المُتتبع لمصادر التراث العلمي الإسلامي سَيَلفِتُ نَظَرَهُ ـ بين هذا الركام الهائل من التراث ـ كمٌ هائل من التُراث الفلكي الإسلامي. وسيعثر على المزيد من الكُتب الفلكية والأزياج (الجداول الفلكية) والآلات الفلكية المتنوعة. وعلى الرغم من أن الكثير منها ضاع أو تلف. إلاّ أن الموجود الباقي ـ خاصة بعد عمليات الإهتمام والمتابعة ـ ليس قليلاً. إن نظرة فاحصة إلى الكُتُب التي سجَّلت هذه المصادر الفلكية، ككتاب الفهرست لإبن النديم، وأخبار الحكماء للقفطي، وكشف الظنون لحاجي خليفة، وغيرها،
تكشف الكم الهائل لهذا التراث الفلكي العظيم. ونظرة فاحصة أخرى إلى الفهارس والقوائم التي سجلت المتوافر منه في المكتبات والمتاحف والقصور الخاصة، تدُلّ على أن الموجود الباقي من هذا التراث ليس قليلاً. فهُناك مثلاً المزيد من الكُتُب التي وصلت إلينا في الإسطرلاب، والمزيد من المخطوطات في الأزياج، والمزيد من الكُتُب الفلكية العامة في موضوعاته المختلفة. والخاصة في موضوع معين.
التراث العلمي.. مُهمَل
إنه مُهمَل فعلاً، ومظلوم أيضاً. ليس في الوقت الحاضر فحسب، وإنما مُنذ القدم، مُنذ وضع اليونانيون المادة العلميّة في درجة أدنى من المادة الفلسفية والفكرية. فقد ورد أنه كان في الإسكندرية مجمعٌ للحُكماء وبها كانت معاريجهم مثل الدرج، يجلس عليها الحكماء على طبقاتهم، فكان أوضعهم علماً الذي يعمل الكيمياء، فإن موضعه كان على الدرجة السُفلى(1).
فالكيمياء علمٌ أو صنعة يدوية، وليست فكرية. وبذا وُضع المشتغل بها على الدرجة السفلى في مراتب العلوم، ومثلها كان الطب والهندسة والحيل (الميكانيك)… كانت هذه علوماً غير مرغوب فيها. في حين كان المشتغل بالفلسفة والفكر يحتل مكاناً مرموقاً. وقد انتقل بعض هذا المزاج وهذا التفكير إلى الحضارة الإسلامية. بانتقال أرسطو وأفلاطون وغيرهما، إلى الثقافة الإسلامية. فكان الإنتاج الفكري والأدبي والشعري أهم وأغزر من الإنتاج العلمي، الذي يهتم بالعلوم الطبيعية والرياضية وأشباههما. ففي تأريخنا الحضاري، تجد المفكرين النظريين والأُدباء والشُعراء أكثر بكثير من العُلماء.
من الفيزيائيين والكيميائيين والأطباء والمهندسين والرياضيين. وإثبات ذلك ليس صعباً، فنظرة سريعة إلى الكُتُب الكثيرة المؤلفة في الفكر والأدب والشعر، وما حظيت به من اهتمام، تؤكد هذا المعنى، فأسماء الشُعراء والأدباء أكثر من أن تُحصى، فهُناك المتنبي وأبو تمام والبحتري وأبو فراس وابن الرومي والشريف الرضي وأبو العلاء المعري وابن المعتز، وهُناك من الأدباء والنقاد، الجاحظ وابن العميد ومُحمّد بن سلام وأبو هلال العسكري وأبو الفرج الأصبهاني وابن قُتيبة وغيرهم الكثير الكثير.
وفي مقابل ذلك كان العلم والعُلماء، كانت الفيزياء وعُلماء الفيزياء، والكيمياء وعُلماء الكيمياء، والطب والأطباء، والزراعة وعُلماء الزراعة، والهندسة والمهندسون، وعلوم أخرى وعُلماء آخرون (وإن كان الطابع الموسوعي يغلب عليهم)، كانت هذه العلوم وأمثالها كثيرة وذات مُستوى مُتقدّم جداً قياساً إلى عصرها. الخالي من الأجهزة العلمية المتطورة. ولكنها قليلة ومحدودة قياساً إلى الفكر والأدب والشعر. إن هذا القليل كثيرٌ جداً… ومُهم جداً أيضاً. إن الإنجازات العلمية التي قدمتها الحضارةُ الإسلامية عظيمة وذات مُستوى إبداعي مشهود، وخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار المادة العلمية الشاحبة والمريضة التي أفرزتها العصور الأوربية الوُسطى وما قبلها كالعصر اليوناني الذهبي، فعلى أهمية ما قدّمهُ اليونانيون من مادة فكرية وفلسفية، كانت إنجازاتهم في مجال العلم والتكنولوجيا محدودة، كان أرسطو قياسياً تأمّلياً، وكان أفلاطون مثالياً خيالياً، وحتى (بطليموس القلوذي) صاحب النظرية الفلكية الضخمة (مركزية الأرض) لم يكُن راصداً ميدانياً من الدرجة الأولى، وإنّما أقام نظريته في الدرجة الأولى على الفكر والرياضيات والتأمل والاستنتاج مع اعتماده على الأرصاد والملاحظات الموروثة والشخصية.
لقد قدّمت الحضارة الإسلامية مادة علمية دسمة جداً، حتى ليصحّ وصفها (أي الحضارة) بالعلمية أكثر من وصفها بالفكرية والشعرية والأدبية لقد كان المنهج العلمي الذي استخدمه المسلمون في دراسة المادة العلمية أروع اكتشاف حققتهُ الحضارة الإسلامية، فقد استخدم جابر بن حيان، وأبو الريحان البيروني وابن الهيثم وغيرهم هذا المنهج، وقدّموا من خلاله أروع الإنجازات العلمية، ولسنا في صدد تعداد تلك الإنجازات والإبداعات، ويكفي أن نذكُر ما قالهُ ابن الهيثم المتوفى سنة 432 هـ حول مراحل المنهج العلمي وطريقة البحث، قال: (ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات. وتصفّح أحوال المبصرات. ونُميّز خواص الجزئيات. ونلتقط بالاستقراء ما يخُصُّ البصر في حال الإبصار، وما هو مُطرد لا يتغيّر وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس.
ثُم نترقّى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا إتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نُميّزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء، فلعلّنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج الصدر ونصل بالتدريج والتلطّف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف وتنحسم بها مواد الشُبهات وما نحنُ، مع جميع ذلك، براء ممّا هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية. ولكننا نجتهد بقدر ما هو لنا من القوة الإنسانية. ومن الله نستمد المعونة في جميع الأمور)(2).
وبهذا المنهج وهذه الطريقة، أنجز المسلمون إنجازات علمية كُبرى في الفلك والبصريات والطب والكيمياء والهندسة وغيرها. ويُمكن مُراجعة هذه الإنجازات من خلال الدراسات والبحوث التي أوجزتها المراجع الحديثة في تواريخ العلوم(3)
.
وحول الإنجازات التي قدمها المسلمون من خلال هذا المنهج يذكُر (غوستاف لوبون): (ونشأ عن منهاج العرب التجريبي وصولهم إلى اكتشافات مُهمّة، فسترى من مباحثنا في أعمال العرب العلمية أنهُم بالحقيقة أنجزوا في ثلاثة قرون أو أربعة قرون من الاكتشافات ما يزيد على ما حققهُ الإغريق في زمن أطول من ذلك كثيراً)(4).
من هُنا نتساءل، كم وفى الحاضرون لتُراثهم العلمي؟ هل استطاعوا أن يُقدّموه مادةً علمية مُثيرة تفتح شهيّة الإنسان المسلم ليُعيد أمجاد البيروني، والبتّاني وابن الهيثم والرازي وأمثالهم؟ هل بعث الحاضرون تُراث أجدادهم العلمي ليُباهوا به الأمم العلمية المتقدمة. ويجعلوه مُحفزاً ودافعاً للتطور والتقدم، في عصر أصبحت السيادة فيه
للعلم؟!.
الحقيقة إن الحاضرين، لم يوفّوا التراث العلمي حق قدره، فلا زال المُسلم يجهل الكثير من تُراثه العلمي، ولازالت كنوزهُ ميّتة داخل جُدران المكتبات والمتاحف، والذي حقّق ونُشر منهُ عدد محدود ، على الرغم من الاهتمام الجاد، الذي توافرت عليه معاهد ومؤسسات حديثة. في حين حظي التُراث الأدبي والشعري بكثير من الاهتمام،
قياساً إلى التُراث العلمي. فقد طبعت ونشرت دواوين كثيرة وكُتُب أدبية تُراثية جمّة، علماً أن قيمة هذه الأخيرة، ليست بالضرورة أكبر من قيمة التراث العلمي، وخاصّة في عصرنا الحاضر عصر العلم والتكنولوجيا. والحق يُقال، إن المُستشرقين (على تنوعهُم واختلاف أهدافهُم) سبقونا في هذا المضمار، فقد بدأوا قبلنا بكثير،
بنقل هذا التُراث إلى لُغاتهم، ونشر الكثير من مخطوطاته. ووضع فهارس مُتنوعة لهُ، وكتابة دراسات وبحوث عديدة حولهُ، وكشف المزيد من المادة العلمية التي احتضنتها مصادره. ممّا مهدوا الطريق (من حيث يريدون أو لا يريدون) أمام الباحثين والمُسلمين، حيث نشأ جيل من العُلماء والباحثين ـ والحمد لله ـ نشروا كثيراً من مخطوطاته. ووضعوا العديد من البحوث والدراسات الجادّة في حقوله المُختلفة. وأنشأت بعض المعاهد والمؤسسات،
أخذت على عاتقها نشر مخطوطاته وكتابة دراسات حوله. ويقع في طليعة هذه المراكز، معهد التراث العلمي العربي الذي أنشأتهُ جامعة حلب في السبعينيات من القرن الماضي.
إن التُراث العلمي الإسلامي، بكُل أنواعه وفروعه مظلوم. بسبب عدم وجود الأيدي الخبيرة الكافية التي تقدّمه في إطار جديد، على مُستوى الشكل والمضمون، حتى يستطيع الباحث والقارئ العادي دراسته وفهمه بشكله الصحيح.
الكم الهائل من التُراث الفلكي
التراث الفلكي الإسلامي، جُزءٌ من التُراث العلمي الضخم الذي قدمتهُ الحضارة الإسلامية إلى العالم. وقد صنعت هذا التراث الكبير عوامل عديدة، ليس مجال استعراضها ودراستها في هذا الموضوع المحدد. الذي يهمّنا هُنا، هو التراث الفلكي وحدهُ، يهمّنا لأنهُ كم هائل جداً، وجُزء مُهم جداً، بين التراث العلمي الضخم، وقد وَصَلنا منهُ الكثير، على الرغم من وصول أنواع أخرى من التراث العلمي، حتى أن الناقلين أو المترجمين لمجمل التراث، جعلوا التراث الفلكي والطبي في أولويات نقولهم. فكانت النقولات الأولى من تُراثنا الإسلامي، فلكيّة وطبية. فقد كانت طلائع الترجمات اللاّتينية عن المصادر العربية ترجمات فلكية. فنقل (جربردي أورلياك) (938م ـ 1003م) عدداً من الكُتب الفلكية والرياضية ونشر الأعداد العربية في أوربا، وترجم بعض الكُتُب الرياضية والفلكية، كالزيج المنصوري، ولهُ دراسة عن إقليدس باللّغة العربية(5).
أما (أدلرد أُف باث) (1070 ـ 1135م) فقد ترجم كُتباً وافرة في الفلك، أشهرها زيج الخوارزمي بتنقيح المجريطي وأربعة كُتُب لأبي معشر البلخي بمُعاونة (يوحنا الأشبيلي) (مُنتصف القرن الثاني عشر الميلادي) ومثله هذا الأخير، فقد ترجم رسالةً في الإسطرلاب للمجريطي، والمدخل إلى علم هيئة الأفلاك للفرغاني، والموجز في الفلك للفرغاني أيضاً(6). ومثلهُ (جرار دي كريمونا) (1114 ـ 1187م) حيث ترجم المجسطي (العربي). وكتاب الهيئة في إصلاح المجسطي، وتسعة كُتُب لجابر بن أفلح. والزيج الطليطلي(7). هذه نماذج من الترجمات الأولى لتُراثنا الفلكي.. وهي قليل من كثير لا مجال لذكرها هُنا. وتدلّ فيما تدلّ على أن تُراث العُلماء المسلمين في هذا الحقل كثير. وبين أيدينا ـ اليوم ـ أسماء كثيرة جداً من كُتب التراث الفلكي. ومُراجعة سريعة لفهرست إبن النديم. وتأريخ الحكماء للقفطي وحدهُما كافية جداً لإدراك الكم الهائل من التُراث الفلكي، الذي خلّفه الأجداد. أما الباقي المتوافر بين أيدينا، وإن كان قليلاً، قياساً إلى أصل التُراث الفلكي الموروث،
إلاّ أنهُ ليس قليلاً في حقل واحد من حقول العلم. ومن أمهات الكُتب الفلكية التي بين أيدينا، ترجمات المجسطي وشروحه وتفسيراته وتلخيصاته، وما جرى على منواله، كالقانون المسعودي للبيروني، وعلم الهيئة من شفاء ابن سينا. والمجسطي لأبي الوفاء البوزجاني. وإصلاح المجسطي لجابر بن أفلح، وتحرير المجسطي لنصير الدين الطوسي. وغيرها من كُتُب الفلك ككتاب التذكرة لنصير الدين الطوسي وصور الكواكب الثماني والأربعين للصوفي، ونهاية الإدراك في دراية الأفلاك لقُطب الدين الشيرازي. والهيئة لمؤيد الدين العرضي. وعدد من الأزياج ولاسيما الزيج الصابي للبتّاني والزيج الإيلخاني لنصير الدين الطوسي وزيج أولغ بك لالغ بك، وعدد من كُتُب الإسطرلاب.
وعدد من كُتُب الآلات الفلكية، ككتاب كيفية الإرصاد لمؤيد الدين العرضي وغيره. والكثير الكثير مما يطول تعداده. وهذه المصادر بين مطبوع ومخطوط، وفي فهارس المخطوطات، وخاصة تلك التي تتعلق بالتراث العلمي، مزيد من أسماء الكُتُب الفلكية الموجودة في أماكن مُختلفة من العالم.
ولكن ما هي أسباب وفرة هذا التراث الفلكي، المفقود، والموجود حالياً؟ السبب العام، هو النقلة الحضارية التي أوجدها الدين الإسلامي الحنيف. فقد خلق هذا الدين حضارة إنسانية وعلمية لم تكُن من قبل، فاقت كُل الحضارات السابقة بما فيها الحضارة اليونانية العريقة التي قدّمت الكثير من التراث العلمي للحضارة الإسلامية.
لقد كان القرآن الكريم في طليعة العوامل والأسباب التي ساهمت في نموّ علم الفلك وتطوّره، وبالتالي في الكم الهائل من التأليفات الفلكية. فالقُرآن بما حمل من معان حضارية جديدة، لعب دوراً تغييرياً كبيراً، وعلى مُختلف الصُعُد، لذلك يُمكن اعتباره أصلاً وأباً لعدد من العوامل، ساهمت في الاندفاعة السريعة نحو العلم بشكل عام، وتطوّر علم الفلك بشكل خاص(8). فقد استثار العقول ودفعها نحو طراز جديد من التفكير، دفعها إلى طلب العلم وإلتماسه من مظانّـه. والشواهد القُرآنية في هذا المجال كثيرة منها قوله تعالى: (وقُل ربّي زُدني عِلماً)(9).
وقوله تعالى: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(10). وغيرهما من الآيات، وهُناك أحاديث نبويّة كثيرة في هذا المجال أيضاً. بل وتعدى القُرآن ذلك إلى التأكيد على النظر في الكون والسماء وما خلق الله فيهما. قال عز وجل: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج)(11) وقال أيضاً: (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء)(12). ونبّه القرآن إلى أمور فلكية كثيرة كقوله عز من قائل: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلٌ في فلك يسبحون)(13).
ولم يكُن الحث على النظر إلى السماء والتفكّر فيها وحدهُ حافزاً لتتبع السماء وأجرامها وأخبارها، وإنّما استجدت حاجة علمية مُهمّة، وهي: ضرورة ضبط بعض المفردات الدينية التي أمر بها القرآن، ولا يتم ضبطها وأحكامها إلاّ بمُتابعة فلكية جادة.
فقد وردت في القرآن الكريم مُفردات دينيّة أو عدد من الأحكام الشرعية الإسلامية، ترتبط بشكل مُباشر بالشمس أو القمر أو بظواهر كونية أخرى، وبدون التحرّي الكافي والتدقيق اللاّزم عن سلوك هذين الجرمين وبعض الظواهر الكونية الأخرى لا يُمكن أداء تلك الأحكام بشكلها الشرعي الصحيح، لذلك كان لزاماً على المسلم ـ لتلافي الوقوع في الحرام ـ مُتابعة السماء ومعرفة عدد من الأمور الفلكية الضرورية. فالصلاة، ترتبط بشكل مُباشر بطلوع الشمس وغروبها، وتختلف أوقاتها من بلد إلى آخر، ومن يوم إلى يوم. وعلى هذا الأساس يجب على المُسلم أن يعرف عرض البلد الجغرافي وحركة الشمس في فلك البروج وأحوال الشفق الأساسية، إضافة إلى اتجاه القبلة.
وهُناك صلوات الخسوف والكسوف وصلاة الآيات، ومن وجوب الصلاة يحصل حسن التأهب لها قبيل انكساف الشمس أو انخساف القمر. فلا يُمكن ذلك إلاّ بمعرفة حساب حركة الشمس والقمر واستخدام الجداول الفلكية اللاّزمة. وهُناك مُشكلة ابتداء الصوم وانتهائه ومُشكلة ثبوت عيد الفطر وعيد الأضحى.
إن هذه الأمور تستدعي ـ في أحيان كثيرة ـ بعض الناس لتتبّع تلك الظواهر ودراستها ومعرفة أسبابها وكُل ما يتعلق بها. من هُنا انبرى عدد من الناس إلى دراسة الفلك. ووفق الكثير منهُم، وصاروا عُلماء فلك لهُم وزنهُم، ولهُم إنجازاتهم. وفي هذا السياق يقول المستشرق الإيطالي (كارلو نالينو) (إن ارتباط بعض أحكام الشريعة بالمسائل الفلكية زاد المسلمين اهتماماً بمعرفة أمور السماء والكواكب وحمل أصحاب العلوم الدينية على مدح ما سماه الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين، القسم الحسابي من علم النجوم)(14).
وحين فعل القرآن الكريم فعله في العقول، مدّدها ودفعها إلى روح العلم والبحث، وانفتحت آفاقٌ عريضةٌ أمام المسلمين، فراحوا يبحثون عن الأسلوب الأفضل في دراسة العلم بشكل عام، والفلك بشكل خاص، فاستخدموا المنهج العلمي الصحيح في دراسة الأشياء، استخدموا الاستقراء والاستنتاج، وقدّموا نتائج رائعة.
فكثُرت المراصد والملاحظات الفلكية، بالعين المجردة واستخدام الآلات الفلكية المتنوعة الموروثة والتي أبدعها المسلمون، وراحوا أيضاً يبحثون عن كُل جديد يصُبّ في تطوّر علم الفلك، فترجموا المزيد من الكُتُب الفلكية، من اليونان والهند وفارس، ولاسيّما كتاب (المجسطي الشهير الذي ألّفه العالم اليوناني بطليموس القلوذي)، الذي عاش في القرن الميلادي الثاني، وكتاب (السند هند) من الهند وغيرهما من الكُتب ممّا زاد في وعي الفلك وتطوره. فكثُرت المؤلفات فيه، كالأزياج وكُتُب الآلات الفلكية، وصور الكواكب، والموضوعات الفلكية العامة، ممّا توافر للأجيال اللاّحقة تُراث فلكي كثيرٌ ومهمٌ، يُمكننا وضعهُ في طليعة التُراث الفلكي العالمي، كماً وكيفاً.