للمدن العراقية قصة ممتدة مع جذور الحضارة التي نمت فيها وترعرعت فاستطال عودها واخضر، وأينع نتاجها وأثمر فكانت الثمار تمثل ذلك الكم الهائل من صور الإبداع المعرفي والعلمي الذي ارتقى بالإنسان إلى مرتبة سامية جعلته بمكان يليق به أن يكون خليفة لله في الأرض.
وكان اعتماد هذه المدن في مواكبتها قافلة الحضارة على أبنائها الذين ما برحوا يواصلون الليل بالنهار في نشاط دؤوب وعزيمة لا تعرف الكلل والملل حتى أوجدوا بجهودهم الجبارة وعطائهم الثر قاعدة علمية رصينة تفتخر بها المدينة التي انتسبوا إليها وحملوا اسمها، بل ومنحوها صفة خالدة تتشرف بها ولو بعد أفول نجمها وانكماش دورها الحضاري والعلمي.
وهذا ما حصل لمدينة الحلة الفيحاء، منار العلماء وملتقى الشعراء، الأرض التي أنجبت قادة الفكر وفرسان العلم فكانت الحلبة التي يتبارز فيها الشجعان.
لقد منحت الحلة اسمها لعدد من فطاحل العلم حتى التبس على الناس الأمر، فإذا ذكر (الحلي) وحده، أفتراهم يقولون أنه المحقق أم العلامة، ابن البطريق أم ابن إدريس، فلان أم فلان وهلم جراً ؟.
ثم دخل الشعراء هذا المعنى فراحوا يتنافسون مع العلماء أيهم يدخل مضمار المجد ويحظى بالعدد الأوفر في إحراز لقب (الحلي).
ومع ولادة الحلة ولد العلم فكانت الأسر والقبائل العربية الأصيلة تفيض بالأعلام وقد أشار لسبب ظهور هذا الحشد العلمي الضخم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (قدس سره) قائلاً: (وقد ساعد الحليين على هذه العبقرية ولطيف القريحة والأريحية، طيب التربة ولطافة الهواء وعذوبة الماء، ومن هنا شاع نعتها بالحلة الفيحاء، ونبغ منها العشرات بل المئات من أساطين علماء الإمامية ودعائم هذا المذهب الحق ناهيك بابن إدريس والمحقق وأسرته الكرام بني سعيد وابن عمه يحيى بن سعيد صاحب (الأشباه والنضائر) وآل طاووس وآل المطهر كالعلامة وأبيه سديد الدين وولده فخر المحققين إلى كثير من أمثال هؤلاء الأماثل)(1).
وهذا ما دفعنا لتخصيص استطلاع هذا العدد من مجلتنا (ينابيع) عن واحد من هؤلاء الأفذاذ، فأصبح مرقد العلامة ابن إدريس الحلي أعلى الله مقامه اختيارنا ووجهة مقصدنا الذي وجدنا فيه رمزاً من رموز العبقرية التي دللت على العقلية الإسلامية بكل أبعادها ومدلولاتها.
ابن إدريس في دائرة الضوء
هو فخر الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إدريس بن الحسين بن القاسم بن عيسى الحلي العجلي نسبة إلى عجل بن لجيم قبيلة من بني ربيعة الفرس(2)، وقد اختلفت الروايات في تحديد نسبه فتارة نرى يأتي كما ذكرنا وأخرى يأتي على نحو محمد بن منصور بن إدريس العجلي الربعي الحلي(3)، وقد يأتي على نحو محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس بن الحسين بن القاسم بن عيسى(4)، ولد سنة (543هـ) على أشهر الروايات(5)
في مدينة الحلة، ولم يحدثنا التاريخ عن أبيه ولا عن أسرته إلا أن العلاقة النسيبة بينه وبين الشيخ الطوسي باعتبار الشيخ الطوسي (جده لأمه)، أصبحت موضع سجال حيث امتاز فريقان في آرائهما إزاء هذه العلاقة ففريق اثبت النسبة وآخر جاء بحقائق فنفاها نفياً قاطعاً مستدلاً بعدم ذكر أبن إدريس لهذه العلاقة ولو على نحو الإشارة سيما وأنه ذكره مرات ومرات في السرائر، كما أن الفاصلة الزمنية بين الطوسي وأبن إدريس تبلغ حوالي 83 سنة، كما ذكر الشيخ عباس القمي في الكنى والألقاب في ترجمة ابن سعيد الحلي قائلاً: (المعروف بالشيخ نجيب الدين ابن عم المحقق الحلي وسبط صاحب السرائر) والمقصود بصاحب السرائر هو ابن إدريس مما يعني أن سبط ابن إدريس كان عالماً فاضلاً فقيهاً ورعاً، مقتفياً بذلك أثر جده لوالدته ابن إدريس أعلى الله مقامه.
وفي الوقت الذي ولد فيه ابن إدريس كانت الحلة في أوج حركتها العلمية حيث تزدحم فيها المدارس بالطلبة الوافدين الذين جاؤوا لينهلوا من نميرها المعرفي العذب.
أما الحالة السياسية أبان فترة حياة ابن إدريس فقد كانت قلقة، حيث انهارت الإمارة المزيدية التي حكمت الحلة منذ تأسيسها على يد الأمير صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي، الذي اتخذها عاصمة له سنة (495هـ/1002م)(6) فازدهرت الحياة العلمية بل أصبحت في عصرها الذهبي حيث اكتظت مدارس الحلة بالعلماء والمتعلمين.
وعندما توفي الأمير علي بن صدقة سنة (545هـ) بالحلة، انقرضت الإمارة وصارت الحلة تابعة للعباسيين يرسلون إليها إليها العمال من قبلهم(7).