Take a fresh look at your lifestyle.

السيدة خديجة بنت خويلد(رضي الله عنها)

0 1٬077

                   كانت أول إمرأة آمنت بالدعوة الإسلاميّة، فأخلصت لعقيدتها، وجاهدت، وضحّت ـ بما تملك ـ من أجل تلك العقيدة السامية. إنها خديجة بنت خُويلد.. زوج رسول الله(صلى الله عليه وآله)، المرأة التي ضربت أروع الأمثلة في مناصرة الرسول(صلى الله عليه وآله) حين كان وحيداً بين قوم تنكّروا لدعوته، وفي الذوبان في قضيّة الإسلام، الذي أوكل الله تعالى تبليغه إلى زوجها، لقد كانت خديجة(رضي الله عنها) مثالاً للإخلاص والوفاء كما كانت أُمّاً رائعة أنجبت أعظم إمرأة عرفها التأريخ.. الزهراء(عليها السلام) سيدة نساء العالمين، فكان لخديجة أُم المؤمنين الشرف بكونها زوجة الرسول العظيم(صلى الله عليه وآله) وأُماً للزهراء(عليها السلام).

 

الانتماء العائلي
من أُسرة من أعرق الأُسر في الجزيرة العربيّة وفي مكّة المُكرّمة، ولدت سيدة نساء قُريش خديجة(رضي الله عنها) سنة (68) قبل الهجرة النبويّة وتربّت في حجر أبوين قُريشيين، فأبوها خُويلد بن أسد، وأُمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم، اللذان ينتهي نسبهُما إلى فهر بن لؤي بن غالب، واجتمع لخديجة بالإضافة إلى هذا النسب الشريف ـ الذكر الطيّب والخُلق الرفيع والصفات الفاضلة، يقول عُمر كحالة عن خديجة: (أنها ولدت من بيت مجد وسؤدد و رياسة، فنشأت على التخلق بالأخلاق الحميدة، واتصفت بالحزم والعقل والعفة، حتى دعاها قومها في الجاهليّة الطاهرة)(1)، وكانت خديجة مفطورة على التديّن، لعاملي الوراثة والتربية، فأبوها خُويلد هو الذي تصدى لملك اليمن (تبّع) حين أراد نقل الحجر الأسود حرصاً على قُدسيّة الحجر والكعبة المُشرّفة.

الزواج الطموح
(كانت خديجة(رضي الله عنها) ذات مال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام، تستأجر الرجال وتدفع المال مُضاربة، فلمّا بلغ رسول الله(صلى الله عليه وآله) الخامسة والعشرين خرج لها في تجارة إلى سوق بُصرى (بحوران) وعاد رابحاً)(2)، فاستقبلته مهنئة بسلامة العودة مُرحبة بقدومه، فشكر لها موقفها وحكى لها غرائب، فأدركت أنها لم تجد لمُحمّد(صلى الله عليه وآله) مثيلاً فيمن استأجرتهم، فقد رأت فيه النُّبل والصدق والأمانة والخُلق الرفيع.

 

واستغرقت خديجة(رضي الله عنها) في التفكير به والإعجاب بشخصيته والميل إليه (وهتفت بقلبها: أن حسبُك، فأي طائل وراء هذه العاطفة، والتي تبدو يائسة؟!)(3) وبقيت في حيرتها واضطرابها حتى زارتها صديقتها نفيسة بنت منيّة، فأسرّت إليها ما أصابها، وهوّنت عليها الأمر، ثُم تركتها وقد اعتزمت أمراً…(4).

فقصدت نفيسة النبي(صلى الله عليه وآله)، وأخذت تسأله عن سبب عزوفه عن الزواج وهو في هذه السن أشد ما يكون بحاجة إلى زوجة تحنو عليه، وتملأ دُنياه بهجة وأنساً، وبعد الإلحاح عليه أجاب: (والله ما بيدي شيء من المال أتزوّج به) فقالت على الفور: إذا دُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تُجيب؟

تلك هي خديجة التي لا تساويها واحدة من القُريشيّات والمكّيات… وما هي إلاّ فترة قصيرة حتى تم كُل شيء لزواج سريع، حيث عرض مُحمّد(صلى الله عليه وآله) الفكرة على عمّه الكفيل أبي طالب، فرحّب بها، لقد اختارت خديجة(رضي الله عنها) هذا الزواج بنفسها، لتكون حجراً دافئاً، وصدراً حانياً لحامل رسالة السماء، ولتكون له أُماً وزوجاً وأُختاً، ولتقف إلى جانبه تشد أزره، حتى ورد في المأثور: قام الإسلام على ثلاث: دعوة مُحمّد(صلى الله عليه وآله) وسيف علي(عليه السلام)
وأموال خديجة(رضي الله عنها).

 

مع الرسول قبل الوحي
ألف مُحمّد(صلى الله عليه وآله) الخلوة في غار حراء، مُستغرقاً في رياضته الرّوحيّة المُحببة إليه مُنذ صباه، وكانت خديجة(رضي الله عنها) تنظر إليه بعين الرأفة والحنان، وما كانت لتُعكّر عليه صفو تأملاته، أو تكدّر عليه لذة خلواته التي تبعده عنها ساعات وليال، كانت تبذل كُل ما في وسعها لتوفّر له الهدوء والإستقرار والرعاية التامة، فإذا أنطلق إلى غار حراء.. ظلّت عيناها ترقبه وهو يبتعد، وربما أرسلت وراءه من يحرسه ويرعاه، دون أن يُفسد عليه وحدته حتى قال الرسول(صلى الله عليه وآله) في حقّها: (وآوتني إذ رفظني الناس، و رزقت منها الولد…).

المُصلية الأُولى
جاء في تاريخ اليعقوبي: (أن أوّل ما افترض الله تعالى على رسوله الصلاة، فقد أتاه جبرئيل فأراه الوضوء، فتوضأ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كما توضأ جبرئيل، ثُم صلى ليُريه كيف يصلي فصلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأضاف (إن أوّل صلاة، صلاّها رسول الله(صلى الله عليه وآله) هي صلاة الظهر وكان ذلك في الجُمعة، فأتى خديجة بنت خُويلد فأخبرها بما فرضه الله عليه فتوضأت وصلّت). فكانت أوّل إمرأة صلّت في الإسلام كما كانت أوّل إمرأة أسلمت وآمنت فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيها: (خديجة سابقة لنساء العالمين بالله وبمُحمّد)(6).

دورها في نشر الدين الحنيف
كانت أموال خديجة(رضي الله عنها) بين يدي الرسول(صلى الله عليه وآله) يتصرف بها كيفما يشاء في سبيل الإسلام، ويشتري الأرقّـــاء من الذين أسلموا ووقعوا تحت التعذيب بأيدي قُريش ويُحررهُم وهُم المستضعفون، وكان سبباً في دخول عدد كبير من الناس في الإسلام وقد آثرت خديجة الإسلام على نفسها ووقفت إلى جانب الرسول(صلى الله عليه وآله) تبث ما أمره الله به في وقت كانت جاهلية عصرها لا تعي حقيقة وجود المرأة فكسرت ذلك الطوق بشخصيتها، وبالمكانة التي أعطاها إياها الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) وروي في حقها: (أن جبرئيل قال: يا مُحمّد اقرأ على خديجة من ربّها السلام، فقال النبي(صلى الله عليه وآله): يا خديجة هذا جبرئيل يُقرئك السلام من ربّك، فقالت: الله هو السلام ومنه السلام، وعلى جبرئيل السلام)(7).

وإذا نظرنا إلى السنين العشر التي تلت البعثة نجد ما لهذه المرأة من أثر في نشر الإسلام وما قدمته من خدمات في سبيل إعلاء كلمة الحق.

مكانتها عند الرسول(صلى الله عليه وآله)
عاشت السيّدة خديجة(رضي الله عنها) مع الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) خمساً وعشرين سنة، ملؤها التفاني والإخلاص والوفاء، فقد (أعطت خديجة زوجها حُباً فيه كُل السعادة وأعطته ثروة وهي لا تشعر بأنها تُعطي بل تأخُذ منه هداية تفوق كنوز الأرض وهو بدوره أعطاها حُباً وتقديراً رفعاها إلى أعلى مرتبة وهو لا يشعر بأنه أعطاها) بل يقول: (ما قام الإسلام إلاّ بسيف علي وثروة خديجة) وأعطاها عُمره وزهرة شبابه، ولم يؤثر عليها إمرأة حتى غابت عن الوجود(8)،

وفي هذا المجال قالت عائشة: (كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيُحسن الثناء عليها فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة فقلت: هل كانت إلاّ عجوزاً، فقد أبدلك الله خيراً منها فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثُم قال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاد إذ حرمني أولاد النساء، قالت عائشة: فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبداً).

مع الرسول في شعب أبي طالب
يُمكن القول أن من أعظم الأخطار التي واجهت الرسول العظيم(صلى الله عليه وآله) والرسالة المُقدسة، هو الحصار في شعب أبي طالب،وقد كان لأموال السيّدة خديجة دور مهم في التخفيف من شدّة هذا الحصار،وتقليل وطأته، لم تتردد السيّدة خديجة(رضي الله عنها) في الخروج مع الرسول(صلى الله عليه وآله) إلى شعب أبي طالب، بالرغم من سنّها الذي قارب الستين، (فكانت له وزير صدق على الإسلام)(10)، وبقيت مع الرسول(صلى الله عليه وآله) تذوق هي ومن تبعه من قومه أهوال الحصار المنهك، وصبرت على كُل أنواع الضيم، وتجرعت الآلام لصراخ الأطفال من الجوع وعُدتها، وما تخلّت عن واجبها تجاه الرسالة والرسول حتى آخر نفس من حياتها الشريفة.

وفــاتها
قبل الهجرة النبويّة بثلاث سنين وفي شهر رمضان، السنة العاشرة من البعثة، فقد رسول الله(صلى الله عليه وآله) أعز إنسانة وأقوى مؤازرة.. زوجته الرؤوم السيّدة خديجة أُم المؤمنين(رضي الله عنها) عن عُمر يقارب الخامسة والستين بعد وفاة عمّه أبي طالب بأيام قلائل، ودفنت بالحجون وسُمّي ذلك العام (عام الحزن) و روي أن الرسول(صلى الله عليه وآله): دخل على خديجة وهي تجود بنفسها فوقف ينظر إليها والألم يعصر قلبه الشريف ثُم قال لها: (بالكره مني ما أرى)(11) وذكر أنها لما توفيت(رضي الله عنها) نزل الرسول الكريم في حُفرتها وقد عظُمت عليه المُصيبة بفقدها وحزُن حزناً عظيماً، فيما كانت ابنتها فاطمة الزهراء(عليها السلام)
تتعلق بأبيها الرسول(صلى الله عليه وآله) وهي تبكي وتسأل عن أُمّها: فنزل جبرئيل على رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقال له: (قُل لفاطمة إن الله بنى لأُمك بيتاً في الجنّة، من قصب، لا نصب ولا صخب)(12)، فسلام على اُم الزهراء خديجة الكُبرى(عليها السلام) يوم ولدت، ويوم عاشت حياة الطهر والعفاف ويوم
تبعث حيّة

نشرت في العدد 20


(1) كحالة، عُمر رضا، أعلام النساء، ج1، ص326.
(2) الزركلي، خير الدين، الأعلام، ج2، ص2، 3.
(3) بنت الشاطئ، موسوعة آل النبيّ، ص217.
(4) المصدر السابق.
(5) ابن هُشام، السّيرة النبويّة، ج2، ص57.
(6) اليعقوبي، أحمد بن إسحاق، تاريخ اليعقوبي.
(7) كتّاني، سُليمان، فاطمة الزهراء وتر في غمد، ص112.
(8) فضل الله، مريم، المرأة في ظل الإسلام، ص142.
(9) العسقلاني، ابن حجر، الإصابة، ج4، ص273.
(10) ابن الأثير، أسد الغابة، ج 5، ص438.
(11) فضل الله، مريم، المرأة في ظل الإسلام، ص142.
(12) العسقلاني، ابن حجر، الإصابة، ج4، ص273.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.