Take a fresh look at your lifestyle.

الانحصار الديني.. موقفنـا

0 700

                الأندية الفكرية في بلداننا أثارت أطروحة الانحصار أو التكثر الديني واختلفت الرؤى فيها. فأردنا أن نطل عليها لنرى كنهها ومكنونها فانكشف لثامها وإذا هي ذات مفاهيم مختلفة فأي منها مدار النظر والخلاف.

المعنى الأول
التكثر الديني يعني التعايش السلمي في المجتمع الواحد ذي الأطياف المتعددة واحترام حقوق الأقلية الدينية والاعتراف بالآخر فالدعوة قائمة على أساس نبذ انحصار حق الحياة لثلة وإيجاد الحلول لتأمين تعايش الجميع تحت السقف الواحد وتقنين آليات لسد باب الإرهاب الديني والحروب وتسجيل الحقوق للأقلية أيضاً فلها حق العلم والإعلام والعمل والملكية والحرية والانتخاب وممارسة الطقوس الدينية وصون دمها وعرضها ومالها.

وهذا المعنى مسجل وممضى في السجل الإسلامي على صعيد القانون والتطبيق فقد ورد في الكتاب المبين: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا) بل التعايش شمل الدائرة الأوسع في منطق القرآن (لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) فشمل البر والقسط وشمل الكافر.

وفي النهج (واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم لا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) بل قد سجل أمير الساجدينَ(عليه السلام) في رسالة الحقوق أروع الصور نعم هذه الحقوق ليست منفلتة بل متزنة ضمن منظومة التوازن العام الاجتماعي والمشرّع لها على أساس فقه التزاحم وليس على صعيد التعايش التطبيقي.

ففي الرسائل باب أن نفقة النصراني إذا كبر وعجز عن الكسب من بيت المال قال مر شيخ مكفوف كبير يسأل فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين نصراني. فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه أنفقوا عليه من بيت المال. وهذا المعنى وإن كان شيق الحديث إلا أنه ليس المرمى الذي نهدف إليه، أجل من أهم مقومات التعايش السلمي فتح أفق حوار الحضارات (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ).

المعنى الثاني
الكثرة هي أن الحق في كل دين موجود ولا تنافي حاد بين الأديان فلا نرتضي أن الدين اللاحق ناسخ تام للسابق فمتحدات القيم والخلق والرؤى حاصلة وهذا المعنى أيضاً كسابقه محفوظ في صفحات التاريخ الإسلامي وليس من المستورد الغربي لمجتمعنا وقد نادى الكتاب العزيز بذلك (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا).

المعنى الثالث
حديث النجاة والعذاب الأخروي بدعوى انحصار النجاة والفوز بالجنة بفرقة واحدة وسائر الفرق مخلدة في العذاب وميزان النجاة عندهم مختلف، إما معيار العقيدة وإما معيار العمل وإما معاً ففريق يرى أن الاعتقاد بمذهب خاص كاف في النجاة البعدية وإن لم يصاحبه العمل الصالح وفريق يعتقد أن العمل والإنجازات العلمية والخدمية للبشر هي رائدة الحركة الأخروية وفريق ثالث يعتقد بقيمة العقيدة والعمل على أساس أن التفاضل بالعقيدة والعمل مثبت له إليه يصعد الكلم الطيب والعقيدة والعمل الصالح يرفعه أو معكوساً أو معاً وكيفما كان فالحديث فيه مهم، لكن أجبني عن كلامنا الحالي مضافاً إلى أن الإسلام ألقى بظلاله عليه وأفتى بأن القدر المتيقن من المخلد هو الكافر وأما غيره فهو يعذب لكن لا يكون مخلداً أو يعيش في وسطية لا جنة ولا نار إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً والمستضعفون هم:

1ـ الناس الذين لا يمكن لهم تعلم الدين.
2ـ الذين لم يصل صوت الحق إليهم.
3ـ الناس ضعيفو الفكر.
والأقوال متكثرة والروايات هي كلمة الفصل وقد أشبع العلماء هذا فنحن في غنى عن ذلك بعدما لم يكن هو المقصود.

المعنى الرابع
جورج جرداق وجبران خليل جبران يميلان إلى هذا المعنى وهو الاكتفاء بالإيمان بالله والمهم هو التوحيد الأمر المركزي في الدين والأصيل وأما ما سواه فهو اعتباري وثانوي ولذا يمكن في العصر الواحد حقانية أكثر من دين وهذا يعني تعدد الحق والأديان وخلود الجميع ويكون الإنسان مخيراً في الانتخاب فالأمر الملزم الإيمان بالله والانتساب إليه بأي وسيلة وسبيل.

فلا أهمية للأحكام الشرعية وتفاصيل الشريعة نظير القول بأن الغاية من الكسوة هو الستر وتعدد الأزياء لا يضر بعد تحقق الغرض والهدف فلا معنى لدعوى أرجحية ثوب وزي على آخر.
لكن أقول:

1ـ مسألة انحصار الدين وتعدده ليس بالأمر الفلسفي الذي يصار إليه بمعزل عن النصوص الدينية بل هو أمر تابع للوحي يعرف بالرجوع إلى أصحاب الشرائع وسيأتي موقف الشريعة من هذا.

2ـ هذه النظرية مفادها تعدد الحق بل ولو كان متضاداً حيث ترى بحقانية جميع الأديان وإن كانت متضادة (كالتوحيد والتثليث) (الحير والاختيار) وسيأتي منا رفض فكرة تعدد الواقع.

3ـ هذه النظرية في الوقت الذي اعترفت بتعدد الأديان لم تبين فلسفة هذا التعدد ولماذا الشارع أرسل الأنبياء بعدما كان ما سوى الإيمان بالله أمر اعتباري لا قيمة له بل لنا أن نقول لا حاجة إلى بعث الأنبياء لأن الإيمان والاعتقاد بوجود خالق أمر فطري ودور الأنبياء بناءً على هذه النظرية محض تبليغ هذا الأمر الفطري.

نعم بناءً على المختار من وحدانية الحق والدين أن منشأ تعدد الشرائع هو التكامل البشري فإن الشريعة وإن كانت في ظرفها هي الأكمل (إذ يستحيل صدور الناقص من الله) ولكن بحسب التدرج في التشريع فالأكمل هو المتأخر والعقل حاكم بالعودة إلى الأفضل والإسلام قد حظى بالخاتمية لأنه الأكمل من حيث التشريع فله الصلاحية في الاستجابة لمتطلبات الناس إلى يوم البعث وكمال التشريع لا يستدعي كمال الأمة نعم في عصر الظهور ستصل الأمة إلى كمالها.

4ـ لو قلنا بهذه النظرية لم يكن معنى من دعوى القرآن أصحاب الكتب السماوية ونعتهم بالكفر إن لم يؤمنوا بالإسلام (فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ).

5ـ لازم القول بهذه النظرية خالدية جميع الأديان والمذاهب ولازمية خلود شريعة معينة يستدعي لغوية التشريع البعدي وخلود الشريعة القبلية يمنع نسخ أحكامها من الشريعة اللاحقة ولو بصورة إجمالية وقد نطق القرآن بالنسخ الإجمالي (وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ).

المعنى الخامس
الظاهر أن هذا المعنى هو مثار الحديث والمستورد من الثقافة الغربية وهو أن الدين حقيقة واحدة وهي إشراقات الأنبياء وارتباطاتهم مع الله بلا واسطة وتسمى هذه الخطوة بالتجربة الدينية وهي فاردة وثابتة عند جميع الأنبياء لكن هذه الواقعية الواحدة حينما تتنزل على لسان النبي(صلى الله عليه وآله) بعد اختمارها في ذهنه تتكثر فتكثر الديانات وليد اجتهاد النبي(صلى الله عليه وآله) وخطابه إذ إن كل من البيان والوجود الذهني يتأثر بعوامل كثقافة المجتمع وحضاراته وتاريخه والخلفية الفكرية والعادات الاجتماعية والحالة الجسمانية والنفسية للنبي(صلى الله عليه وآله) وهكذا خصوصية لغة الحوار عنده فبسبب هذه العناصر تنشأ ظاهرة تكثر الأديان هذا هو منشأ الكثرة أما حقيقة الدين فله لب وله قشور والأول هو الذي يهتم بتحويل شخصية الإنسان إلى إنسان موحد للحفاظ على اللب ولا عناية لصدقها وكذبها وتضادها.

وممن اختار هذه النظرية (جان هيك) المسيحي في كتابه (فلسفة الدين) وقد ردّ على هذه الدكتور عبد الكريم سروش في كتابه (الصراطات المستقيمة) وقد استعان الأخير بمجموعة من الأشعار والقصص والتشبيهات السطحية لإثبات مطلوبه فشبه المقام بلمس مجموعة من العميان في غرفة لفيل لم يتبطوا به إلى حد الآن وقد لمس كل أعمى جانب من الفيل فلمس الأول رجل الفيل وقال في تعريفه لهذا الحيوان إنه أسطوانة كبيرة حية ولمس الثاني خرطومه وقال الفيل ثعبان عظيم الجثة ولمس الثالث زاوية أخرى وعرّفه بحسب تلك الزاوية فحقيقة الفيل واحدة ولكن إدراكهم لها مختلف بسبب اختلاف الزاوية المدركة.

فمقامنا أيضاً كذلك إذ أن الحقيقة واحدة ولكن الأنبياء نظروا إليها من زوايا ثلاثة فنشأت عندنا ثلاث ديانات وتبتني هذه النظرية

على مجموعة من الدعائم والركائز:

الركيزة الأولى: النظرية المعرفية النسبية لـ(كانت) وحاصلها أنها تذعن بوجود واقعي خارجي واحد إلا أن الذهن الذي هو السبيل الوحيد لكشف الواقع عاجز عن معرفة الواقع بل الصورة الذهنية المصنوعة تتأثر بعوامل عديدة ولا خصوصية لذهن النبي(صلى الله عليه وآله) فهو أيضاً محكوم بهذه المعادلة الفسيولوجية وهكذا ترجمة الموروث الذهني وبيانه إلى الآخرين أيضاً وهي عوامل أيضاً متعددة.

فتلخص أنهم يرون الشيء في هيئته غير الشيء عندنا والعجز عن الوصول إلى الواقعية وقناة الحس مع عناصر مختلفة تصنع الصور الذهنية.

الركيزة الثانية: اللغة الدينية وخطابها لا يحكي عن الواقع ولا يقع بنحو القضية الخبرية وبالتالي تفقد القضية الدينية قطعيتها وتصبح خالية المحتوى وتكون أشبه ببيان الشعر والخيال ويكون دور الخطاب تحريك الأحاسيس لا بيان الواقع وأما علل مصير لغة الدين بهذا السبك هو حل مشكلة التعارض بين العلم والدين فالكتب المقدسة ليست ناظرة إلى الواقع وبعيدة عن المحتوى الخبري ولذا يكون الخطاب تخييلي.

الركيزة الثالثة: الأديان حتى المتضادة منها يشترك أتباعها في الحفاظ على اللب والجوهر وإن اختلفوا في القشر في طريق السلامة والهداية.

الركيزة الرابعة: تفسير الوحي هو شهود الأنبياء من دون واسطة والخطابات في البعد العقائدي الاخباري أو البعد الشرعي والأخلاقي الإنساني ما هو إلا استنباط الأنبياء وهكذا ألفاظ ليست صادرة من قبل الله بل هي ألفاظ النبي(صلى الله عليه وآله) وهكذا تفسير النبي عندهم ما هو إلا بشر في البعد الذهني واللفظي.

الركيزة الخامسة: لا أرجحية لدين على آخر ولا قداسة في البين وبهذه الركيزة يمكن الدخول في معالم المدرسة الليبرالية.

الركيزة السادسة: الأخلاق والأحكام أمور اعتبارية محضة وفاقدة لنفس أمريتها وهو مبنى التصويب الاشعري في عالم الأحكام والأخلاق ثم أن من الواضح أن هذه النظرية تحمل أهداف معينة من قبيل إيجاد الصلح الكامل بين الأديان والمذاهب وتضعيف الجانب السماوي وفتح باب الليبرالية الفكرية واستصغار شأن الأحكام والأخلاق ودفع المؤاخذات على الكتب السماوية الحاملة لقضايا منفرة وممانعة مع العقل.

ويرد هذه النظرية إبطال جميع الركائز:
أما الأولى فإن مآل هذه النظرية إلى السفسطة وقد بحثت مفاسدها في نظرية المعرفة بل الأزمة في الفكر الغربي تخبطهم المعرفي ومفتاح حل كثير من الأزمات الفكرية بتنقيح معالم نظرية المعرفة.

أما الثانية فإن الفكر المسيحي يحتاج إلى حمل الخطاب الديني على التخييل للتعارض عنده بين الخطاب والعلم وهذا الإشكال لا يسجل على الخطاب الإسلامي لعدم التنافي فإن العلم يتحرك في الأفق العرضي أي يبحث عن فائدة الظاهرة الكونية وكيفية الأستفادة منها أما الدين فيسير في الأفق الطولي أي يبحث عن العلل لهذه الظاهرة. وسيأتي في أبحاث قادمة الحديث.

أما الثالثة فنحن وإن نسلم أن هناك فرقاً بين الدين والشريعة وكون حقيقة الدين على مسد الطريق هي واحدة والأنبياء بلغوا هذه الحقيقة الواحدة ومن هنا جاء لفظ الدين في الاستعمالات القرآنية بصيغة المفرد لا الجمع وأهم خصوصيات الدين كونه ثابتاً وقيماً وفطرياً (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ) ومضمون الدين هو العبادة.

إلا أن الشرائع متعددة والمراد منها مسؤولية الإنسان في فضاء الأحكام والأخلاق أمام الخالق واختلاف الشرائع إنما يكون بسبب اختلاف استعداد الأمة (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) لكن نقول: الشريعة لا يعني القسر وعدم الأهمية ولا يعني أن الشريعة غير قابلة للصدق والكذب بل هي من الأمور الواقعية النفس الأمرية لا من الجزاف والاعتبار.

أما الرابعة فتفسير الوحي بالمعنى الذي تبناه صاحب القول يصطدم مع صريح القرآن (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)، (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)، (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ).
أما الخامسة فلاشك في أن الإسلام هو الشريعة الخاتمة والإسلام هو التشريع الأكمل والعقل والفطرة والقرآن يدعو إلى الأكمل فعليه كيف لا تكون شريعة أرجح من شريعة.

أما السادسة فقد اتضح من رد الركيزة الثالثة أن الأحكام من الأمور الواقعية ولها مبادئ كونية من المصالح والمفاسد هذا مجمل المناقشة للمباني ومن لوازم هذا القول عدم ثبات وقطعية أي أمر (تعدد الصراط المستقيم) التي ومن العجيب أن يتبنى صاحب هذا القول نظرية تتعارض مع صريح القرآن (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)، (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) .

نشرت في العدد 21

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.