Take a fresh look at your lifestyle.

أسس التماسك الشيعي في زمن الغيبة الكبرى

0 476

سماحة السيد علاء الموسوي
أستاذ في الحوزة العلمية

             قال الكشي في رجاله: (اجتمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر(عليه السلام) وأبي عبد الله(عليه السلام) وانقادوا لهم بالفقه فقالوا: أفقه الأولين ستة: زرارة ومعروف بن خربوذ وبريد وأبو بصير الأسدي والفضيل بن يسار ومحمد بن مسلم الطائفي)(1).

وقال: (اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم لما يقولون وأقروا لهم بالفقه من دون أولئك الستة الذين عددناهم وسميناهم، ستة نفر: جميل بن دراج وعبد الله بن مسكان وعبد الله بن بكير وحماد بن عيسى وحماد بن عثمان وأبان بن عثمان)(2).

وقال: (أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم وأقروا لهم بالفقه والعلم، وهم ستة نفر أخر دون الستة نفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبد الله(عليه السلام) منهم: يونس بن عبد الرحمن وصفوان بن يحيى بياع السابري ومحمد بن أبي عمير وعبد الله بن المغيرة والحسن بن محبوب وأحمد بن محمد بن أبي نصر)(3)

.
وقال في ص389: (عن جميل بن دراج قال سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول: بشر المخبتين بالجنة: بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي، ومحمد بن مسلم، وزرارة. أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه. لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست)(4).

هؤلاء الرجال وغيرهم من الأعاظم الذين صحبوا أئمة الهدى(عليهم السلام) ورشفوا من مناهلهم العلوم النبوية والآثار العلوية، كانوا في طليعة من اعتمد عليهم الأئمةُ(عليهم السلام) في الحفاظ على الإسلام ونقله إلى الأجيال سليماً معافى من التحريف والتشويه، وشكلوا سلاسل الرواة المتصلة بالأئمة عليهم السلام، وصنفوا أهم الكتب والمجاميع الفقهية والروائية في الإسلام، والتي جمعت في طياتها كل ما أثر عن النبي الكريم(صلى الله عليه وآله) في كافة المجالات الفقهية والعقائدية والتاريخية والأخلاقية.

الأمر الذي عاد تراثاً علمياً متكاملاً حفظ الإسلام بفقهه وثقافته المتنوعة، تراثاً سلمته أياد الثقاة يداً بيد حتى وصل إلى علماء الشيعة في زمن الغيبة الصغرى ومطلع الغيبة الكبرى.. فتلقفته أيدي المحققين من أمثال الشيخ الكليني رحمه الله وصنفوا ذلك التراث العلمي الضخم في موسوعات حديثية جامعة حفظت الروايات من الضياع ويسرت للعلماء والباحثين الوصول إلى الروايات بيسر وسهولة، وبقيت إلى يومنا هذا من المصادر الأساسية للفقه الشيعي(5).

 

أسس التماسك الشيعي
اتضح مما أسلفنا أن أئمة الهدى(عليهم السلام) قد أسسوا لاستمرار الإسلام بشكل متماسك وقوي.. من خلال الأمور التالية:

أولاً: فصل الشرعية عن الفريق الحاكم، وسلب قدرته على التلاعب بالأحكام الشرعية. وتحويل الصراع الفقهي والعلمي من الساحة السياسية إلى ساحة العلم والعلماء.

ثانياً: التفرغ لترويج العلم النبوي. وعدم الانشغال بالسعي إلى استرداد السلطة التي هي حق حصري الهي لهم فقط، مع التأكيد مرارا وكلما سنحت لهم الفرصة أن حق الحكم لهم فقط لا لغيرهم، لكنهم إنما أعرضوا عنه لعدم الناصر وقلة المعين.

ثالثاً: نشر العلوم النبوية بين الناس بقدر الإمكان، وبذله للعام والخاص، مما قلل فرص الخلاف والانحراف عن الحقائق عند أرباب المذاهب التي حادت عن طريقة أهل البيت(عليهم السلام). وتوفير الأجواء المناسبة للمذهب الحق (ولو بدرجة معينة) في أن يقول كلمته ويظهر حقائق الوحي بعيدا عن أجواء التقية والخوف من القمع الفكري والجسدي.

رابعاً: تربية الشيعة على تحمل العلم ونشره بينهم حسب ما تقتضيه مستوياتهم الذهنية والفكرية، فكان منهم المؤمنون العقائديون الذين يعدون الدرع الدفاعي عن التشيع وعلمائه ومبادئه. وهم سواد الشيعة.. الطبقة الأوسع عددا والأكثر انتشارا، وكان منهم العلماء والخواص من أصحابهم الذين حملوا الأمانة العلمية بموازينها الدقيقة. وأسسوا الحوزات العلمية العتيدة في قم والري والحلة والنجف الأشرف وفي غيرها من الأصقاع الإسلامية.

إذا اتضح هذا.. سيكون من الطبيعي أن تكون الطائفة المستندة إلى هذا الرصيد الضخم والعمل التاريخي الكبير، والمعتمدة على ذلك العمق العلمي الأصيل النابع من منزلة أهل بيت العصمة (صلوات الله عليهم).. طائفة متماسكة قوية.. لا تتزعزع أمام زلازل الدهر.. ولا تتشتت في خضم أمواج الفتن.

.
خامساً: النسيج العاطفي والوجداني.
حرص أئمة الهدى(عليهم السلام) على تأسيس علاقتهم بالناس على أساس الحب والولاء والارتباط العاطفي، في موازاة الأسس العقائدية والفكرية. فلا يكفي أن تعتقد بأحقيتهم كأئمة وهداة، على ضوء البراهين والأدلة العلمية. بل لابد من مبادلتهم مشاعر المحبة والولاء والتفاني. وقد أكدوا دائما أن هذه العواطف جزء من الإيمان، كما نطق بذلك القرآن الكريم:

(ومن الناس من يتخذ من دون أندادا يحبونهم كحب الله.. والذين آمنوا أشد حبا لله)(6).
ونطق بذلك الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله):
ـ من أحبنا كان معنا يوم القيامة(7).
ـ ثلاث من كن فيه وجد طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما… الحديث(8).
لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهم(9).

وقد ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام): وهل الدين إلا الحب.. الدين هو الحب، والحب هو الدين(10).

وفي الكافي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول الله أحب المصلين ولا أصلي وأحب الصوامين ولا أصوم. فقال صلى الله عليه وآله: أنت مع من أحببت ولك ما اكتسبت(11).

وقد تبوأت قضية الإمام الحسين وأحداث شهادته في كربلاء منزلة خاصة في قلوب المسلمين، لما جرى في تلك الواقعة من حوادث أليمة لا زالت تثير العواطف وتهز الوجدان الإنساني(12).. ولأن الحسين(عليه السلام) هو فلذة كبد الرسول وفرخه وروحه التي بين جنبيه. ولأن من أصيب مع الحسين(عليه السلام)

وأسر وشتت في البراري هم أبناء الرسول من ذرية علي وفاطمة وأسرته وبناته وحريمه. فقد عادت واقعة كربلاء من أعظم الفواجع في تاريخ الإسلام، وعاد الاهتمام بها ثقافة دخلت في التراث الوجداني الشعبي للكثير من الشعوب الإسلامية.
إن كربلاء دخلت في الوجدان الاجتماعي للمسلمين بشكل عام والشيعة بشكل خاص وشكلت منبعا لا ينضب من العواطف الجياشة تجاه أهل بيت النبوة تواسيهم في ما جرى عليهم وتجدد لهم في كل عام ومناسبة استعداد النصرة والتهيؤ للموت والشهادة في سبيل ما استشهد من أجله سيد الشهداء.. من مبادئ ومثل وأخلاق.

إن الشعائر العظيمة التي يقيمها الشيعة وبقية المسلمين في أنحاء العالم بما تعكسه من موالاة وتتفجر به من عواطف.. تعد من أقوى الوشائج التي تنسج كيان المسلمين بدينهم وتشدهم إلى مبادئه وتحفظهم من الشتات والانهيار. حتى عاد المجتمع الإسلامي عموما والشيعي خصوصا من أقوى المجتمعات الدينية قوة وثباتا في مواجهة متغيرات الزمان وعواصف الحدثان.

ولسنا بحاجة إلى التأكيد على أن هذا الاهتمام بالواقعة الحسينية والبكاء على سيد الشهداء وإقامة عزائه وتجديد زيارته وما يصاحب ذلك من ممارسات وشعائر.. ما هو إلا بتوجيه مباشر من أئمة الهدى(عليهم السلام)،

وتشجيع مستمر منهم لشيعتهم ومواليهم في إحياء ذكر الحسين(عليه السلام) وعدم السماح لعامل النسيان والإهمال أن يغطي هذه الفاجعة العظمى في الإسلام. لأن في إحيائها إحياءً لأمر الدين.. وفي إهمالها إهمالاً لأمر الدين وإحياءً لشأن الباطل.

وبمرور سريع على كتاب كامل الزيارة لابن قولويه القمي ستجد مدى الاهتمام الذي أولاه الأئمة(عليهم السلام) لقضية الحسين (صلوات الله عليه). ويكفي هنا أن نذكر من جملة تلك الأحاديث الكثيرة التي تفوق حد الإحصاء.. حديث الإمام الرضا(عليه السلام) مع الريان بن شبيب الذي رواه الشيخ الصدوق في أماليه. قال:

عن الريان بن شبيب قال دخلت على الرضا(عليه السلام) في أول يوم من المحرم، فقال لي: في حديث طويل..
يا ابن شبيب: إن المحرم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية فيما مضى يحرمون فيه الظلم والقتال لحرمته، فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها ولا حرمة نبيها(صلى الله عليه وآله). لقد قتلوا في هذا الشهر ذريته وسبوا نساءه وانتهبوا ثقله، فلا غفر الله لهم أبداً.
يا ابن شبيب.. إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام).. فإنه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا ما لهم في الأرض من شبيه. ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره فوجدوه قد قتل.. فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم فيكونون من أنصاره.. وشعارهم يا لثارات الحسين.

يا ابن شبيب: لقد حدثني أبي عن أبيه عن جده عليهم السلام: أنه لما قتل جدي الحسين (صلوات الله عليه) مطرت السماء دما وترابا أحمر.
يا ابن شبيب: إن بكيت على الحسين(عليه السلام) حتى تصير دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنب أذنبته صغيرا كان أو كبيرا قليلا أو كثيرا.

يا ابن شبيب: إن سرك أن تلقى الله عز وجل ولا ذنب لك فزر الحسين(عليه السلام).
يا ابن شبيب: إن سرك أن تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي وآله (صلوات الله عليهم) فالعن قتلة الحسين.
يا ابن شبيب: إن سرك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين(عليه السلام) فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما.

يا ابن شبيب: إن سرك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا وعليك بولايتنا، فلو أن رجلا تولى حجرا لحشره الله معه يوم القيامة(13).

الغيبة الكبرى مظهر التماسك الشيعي
إذا كان وجود الإمام المعصوم الظاهر ضمانا للتماسك الشيعي في زمن الظهور.. فان الترتيبات التي اتخذها المعصومون(عليهم السلام) لتهيئة الشيعة لزمن الغيبة تعد ضمانا أكيدا لذلك التماسك.. فقد أسلفنا ما رتبه أئمة الهدى(عليهم السلام) من خطوات تمت على مدى أكثر من قرنين من الزمان.. أنتجت بشكل واضح وقطعي.. طائفة قوية على المستوى العلمي.. ومتماسكة على الصعيد الاجتماعي والسياسي.. مهابة الجانب على مستوى التواجد الشعبي والجماهيري… بحيث لا يمكن لحاكم أو سلطان أن لا يحسب لها حساباً ويقيم لها وزنا. فكان منهم على مدى العصور الوزراء والعلماء والشعراء والكتاب والتجار والساسة المحنكون.. وأهل الفنون المختلفة والتخصصات الفريدة..

لقد بنى لنا أئمة الهدى(عليهم السلام) بما سلكوه من طريقة حكيمة مكانة في المجتمعات الإنسانية المسلمة وغيرها، وتركوا لنا تراثاً دينياً أصيلاً يتصل بنبي الإسلام(صلى الله عليه وآله).. بالشكل الذي لا تملكه أية طائفة أخرى من الطوائف الإسلامية. وأحاطوا ذلك البناء العلمي الرصين بحزام من المشاعر الجياشة والعواطف الغامرة التي شدت الجسم الشيعي بعضه ببعض وشدته إلى أصوله الإسلامية وإلى نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) وأئمة الهدى(عليهم السلام)..

فعاد ـ في زمن الغيبة الكبرى ـ بناء متماسكا بالعلم والعاطفة.. تواشج فيه البرهان والوجدان. وعاد كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف.

نشرت في العدد 20


(1) رجال الكشي: 206.
(2) رجال الكشي: 375.
(3) اختيار معرفة الرجال ص 507.
(4) وهي الكتب الأربعة : (الكافي) للشيخ الكليني و( من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق و(الاستبصار) و(تهذيب الأحكام) للشيخ الطوسي. وقد أجمع علماء الإمامية على أن هذه الكتب الأربعة منقولة من الأصول الأربعمائة المجمع عليها الواردة عن الأئمة (عليهم السلام).
(5) رجال الكشي: 1: 398 ، اختيار معرفة الرجال ج1 ص398.
(6) سورة البقرة:165.
(7) روضة الواعظين للفتال النيسابوري: ص 417.
(8) المصدر السابق: ص 417.
(9) أخرجه الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء 8 : 4 ، ورواه – باختلاف يسير – أحمد في مسنده 3 : 172.
(10) المحاسن للبرقي: ص263.
(11) الكافي، الشيخ الكليني ج8 ص79ـ80.
(12) ينظر : كتاب واقعة كربلاء في الوجدان الشعبي للشيخ محمد مهدي شمس الدين وهو دراسة لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في الوجدان الشعبي للمسلمين وللشيعة بوجه خاص.
(13) أمالي الصدوق ص193.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.