(عليه السلام) على القدوم إلى الكوفة، فهي الحاضرة التي خصها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) دون باقي المدن كي تكون عاصمة لدولته، وهل ينسى الكوفيون عدالة علي(عليه السلام) وشرفه وعفته وما جبلت عليه نفسه الزكية من طيب خصال؟!.

وكان تذمر الكوفيون من الوضع القائم حيث ولاة السوء الذين تتبعوا أتباع علي(عليه السلام) وحاربوهم بشتى أنواع المحاربة وما حادثة حجر بن عدي الكندي (رضوان الله عليه) إلا دليل ناصع على ما تعرض له المخلصون.

واليوم وقد ولى عهد معاوية فقد رأى الكوفيون أن الفرصة مؤاتية لهم كي يصلحوا أخطاءهم التي اقترفوها مع الإمام الحسن(عليه السلام) عندما كان بين ظهرانيهم ، فكان محور رسائلهم للحسين(عليه السلام) يدور في جملة واحدة (أنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق…).

وعندما رأى الإمام الحسين(عليه السلام) هذا التجاوب الذي تحمله كتب أهل الكوفة، بما فيها من عبارات ذات البعد الجماهيري الواسع، حتى أولئك الذين حسبوا أنفسهم على بني أمية، فقد وجه مسلم بن عقيل(عليه السلام) مع كتابه الذي وضع فيه الخطوط العامة لما يطلبه منه أهل الكوفة بمعنى أن كتاب الإمام الحسين(عليه السلام) كان جواباً لكل الكتب التي استلمها(عليه السلام)

والتي بينت جميعها تعبئة أهل الكوفة واستعدادهم الحقيقي لمساندة الحسين(عليه السلام) ونصرته فكان مضمون كتابه:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين، أما بعد، فإن هانئاً وسعيداً قد قدما عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلكم إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، مسلم بن عقيل، وقد أمرته أن يكتب لي بحالكم ورأيكم ورأي ذوي الحجى والفضل منكم وهو متوجه إلى ما قبلكم إن شاء الله تعالى والسلام، فإن كنتم على ما قدمت به رسلكم، وقرأت في كتبكم فقوموا مع ابن عمي وبايعوه وانصروه ولا تخذلوه، فلعمري ليس الإمام العامل بالكتاب، والعادل بالقسط كالذي يحكم بغير الحق ولا يهدي ولا يهتدي، جمعنا الله وإياكم على الهدى وألزمنا وإياكم كلمة التقوى، إنه لطيف لما يشاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)(10)،

(ثم طوى الكتاب وختمه ودعا بمسلم بن عقيل فدفع إليه الكتاب وقال إني موجهك إلى أهل الكوفة، وسيقضي الله أمرك ما يحب ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء، فامض ببركة الله وعونه حتى تدخل الكوفة، فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها، وادع الناس إلى طاعتي فإن رأيتهم مجتمعين على بيعتي، فعجل عليّ بالخبر حتى أعمل على حسب ذلك إن شاء الله تعالى)(11).

وهذا الكتاب هو وثيقة السفارة التي منحها الإمام الحسين(عليه السلام) لمسلم بن عقيل كي يمثله في الكوفة، إحدى المصرين التي تنوعت فيها الو لاءات والتوجهات السياسية المختلفة، فما الذي حدا بالإمام الحسين(عليه السلام) لاختيار مسلم بن عقيل(عليه السلام) دون غيره من الناس من آل هاشم؟

من النصين المتقدمين، نجد أن الإمام الحسين(عليه السلام) قدم مسوغات اختياره مسلماً دون غيره وهذا لا يعني أن الموجودين من بني هاشم غير مؤهلين لسفارته(عليه السلام)، بل أنها مسألة توزيع أدوار ومهمات، فالعباس(عليه السلام)
مثلاً كان قد ادخره الحسين(عليه السلام) ليحضر واقعة كربلاء، لأن دوره هناك سيترتب عليه أثر أعظم مما لو لم يحضر الواقعة.

وفي نظري القاصر أرى أن اختيار الإمام الحسين(عليه السلام) لمسلم كان مبنياً على معرفة مسلم بأحوال أهل الكوفة، فقد كان مع عمه أمير المؤمنين(عليه السلام) في الكوفة ولما غادرها الإمام الحسن(عليه السلام) قفل مسلم راجعاً معه إلى المدينة المنورة، وكان عمره آنذاك في منتصف عقده الثالث، فهو يعرف الموالين الذين كانوا يلتفون حول عمه ويعرف أضدادهم، أضف لذلك الخبرة التي اكتسبها من والده عقيل بن أبي طالب في الأنساب أهلته كي يميز الشخصيات الكوفية.

أما النص الأول الذي أوردناه أعلاه فقد بين عناصره الباحث الأستاذ محمد الأسدي قائلا: (لقد حدد عليه السلام في كتابه إلى أهل الكوفة عناصر الحركة الناجحة على الصعيد الشعبي،

وهذه العناصر هي:
1ـ الملأ، وهم جمهور الناس.
2ـ أهل الفضل والحجى، وهم النخب والصفوة الواعية.
3ـ الإجماع والوحدة والاتفاق.

أما أهل الحجى والفضل فلا نعتقد أن الإمام الحسين(عليه السلام) كان يساوره الشك في صدق ولائهم ووعودهم، وهم أصحاب أبيه في صفين والجمل والنهروان وأصحاب أخيه الحسن(عليه السلام) فضلاً عن أنهم كانوا قبل هذا التاريخ يراسلونه أو يلتقون به في وفود تأتيه من العراق.

ولكن إذا كان عنده شك فهو من جمهور الناس الذين كتبوا إليه الكتب ولاسيما وأن هؤلاء من كان يعرفهم الإمام الحسين(عليه السلام) بالولاء للجهاز الحاكم والعمل معه طيلة السنوات العشرين الماضية)(12).

وعلى كل حال، فقد غادر مسلم بن عقيل المدينة في النصف من شهر رمضان المبارك سنة (60) للهجرة ودخل الكوفة في الخامس أو السادس من شوال، (فنزل دار المختار بن أبي عبيدة (الثقفي)، وأقبلت الشيعة تختلف إليه)(13)، ولم يبين لنا التاريخ كيفية اختيار مسلم دار المختار للنزول فيه، هل كانت هناك معرفة سابقة بين المختار ومسلم؟ وإذا ما علمنا أن الإمام الحسين(عليه السلام) أوصى مسلماً (فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها)، وهذا يدل على وثاقة المختار الذي قدر له فيما بعد أن يقتص من قتلة الإمام الحسين(عليه السلام)، ثم ليكون جاراً لمسلم في قبره كما نزل مسلم بداره في أول قدومه، ويرى الأستاذ الدكتور محمد حسين الصغير في قدوم مسلم إلى الكوفة رأيا خاصاً حيث يقول (وكان انبعاث مسلم بن عقيل بهذه المهمة الخطيرة يعني أنه كان أثيرا بثقة الإمام، معتمداً في تبليغ رسالته، ورائداً مبكراً من رواد ثورته، ومع هذا التقييم لسفارته ونذارته وريادته،

فقد أمره بالتقوى والعمل السري والرفق بالناس واللطف بهم وهذه سمات القادة العظماء، دخل مسلم الكوفة، ونزل دار المختار الثقفي وهو اختيار دقيق لأن المختار يمثل زعامة شعبية في الكوفة، فاقبل عليه الناس)(14).

بين الخامس من شوال والثامن من ذي الحجة مدة بقاء مسلم في الكوفة، التي بلغت ثلاثة وستين يوماً،

شهدت الكوفة تغيرات سياسية نوجزها فيما يأتي.
1ـ استقبال مسلم المبايعين الذين تزايدت أعدادهم يوماً بعد آخر حتى تواردت الأخبار إلى النعمان بن بشير الأنصاري، عامل يزيد على الكوفة، الأمر الذي حدى بأتباع الأمويين أن يكتبوا الكتاب تلو الأخر ويبعثوا بالكتب إلى يزيد يبينون خطورة الموقف ومدى الاستجابة الواسعة والتأييد المطلق لمسلم بن عقيل وبنفس الخطورة موقف النعمان المتراخي واللامسؤول.

2ـ دخول عبيد الله بن زياد الكوفة والياً عليها، وكان قد دخل الكوفة (ملثما معتماً بعمامة سوداء حسبه الناس أنه الإمام الحسين(عليه السلام) فأخذوا يسلمون عليه ويتباشرون بقدومه حتى الحرس المكلفون بحراسة أبواب المدينة)(15).

3ـ إرسال مسلم كتاباً للحسين(عليه السلام) يقول فيه: (أما بعد فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجل حين يأتيك كتابي فإن الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا كتاب)(16) (وقد كتبه(عليه السلام) قبل شهادته ببضع وعشرين ليلة)(17).

4ـ انتقال مسلم من دار المختار بن أبي عبيدة إلى دار هانئ بن عروة الثقفي، والظاهر أن مسلماً أحس بأن دار المختار أصبحت غير ملائمة لأقامته فقد دخلها الكوفيون، المبغض والمحب وبالتالي أصبحت مكشوفة أمام الأعداء وقد وجد في دار هانئ الملاذ الأمن بالرغم من تخوف هانئ من استقباله مسلم باعتباره(عليه السلام)

مطلوباً من السلطات ولقد سجل التاريخ لهانئ دوراً مشرفاً فقد بذل دمه وحياته حفاظاً على حياة مسلم، حينما أبى أن يسلمه مما جعل عبيد الله يضربه بسوطه أولاً ثم يسجنه ثم يقتله بين قومه وهو مستضعف مغلوب على أمره.

5ـ إعلان مسلم الثورة على عجل، فقد أثرت التطورات المتسارعة على قرار الشروع بالحركة، (وتقدم مسلم بن عقيل فوزع الرايات على أربعة من الرجال هم عبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي، ومسلم بن عوسجة الأسدي، وأبو ثمامة الصائدي، وعباس بن جعدة الجدلي)(18)

وقد استشهد من هؤلاء القادة اثنان عبيد الله بن عمرو، فقد أسره الحصين بن نمير مدير شرطة ابن زياد، وقتل يوم 9ذي الحجة، أما الأخر فهو العباس بن جعدة، وقد قتل أيضاً على يد أبن زياد أما مسلم بن عوسجة وأبو ثمامة الصائدي فقد ادخرا نفسيهما لنصرة الحسين في كربلاء، بمعنى أنهما تواريا عن الأنظار ومن ثم التحقا بمعسكر الحسين.

6ـ فشل ثورة مسلم حيث تداخلت الأحداث وقد نجح دهاء المقربين للسلطة في بث التفرقة بين الكوفيين خصوصاً تلك الدعاية الموجهة التي شكلت حرباً نفسية عند الكوفيين وهي (قدوم جيش الشام المزود بالعدة والعدد).

7ـ مباشرة مسلم(عليه السلام) القتال بنفسه، وغياب كامل لتلك الحشود التي بايعت قبل أيام.

8ـ اقتياد مسلم(عليه السلام) أسيراً إلى ابن زياد بعد أن أثخن بالجراح وقد أمنوه ثم غدروا به، ولما علم(عليه السلام) بأنه مقتول أوصى وصيته والوصية من الأمور المؤكدة للإنسان إذا حضرته الوفاة، تقول الرواية (فنظر ابن عقيل إلى القوم، وهم جلساء ابن زياد وفيهم عمر بن سعد فقال: يا عمر إن بيني وبينك قرابة دون هؤلاء ولي إليك حاجة، وقد يجب عليك لقرابتي نجح حاجتي وهي سر فأبى أن يمكنه من ذكرها، فقال له عبيد الله لا تمتنع من أن تنظر حاجة ابن عمك، فقام معه وجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد (لعنه الله) فقال له ابن عقيل: إن عليّ بالكوفة دَيناً استدنته مذ قدمتها سبع مائة درهم، فبع سيفي ودرعي فأقضها عني وإذا قتلت فاستوهب جثتي من ابن زياد فوارها وابعث إلى الحسين(عليه السلام) من يرده فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه ولا أراه إلا مقبلا)(19).

نجد في الوصية مسألتين هما:
1ـ إن القرابة التي تربط مسلم بن عقيل بعمر بن سعد هي: (أنهما من بني لؤي بن غالب، فمسلم بن عقيل بن أبي طالب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لوي بن غالب، أما عمر فهو ابن سعد بن أبي وقاص بن مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، فقصي جد مسلم الأعلى هو شقيق زهرة جد عمر ابن سعد).

2ـ أما الوصية فتنقسم إلى عدة نقاط:

أ ـ إيفاء دين مسلم في الكوفة:

وهل من المعقول لو سلمنا بان عمر سوف ينفذ البند الأول من وصية مسلم ويخرج في سوق الكوفة ويعرض سيف مسلم ودرعه ويبيعه ثم ينادي من كان له على مسلم دين فليأت ويأخذ دينه، أفهل يقدم أحد ويقول أنا صاحب الدين؟ بالطبع لا، فالذي يقول هو لي يقتل في ساعته باعتباره متواطئاً مع عدو الدولة، إذن فلماذا صرح مسلم بمثل هذا القول؟ صرح(عليه السلام) ذلك حتى يبين للناس أن قدومه إلى الكوفة لم يكن بدافع الدنيا بل لإنقاذ الناس، فقد كان مسلم يستدين من الموالين لقضاء حاجته، بالرغم من وجود الأموال مكدسة بين يديه.

ب ـ استيهاب جثته الزكية من ابن زياد:

ج ـ إرسال من يخبر الحسين العودة إلى وطنه، لأن أهل الكوفة انقلبوا من الولاء إلى الغدر.
وعلى كل حال فقد انتهى ذلك الحوار بين ممثل الحسين مسلم بن عقيل والطاغية عبيد الله بن زياد بإيعاز الثاني لجلاوزته قتل مسلم، وبالفعل ما هي إلا ساعة وقد حلقت روح مسلم في رياض الشهداء، آمنة مطمئنة أدت رسالتها وختمت حياتها بالسعادة الأبدية.

وقد أمعن ابن زياد في شدة تنكيله بمسلم حيث مارس أبشع صور العنف الدموي فلم يكتف بقتل مسلم ورميه من أعلى القصر وقطع رأسه الشريف بل صلبه وهانئ بالكناسة وسير رأسه للشام ثم أراد أنذال أهل الكوفة التقرب من أبن زياد فوضعوا برجلي مسلم وهانئ الحبال ثم سحبوهما في الأسواق).

ضريح أول الشهداء على مر العصور:
توالت عمارات متعددة على مرقدي مسلم بن عقيل(عليه السلام) وهانئ بن عروة(رضي الله عنه) ولعل هذه العمارات أخذت صورة متوالية باعتبار تلاصق المرقدين لمسجد الكوفة المعظم والذي كان موضع عناية المسلمين حيث يخضع بين آونة وأخرى لتحديثات وإصلاحات الأمر الذي جعل المرقدين يقعان ضمن خطة التطوير والتعمير.

تنقل الرواية (… لما دفن مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة من قبل قبيلة مذحج بأمر ابن زياد بالقرب من دار الإمارة حتى يتسنى استمرار رقابة الشرطة عليهما، وذلك ليمتنع القاصدون والزائرون من زيارتهما، ولا يحضر هناك مؤبن ولا تقام مجالس الندبة والرثاء ولا تقرأ الفاتحة عليهما، ومع ذلك فلم تنقطع زيارة الشيعة وقراءتهم للفاتحة عليهما بالسر والكتمان في الليل، وذلك خوفاً من الحرس والشرطة وكان عدم انقطاع الشيعة من الزيارة وتسلم كل جيل منهم المرقد الشريف للجيل الآخر دليل مهم من الدلائل التي تبرهن على صحة موضع القبرين)(20).

والظاهر أن أول عمارة أقيمت على مرقدي مسلم وهانئ كانت في عهد المختار بن أبي عبيدة الثقفي 67هـ حيث ينقل المصدر السابق (… وبقى القبران الظاهران على حالة عادية إلى أن جاء دور المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وشيد قبر مسلم وهانئ وبنى عليهما قبباً صغيرة، ووضع عليهما صخوراً من المرمر كتب على كل قبر أسم صاحبه، وقد عثر عليها أعوام ـ غير بعيدة ـ وشيد المختار هذين القبرين بعدما شيد قبر الحسين(عليه السلام) والشهداء).

وقد شيد المختار عمارته على الشكل الذي وصفه ابن جبير سنة 580هـ، حيث قال (وفي الجهة الشرقية من الجامع بيت صغير يصعد إليه فيه قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب)(21) وهذا ما أكده الأستاذ كامل الجبوري بقوله (وبنى المختار المرقدين (مسلم وهانئ) أعلى من أرض مسجد الكوفة)(22).

وفي عصر البويهيين (334هـ ـ 448هـ)، (… أضافوا بعض التعميرات بضريح مسلم بن عقيل وحثوا على السكن بجوارها، ولا يزال أكثر المجاورين لمسجد الكوفة وقبري مسلم وهاني يرجع نسبهم إلى آل بويه)(23).

وفي عام 681هـ تبرع الأخوان (الصاحب عطاء الملك بن الجويني وشمس الدين بن الجويني) بضريح لمسلم بن عقيل، حيث وجدت آثارهما مكتوبة على أحد جدرانه الداخلية(24).

أما الرحالة ابن بطوطة، فقد زار الكوفة في رحلته عام 725هـ، إلا أنه لم يشر إلى ضريح الجويني، بل وصف قبر مسلم بنفس الوصف الذي وصفه به أبن جبير، ولكن الرحالة كارستن نيبور الذي زار العراق خلال الفترة (1765م وحتى 3 آذار 1766م) ،ووضع خارطة لعدد من المشاهد والآثار من بينها مشهد مسلم بن عقيل الملاصق للمسجد الجامع، ذكر الضريح الذي صنعه عطاء الملك وأخوه قائلاً (هذه العمارة مشهد مسلم بن عقيل بن أبي طالب(عليه السلام) في أيام الصاحبين المخدومين على الحق والدين(علاء الدين) وشمس الدين ولدي محمود بن محمد الجويني اعز الله أنصار دولتهما بتولي أرقاب عبيدهما محمد بن محمود الرازي وأبي المحاسن بن أحمد التبريزي عفى الله عنهما في شهور إحدى وثمانين وستمائة وصلى الله على سيدنا محمد وآله) وعليه كتابة تقول أن محمد الرازي وأبو المحاسن التبريزي قد شيدا هذا الأثر في عام 681هـ)(25).

في عام 767هـ بنى الملك أوس بن الشيخ حسن الجلائري (مؤسس الدولة الجلائرية)، بذل جهوداً وأموالاً كثيرة في بناء الحرم الحسيني وبنفس الوقت أجريت تعميرات للمرقدين المطهرين (مرقد مسلم وهانئ)(26).

أما الشيخ محمد حرز الدين(27) فيصف المرقد قائلاً: (…مرقده الشريف بالكوفة، جنب المسجد الأعظم متصل بركنه الشرقي الجنوبي عامر مشيد له حرم قديم البناء في وسطه شباك فضي صغير ومن قبل كان على قبره شباكاً خشبياً مكسياً ومزداناً بالصفر الأصفر فوق حرمه قبة عالية البناء زرقاء فرشت بالحجر الكاشاني ومرقده عامر بالزوار والوفود من كل قطر إسلامي جاء إلى زيارة المشاهد المشرفة بالعراق). أما السيد حسين البراقي فيقول (وعليه اليوم شباك فضي أوله رواق مبلط بالقاشاني، وعليه قبة كبيرة من القاشاني أيضاً(28).

وقد اطلع الشيخ محمد حرز الدين على جملة من آثار مرقد مسلم نذكر منها:
1ـ صفحات شباك قديم كان على قبر مسلم بن عقيل كتب عليها أبيات عبد الله بن الزبير الأسدي بحروف عربية بارزة
إذا كنت لا تدرين ما الموت فانظري
إلى هانئ في السوق وأبن عقيل
إلى بطل قد هشّم السوط وجهه
وآخر يهوي من طمار قتيل

2ـ أنقاض شباك آخر لقبره(عليه السلام) يعود تاريخ صنعه إلى سنة 1055 وكانت المتبرعة به (أم آغا خان).

3ـ صخرة بيضاء من حجر النورة ـ الظاهر أنها كانت مبنية على باب حرم مسلم بن عقيل وقد ذكر فيها أسم مجدد بناء الحرم، إضافة لنص شعري ينتهي بتاريخ (هي باب حطة فادخلوها سجدا) سنة 1232 والمجدد هو نواب حافظ محمد عبد الحسين خان) ثم يضيف (الظاهر من هدف الألقاب أن المجدد كان رجلاً من عظماء الهنود وأمرائهم)(29).

والظاهر أن هناك تجديداً آخراً تلا بناء محمد عبد الحسين خان وهو بناء الشيخ محمد حسن النجفي صاحب (جواهر الكلام) فقد ورد في مقدمة كتاب جواهر الكلام ما نصه (ومن آثار الشيخ بناء مئذنة مسجد الكوفة وروضة مسلم بن عقيل وصحنها وسورها الذي لا يزال ماثلاً وكان ذلك ببذل ملك الهند أمجد علي شاه، وقد أرخ الشيخ إبراهيم آل صادق العاملي ذلك من قصيدة مدح بها الشيخ والملك هذا، فقال مؤرخاً للمئذنة في آخرها:

واستنار الأفق من مئذنة
أذن الله بان ترقى زحلْ
لهج الذاكر في تاريخها
علناً حيّ على خير العملْ
1260هـ(30)

(بعد نهاية الحكم العثماني ومجيء الحكم الوطني، أخذت وزارة الأوقاف العراقية تجري ميزانية للتعمير، وأزالت القاشاني الذي فوق القبة وكان متلفاً واستبدلوه بقاشاني جديد، وكان البناء آنذاك تحت أشراف الأسطة سعيد المعمار فبقيت القبة والضريح القديم إلى أن تبرع في عام 1374هـ جماعة من إيران بمرقد من العاج المزخرف الثمين وقد تحدث عنه المهندس المشرف (الحاج محمد صنيع خاتم) فقال: إن مرقد مسلم بن عقيل يعد فريداً من نوعه، يبلغ طوله (170سم وعرضه 80سم)،… ثم تبرع بعض شيعة الهند بضريح فضي جديد على شكل دائرة طول محيطه (685سم) وطول قطره (200سم) ووضع على المرقد الشريف وحملوا ضريح الصاحب عطاء الملك وأخيه إلى هانئ بن عروة، وحملوا ضريح هاني السابق إلى الهند، ولما وضع ظهر أنه غير لائق وصغير جداً فأعيد الضريح القديم لمرقد مسلم والضريح الهندي الجديد نصب على قبر هانئ)(31).

في عام 1385هـ وبإشراف المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم(قدس سره)، تبرع المحسن الوجيه الحاج محمد رشاد مرزه النجفي بتوسيع الحرم وتعليه قبة أول الشهداء حيث جعل القبة الخارجية داخلية ثم غلفها بقبة أخرى حيث ستعلو عن الأولى بـ(3 أمتار تقريباً)، أما الحرم فسيكون ذو ساحة مربعة محاطة بأربعة أواوين، طول ضلعها (10 وربع) ومساحتها (106م2) عدا مساحة الأواوين حين كانت المساحة (95 ونصف م2) أي بزيادة قدرها (11 متراً مربعاً تقريباً))، (كما تبرع بتذهيب القبة الخارجية الحاج محمد حسين رفيعي بهبهاني، من أهالي الكويت بعد أن تقدم بطلب إلى السيد الحكيم(قدس سره) فأجابه لذلك وكان الشروع بالعمل يوم 28 ربيع الأول سنة 1378هـ/5 تموز سنة 1967م، وقد طلب من المؤرخ الجليل الحجة السيد موسى بحر العلوم نظم قصيدة تكتب بالذهب على الكتيبة التي تطوق القبة المطهرة، وقد ذكر فيها السيد الحكيم والباذل محمد رفيعي وختمها بالتاريخ وهذا مطلعها:

لاحت كعين الشمس قبة مسلم
طوداً أشم من النضار القيم
شمخت بمارنها فلم تكد السما
تسمو لها ألا بنصب السلم
تبدو على قسماتها سمة الهدى
آيا من الرحمن للمتوسم
ثم يقول:
أمر (الحكيم) بها ومحكمة القضا
بخلاف ما يقضي به لم تحكم
فتسابق الفتيان في إخراجها
من مهدها والفضل للمتقدم
وجرى (محمد الرفيع) لغاية
تنحط عنها ساميات الأنجم
وأتى بها للناس قرة أعين
عن نورها بصر العدى عمداً عمي
من شمس أنوار الولاية أرخوا
(كالبدر أشرق نور قبة مسلم)
1391هـ (32)
وفي نفس العام شيد صحن يحيط بالحرم بمساعي وزارة الأوقاف، ولما كانت فكرة إنشاء ساعة خاصة بمرقد مسلم تراود الأفكار، فقد سعى السيد تقي الموسوي الخلخالي سنة 1388هـ بتنفيذ هذه الفكرة وقد تصدى لها الموفق الحاج توفيق الحاج حسين علاوي فقام بتشييدها إلا أنهالم تصنع من الذهب بل صنع جزؤها الأعلى من الذهب والباقي من القاشاني وقد أرخ عام التشييد السيد موسى بحر العلوم بقصيدة منها:

وتبرع (التوفيق) في تشييدها
فرداً بما لا تستطيع جماعه
وأشدت ذكراها فقلت مؤرخاً:
(يجلو القلوب جميل ذكر السّاعه)(33)

مرقد هانئ بن عروة
بما أن مرقد هانئ يقع في الصحن الخاص بمرقد مسلم بن عقيل فقد كان يُعّمر كلما جرت عملية التعمير أو التطوير لمرقد مسلم(عليه السلام)، رصدنا ونحن نبحث عما يتعلّق بمرقد هانئ ما نصه (وجد أخيراً في مصر جزء من ضريح خشبي، نقل إلى مصر وقد كتب عليه بأنه (صنع خصيصاً لقبر هانئ (الكوفة)، يعود تاريخه إلى الفترة الفاطمية)(34)، وهذا يدل على أن للفاطميين آثاراً في الكوفة ومنها هذا الصندوق، وقد نقل الأستاذ محمد سعيد الطريحي ما نصه: (إن الشاه صفي الأول زار النجف سنة 1042هـ، وأمر بشق نهر عميق عريض من حوالي الحلة إلى مسجد الكوفة وكمنه إلى الخورنق وكان هذا النهر يمر بمرقد هاني كما ظهرت عند عمارة هذا المرقد)(35)،

أي أن هناك نهراً كان يمر بمسجد الكوفة، وإن مرقد هاني يطل عليه.
وقد وصف القبر السيد علي الهاشمي بقوله: (ولهانئ بن عروة روضة مشيدة وعليها قبة شاهقة من القاشاني الأخضر، وقبره يقع خلف الجدار الشرقي لمسجد الكوفة، وقبلة قبره روضة مسلم بن عقيل بن أبي طالب رائد الحسين(عليه السلام)، وعليه قبّة من أجود القاشاني الأخضر ولا تقل حجماً قبة هاني عن قبة مسلم بن عقيل كما أنها لا تختلف عنها باللون ولا بالهندسة، وعلى قبر هانئ ضريح من الفضة، وكان قبلاً ضريحه من البرنج الأصفر)(36).

مرقد المختار
الظاهر أن دار المختار كانت ملاصقة لمسجد الكوفة حيث تنقل الرواية (ولما سقط جدار المسجد المتاخم لدار المختار بن أبي عبيد الثقفي على عهد يوسف بن عمر الثقفي بعد سنة 120 أعاد هذا الوالي بناء ذلك الجدار من جديد)(37) بمعنى أن المختار دُفن في داره بعد قتله، وقد قتل لأربع عشرة خلت من رمضان سنة 67هـ، فقد كان قبره معفى، ثم أكتشفه أخيراً آية الله السيد محمد مهدي بحر العلوم وذلك عام 1181هـ فقد وجد صخرة مكتوب عليها بالكتابة الكوفية (هذا قبر المختار بن أبي عبيد الثقفي الآخذ بثارات الحسين)، وجرى عليه عدة تعميرات،


(ويروى أن شيخ العراقين الشيخ عبد الحسين الطهراني لما يمم الأعتاب المقدسة في العراق ونهض بعمارتها في حدود 1285هـ فحص عن مرقد المختار في مناحي الكوفة ليجدد عمارته وكانت علامة قبره في صحن مسلم بن عقيل الملاصق بالجامع وفوقه دكه كبيرة فحفروها فظهرت علامات حمّام وبان بأنه ليس بقبره، فمحي الأثر ثم لم يزل الشيخ يفحص عنه فأنهي إليه عن العلامة الكبير السيد رضا بن السيد محمد مهدي بحر العلوم أن أباه كان اذا أجتاز على الزاوية الشرقية بجنب الحائط القبلي من مسجد الكوفة ـ حيث مثواه الآن ـ يقول لنقرأ سورة الفاتحة للمختار فيقرأها، فأمر الشيخ الطهراني بحفر الموضع، فظهرت صخرة منقوش عليها (هذا قبر المختار بن أبي عبيدة الثقفي) فعلم المكان قبراً له)(38)،

(وكان مدخل قبره في أوائل عصرنا من حجرة في زاوية المسجد الجنوبية الشرقية ، وفي أواخر عصرنا تصدى لإظهاره وتشييده الحاج محسن بن الحاج عبود شلاش الخفاجي النجفي، بإرشاد ودلالة من بعض المؤرخين والمنقبين من علماء النجف الأشرف، فانشأ له حرماً جديداً وألحقه برواق وحرم مسلم بن عقيل جنوباً، وجعل لقبره شباكاً حديداً، وسد باب الدهليز القديم من حجرة الزاوية في مسجد الكوفة)(39).

 

زيارتنا لمرقد مسلم
في السابع عشر من شهر شوال لعام 1428هـ قمنا بزيارة مرقد مسلم وهانئ، كان العمل لا زال جارياً في تهيئة وصب مساحات خرسانية في الصحن وكانت بوابة مسلم الرئيسية ومدخل مزار هانئ بن عروة مغلقتين بفعل الأعمار، دخلنا إلى مزار مسلم من خلال الباب الذهبية الجديدة التي تم فتحها مؤخراً من جهة مسجد الكوفة، والظاهر أن مرقد مسلم كان يطل ببوابته على المسجد، من خلال ثلاث مراقي يمكن الدّخول للحضرة الشريفة، يطل الصحن بمدخله على شارع متفرع من الشارع الرئيسي نجف ـ كوفة، تبلغ مساحة الصحن (5344م2)، يشكل مرقد مسلم ابن عقيل (620م2) من مساحة الصحن والمرقد عبارة عن باحة داخلية يتوسطها الضريح، وتحيط بجهاتها الثلاث،

ثلاث أروقة متصلة، فالرواق الأول يمكن الدخول إليه من البوابة الرئيسية التي تقع في الصحن، يقابلها مدخلين كبيرين خطت عليهما كتيبة من الكاشي الكربلائي الأزرق عليه أذن الدخول وزيارة مسلم. أما الضريح فهو صندوق خشبي يعلوه صندوق فضي تبلغ مساحته (19،6م2) وقد زينت جوانبه بباقات من الورود إضافة للثرية الجميلة التي تتدلى على الضريح، تعلو الضريح قبة مكسوة بالذهب يبلغ ارتفاعها (28م) فيما يقدر قطرها بـ(25م)، يبلغ عدد الطابوق المذهب (10415 طابوقة) طليت كل طابوقة منها بمقدار (2،5) مثقال من الذهب الخالص، تزدان الجدران الداخلية للمرقد بالمرايا المزججة المنقوشة بأجمل الزخارف العربية الإسلامية وقد عملت بأيدي السيد هاشم السيد جواد سنة 1390هـ، إضافة للمرايا فقد وضعت كتيبة تحيط بالمرقد خطت بالخط الكوفي بالآيات القرآنية كما غلفت الجدران بالمرمر، يبلغ عدد الأبواب التي يمكن الدخول من خلالها إلى المرقد أربعة أبواب كما نلاحظ ضمن الزخرفة أبيات شعرية موزعة بصورة هندسية جميلة تتغنى بمجد مسلم بن عقيل وشجاعته وبسالة المختار بن أبي عبيدة وقد أشترك ثلاث شعراء فيها هم (الشيخ أحمد الدجيلي والأستاذ عبد الغني الجابري والأستاذ حمودي الجابري)، كما كتب على لوحة من الجدار (جدد بناء حرم مسلم بن عقيل بن أبي طالب بتاريخ 1379هـ الموافق 1968م وتم تزيين الحرم بالمرايا والآيات القرآنية سنة 1390هـ الموافق لسنة 1970م، تقرب إلى الله ومرضاة لرسوله الحاج رشاد ناصر آل مرزة من أهالي النجف الأشرف في عهد سادن الروضة الحاج طعمة آل يس الكليدار)،

أما مرقد المختار فيقع في الزاوية الشرقية من المرقد وهو عبارة عن مساحة مستطيلة (14م2) تقريباً تطل على الرواق بثلاث شبابيك من الخشب، ويلاحظ الضريح الذي يتوسط هذه المساحة، كما تعلوه الزيارة الخاصة بالمختار.

أما قبر هانئ بن عروة قبال مرقد مسلم بن عقيل، يمكن الدخول إليه عن طريق الباب الرئيسية التي يمتد منها دهليز يفضي إلى الباحة المرقد وهو الذي وصفناه عند كلامنا عن مراحل الأعمار فيما يتعلق بالشباك الدائري الذي صنعه الهنود، تبلغ مساحة مرقد هانئ (150م2) فيما يعلو الضريح قبة مزدانة بالداخل بالكاشاني المزخرف ومن الخارج بالكاشي الأخضر حيث يبلغ قطرها (5م2) تقريباً وارتفاعها (8م2).

حملة الإعمار الواسعة المرتقبة
خلال زيارتنا للمرقد الطاهر التقينا بالسيد موسى السيد تقي الخلخالي الأمين لمسجد الكوفة والعتبات الملحقة به وقد أعطانا مشكوراً صورة واضحة عن حملة الأعمار التي بوشر بتنفيذها فقال (استلمت الأمانة الخاصة في شهر آب عام 2006م، فبدأت مباشرة بتقييم الوضع القائم في مسجد الكوفة عموماً ومزار مسلم بن عقيل خصوصاً لذا فقد تظافرت جهودنا على دعم مشاريع التطوير والتوسيع،

علماً أن وضع المزار عموماً لا يلبي حاجات الزائرين كما انه لا يتناسب مع شخصية كمسلم بن عقيل أول الشهداء، وعندما وجدنا أهل الخير قد ابدوا الرغبة الحقيقية للتبرع شرعنا بالعمل فقمنا بتبديل الزخارف المزججة التي يلاحظ تلفها، كما وضعنا خطة تتضمن تبديل شباك قبر المختار بن أبي عبيدة الذي سيكون من الفضة والذهب وجعل القبر يطل على جهتين بدلاً عن الجهة الواحدة وقد أكتمل من صنعه ما يقارب 70% كما باشرنا بصنع أبواب ذهبية لمرقد مسلم من جهة الرأس الشريف وأخرى من جهة النساء وكان المتبرعون عراقيين أما من جهة الرجلين فسوف يتم نصب باب فضية وقد تبرع بذلك رجل إيراني من أهل الإحسان كما تبرع آخرين بعمل قواطع خشبية بغية وضعها في المزار، وذلك لفصل الزائرين الرجال عن النساء،

كما وصلت نصف كمية من المرمر الأخضر وننتظر الباقي والغاية منها رصف المرقد المطهر بالمرمر الجديد، وحين سألناه عن أمكانية تبديل الشباك الموضوع على المرقد، أجابنا: نعم هناك من تبنى مسألة الشباك وقد وعدنا خيراً، أما عن المنارة الخاصة بمسلم(عليه السلام) فقد بوشر بإعادة ترميمها بالكامل على نفقة المحسن الحاج توفيق علاوي (الذي شيدها سنة 1968) وتتضمن مراحل الترميم، إكمال النواقص الموجودة فيها، تصليح الساعة، تبديل الزجاج، تغيير التأسيسات الكهربائية والإنارة وجلي قمتها الذهبية، كما تبرع أحد الأخوة العراقيين في إعادة تسليك ونصب الكهربائيات للمزار.

أما طائفة البهرة فقد تبرعت بإصلاح شبابيك المزار وفتحات التبريد (Ducts).
بالنسبة للأبواب الداخلية للمرقد التي تواجه الداخل للمرقد من جهة الصحن سيتم تغليفها بالذهب، أما الكتيبة القرآنية التي تحيط بالحرم فسيتم إكمالها بمجرد إكمال المرمر.

في النية أيضاً إضافة مساحات أخرى لصحن مسلم بن عقيل، أي بمعنى التوسع نحو الجهة الشرقية لأن الجهة الغربية للمرقد يحدها مسجد الكوفة المعظم، بحيث ستبلغ المساحة الإجمالية للصحن (12000م2) حيث سيتم إنشاء مكتبة ومؤسسة لأحياء التراث مع مؤسسة تعليمية تدرس العلوم باعتبارها إعادة الدور التاريخي العلمي الخالد لمسجد الكوفة.

بالنسبة لمرقد هانئ بن عقيل سيتم تغييره بالكامل حيث أعددنا الخرائط والتصاميم وسوف نباشر العمل عن قريب أنشاء الله تعالى، وعليه ستبلغ مساحة مرقد هانئ (825م2) بعدما كانت (150م2).

جهود حثيثة تسعى لإعمار هذه البقاع المباركة المطهرة، التي تضمن ثراها نفوس أبيّة كتب لها الخلود فكانت هي والفناء على طرفي نقيض.

نشرت في العدد 21


(1) مقدمة كتاب نهج البلاغة، شرح محمد عبده.
(2) المظفر، سفير الحسين مسلم بن عقيل ص13.
(3) المصدر السابق ص12.
(4) الصدوق، الأمالي ص78.
(5) المعارف ص88.
(6) المقرم، مسلم بن عقيل ص42.
(7) الاصفهاني، مقاتل الطالبيين.
(8) التاريخ الكبير 7/266.
(9) المقرم، مسلم بن عقيل ص154.
(10) الخوارزمي، مقتل الحسين 1/195.
(11) المصدر السابق 1/196.
(12) ما قبل عاشوراء ص165.
(13) الطبري، تاريخ 4/264.
(14) الإمام الحسين، عملاق الفكر الثوري ص33.
(15) الأسدي، ما قبل عاشوراء ص189.
(16) الطبري، تاريخ 6/224.
(17) البلاذري، انساب الأشراف ق1/ج1.
(18) الأسدي، ما قبل عاشوراء ص214.
(19) المجلسي، بحار الأنوار 44/356.
(20) الجبوري، مزارات الكوفة ص44.
(21) المصدر السابق ص45.
(22) المصدر السابق، ص44.
(23) الجبوري،تاريخ الكوفة الحديث،1/99.
(24) المصدر السابق 1/99.
(25) العمري، رحلة نيبور وما بعدها ص84.
(26) الجبوري، مزارات الكوفة ص46.
(27) مراقد المعارف 2/307
(28) تاريخ الكوفة ص98.
(29) مراقد المعارف، 2/ 310.
(30) جواهر الكلام 1/ 21.
(31) الجبوري، تاريخ الكوفة الحديث،1/100_106، بتصرف.
(32) حرز الدين، معارف الرجال 2/311.
(33) الجبوري، تاريخ الكوفة الحديث، 1/100ـ106، بتصرف.
(34) المشهدي، فضل الكوفة ومساجدها ص87.
(35) العتبات المقدسة في الكوفة ص33.
(36) تاريخ من دفن في العراق من الصحابة ص542.
(37) البلاذري، أنساب الأشراف 4/ ق2 ص28.
(38) الجبوري، تاريخ الكوفة 12/106.
(39) حرز الدين، معارف الرجال 2/314.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.