كانت أول إمرأة آمنت بالدعوة الإسلاميّة، فأخلصت لعقيدتها، وجاهدت، وضحّت ـ بما تملك ـ من أجل تلك العقيدة السامية. إنها خديجة بنت خُويلد.. زوج رسول الله(صلى الله عليه وآله)، المرأة التي ضربت أروع الأمثلة في مناصرة الرسول(صلى الله عليه وآله) حين كان وحيداً بين قوم تنكّروا لدعوته، وفي الذوبان في قضيّة الإسلام، الذي أوكل الله تعالى تبليغه إلى زوجها، لقد كانت خديجة(رضي الله عنها) مثالاً للإخلاص والوفاء كما كانت أُمّاً رائعة أنجبت أعظم إمرأة عرفها التأريخ.. الزهراء(عليها السلام) سيدة نساء العالمين، فكان لخديجة أُم المؤمنين الشرف بكونها زوجة الرسول العظيم(صلى الله عليه وآله) وأُماً للزهراء(عليها السلام).
الانتماء العائلي
من أُسرة من أعرق الأُسر في الجزيرة العربيّة وفي مكّة المُكرّمة، ولدت سيدة نساء قُريش خديجة(رضي الله عنها) سنة (68) قبل الهجرة النبويّة وتربّت في حجر أبوين قُريشيين، فأبوها خُويلد بن أسد، وأُمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم، اللذان ينتهي نسبهُما إلى فهر بن لؤي بن غالب، واجتمع لخديجة بالإضافة إلى هذا النسب الشريف ـ الذكر الطيّب والخُلق الرفيع والصفات الفاضلة، يقول عُمر كحالة عن خديجة: (أنها ولدت من بيت مجد وسؤدد و رياسة، فنشأت على التخلق بالأخلاق الحميدة، واتصفت بالحزم والعقل والعفة، حتى دعاها قومها في الجاهليّة الطاهرة)(1)، وكانت خديجة مفطورة على التديّن، لعاملي الوراثة والتربية، فأبوها خُويلد هو الذي تصدى لملك اليمن (تبّع) حين أراد نقل الحجر الأسود حرصاً على قُدسيّة الحجر والكعبة المُشرّفة.
الزواج الطموح
(كانت خديجة(رضي الله عنها) ذات مال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام، تستأجر الرجال وتدفع المال مُضاربة، فلمّا بلغ رسول الله(صلى الله عليه وآله) الخامسة والعشرين خرج لها في تجارة إلى سوق بُصرى (بحوران) وعاد رابحاً)(2)، فاستقبلته مهنئة بسلامة العودة مُرحبة بقدومه، فشكر لها موقفها وحكى لها غرائب، فأدركت أنها لم تجد لمُحمّد(صلى الله عليه وآله) مثيلاً فيمن استأجرتهم، فقد رأت فيه النُّبل والصدق والأمانة والخُلق الرفيع.
واستغرقت خديجة(رضي الله عنها) في التفكير به والإعجاب بشخصيته والميل إليه (وهتفت بقلبها: أن حسبُك، فأي طائل وراء هذه العاطفة، والتي تبدو يائسة؟!)(3) وبقيت في حيرتها واضطرابها حتى زارتها صديقتها نفيسة بنت منيّة، فأسرّت إليها ما أصابها، وهوّنت عليها الأمر، ثُم تركتها وقد اعتزمت أمراً…(4).
فقصدت نفيسة النبي(صلى الله عليه وآله)، وأخذت تسأله عن سبب عزوفه عن الزواج وهو في هذه السن أشد ما يكون بحاجة إلى زوجة تحنو عليه، وتملأ دُنياه بهجة وأنساً، وبعد الإلحاح عليه أجاب: (والله ما بيدي شيء من المال أتزوّج به) فقالت على الفور: إذا دُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تُجيب؟
تلك هي خديجة التي لا تساويها واحدة من القُريشيّات والمكّيات… وما هي إلاّ فترة قصيرة حتى تم كُل شيء لزواج سريع، حيث عرض مُحمّد(صلى الله عليه وآله) الفكرة على عمّه الكفيل أبي طالب، فرحّب بها، لقد اختارت خديجة(رضي الله عنها) هذا الزواج بنفسها، لتكون حجراً دافئاً، وصدراً حانياً لحامل رسالة السماء، ولتكون له أُماً وزوجاً وأُختاً، ولتقف إلى جانبه تشد أزره، حتى ورد في المأثور: قام الإسلام على ثلاث: دعوة مُحمّد(صلى الله عليه وآله) وسيف علي(عليه السلام)
وأموال خديجة(رضي الله عنها).