د. علي ثويني
معمار وباحث/ مملكة السويد
لاسم (المقرنص) وقعاً جميلاً على مسامع العارفين بالعمارة وأساطين حرفة البناء، وشكلا مرهفا تحت ناظر عشاق الجمال، وأسلوبا متجانسا لهواة التجريد والهائمين بلعبة الحجوم وحركة النور والظلال. لكن حدث أن أضمحل وأنتفى، ولم يعد يشكل مفردة متداولة في عمائر اليوم، وأمسى طرقه والبحث فيه يدخل من باب الحنين لعمارة التراث ويصنف في خانة الدوارس.
ورد اسمه (مقرنص) في المشرق و(مقربص) في المغرب الإسلامي، أو (الدلايات) في مصر وهو في المعجم الوسيط (مقرنس) و(قرنس السقف والبيت زينه بخوارج منه ذات تدريج متناسب فهو مقرنس)(1). ويرد في تاج العروس، وكذلك لدى ابن الأعرابي والجوهري وفي الصحاح بأن (قرنس) والقرناس تعني (شِبُهُ الأَنْفِ يَتَقدَّمُ من الجَبَل)، وسَقَفٌ مُقْرْنَسٌ: عُمِلَ على هَيْئَة السُّلَّمِ(2)، ويرد لدى الصاغاني شعرا(3):
في رأس شاهِقَةٍ أُنْبُوبُها خَصِـرٌ
دُوْنَ السَّماءِ له في الجوِّ قرْناس
وفي المعاجم العربية كما في لسان العرب لأبن منظور والصحاح للرازي يأتي بمعاني شتى لا علاقة لها بالعمارة، بما يدلل أن الكلمة ليست دخيلة أو اصطلاح وارد بذاته. وقد جاء بمعني عِرْناسُ المِغْزَلِ، أو عَثَانِيْن السَّيْل وأوائلُه مع الغُثاء. أو نوع من النُّوق. وقَرْنَسَ البازي، إذا كُرِّزَ وخِيْطَت عَيْناهُ أوَّلَ ما يُصَادً، وقَرْنَسَ الدِّيْك وقَرْنَص: إذا فَرَّ وقَنْزَعَ… الخ(4). وفي التواريخ نجده أقدمه يرد عند ابن كثير، ونقله الجزولي نصاً: (ولما سقف الوليد الجامع (الأموي) جعل لسقفه جملونات وباطنها مسطح مقرنص بالذهب فقال له بعض أهله أتعبت الناس بعدك في تطيين هذا المسجد كل عام، فأمر الوليد أن يجمع ما في بلاده من الرصاص ليجعل عوض الطين)(5).
وكلمة (مقرمس) ترد في الآرامية بما يعني كثير الطيات والتضاريس، وقد تكون أسترسلت وولجت العربية، وربما تعود الى أصول أسبق منها، بما أن جذرها رباعي على خلاف الجذر الثلاثي (السامي) الغالب. ومقرنص في فحواه كلمة مفردة تعني الجمع وتصف التدريج. ويعتقد بعض الباحثين العرب المحدثين انها اقتبست وعربت، بغرض تفعيل اللفظة اليونانية (كارنيس Karnies) ومعناها الطنف أو النتوء الخارج من البناء والذي مازال له نفس المعنى في اللغات الأوربية (Cornice أو Cornish)، وهو مفهوم إستشراقي يرجع كل الاصطلاح والمفهوم المعماري لأصول خارج إطار الشرق القديم، بالرغم من أن اليونان اقتبست جل مفردات عمارتها من حضاراته. ونجد بعض الدارسين من الأجانب والمستشرقين، أطلقوا عليه اسم (ستالكتيت Stalactite) أو الهابطات، بما خال لهم في محاكاته لتلك الأصابع الجصية الهابطة من سقوف الكهوف(6). بيد أن الأصابع الهابطة (الدلايات)، هي نوع واحد من ضمن منظومة معالجات أجادت في توظيف هذا العنصر.
وأصول المقرنص إنشائية، وهيئته تتكون من مجموعة من الحنايا المقببة وأقل مضلعة التي يتدلى أو يستقر بعضها فوق بعض بطبقات أو صفوف طنفية مقعرة، وعادة ما تكون متدرجة بشكل متناوب وتدعى مداميكها (صفوف) أو (حطات)، وابسطها يبدأ بواحدة ثم بثلاث حنايا ذات تدرج، بحيث نجد حنيتين في الأسفل وحنية تمتطيهما في المحور، ومحور الحنية ينصف الحنيتين التي تحتها، عندما تكون الحنايا متساوية البحور.
ويمكن أن يكون باكورة استعماله ومبرر ظهوره في الزوايا الإنشائية تحت القباب، والذي دعي (المثلثات الكروية Squinches)، وكان الهدف منه تشكيل واسطة متدرجة لنقل العزوم الواردة من هيكل القبة التي تتربع على بحر واسع لم تفي الجسور (الكمرات) الحجرية أو الخشبية بتغطيتها. والغرض منها إنسياب العزوم إلى الحيطان الجانبية بعيدا عن الركن القائم لمربع (الحجرة)، والذي تم إلغاؤه وحلت محله تلك الحنايا التي لعب دور التهيئة للشكل المثمن الذي يحضر تباعا لقاعدة أستقرار (رقبة أو طنبور) القبة المتوافق مع هيئتها الدائرية. والمثلثات الكروية هي كتل على قمتها في السفل وقاعدتها المقوسة والمطنفة إلى الأمام في الأعلى.
ويقر الجميع أن هذا العنصر ظهر في سياقات عمارة المسلمين، ويشهد على ذلك الغربيين أنفسهم، ونجد (جون د. هوك) في كتابه (العمارة الإسلامية) يقول (لم يرد عنصر المقرنص في أي طراز من طرز العمارة في العالم المعروفة لحد اليوم)(7). وبالرغم من ذلك لم نجد دراسة تفصيلية عنه في المدونات التراثية، وورد بذكر مقتضب في مرحلة متأخرة. ونجد من أقدمها ما كتبه المستشرق (شارل بلان) في أواسط القرن التاسع عشر الذي قال مؤولا: (بأنها نشأت عن ضرورة إحداث الظلال بالوسائل الناتئة)(8)،
وهذا ما ينافي المنطق ولاسيما ما يقع داخل البناء الذي لا يتوفر على الضياء لتبرير هذا الهدف. لكننا نجد أن كوستاف لوبون أجاد في وصفه وجدوى توظيفه في كتابه (حضارة العرب) عام (1882م)، لكنه مكث في خانة لفت النظر إليه. ونجد من المحدثين العرب، الدكتور كامل حيدر الذي ألف كتابا تحليليا له، في سلسلة كتبه عن (العمارة العربية الإسلامية).
وفي شجون المقرنص نتلمس عبقرية تلك العمائر وتميزها حينما استطاعت أن توائم هذا العنصر الإنشائي الثقيل بصريا مع عالم الفن والجمال المعماري المرهف دون عناء كبير، وتسنى له أن يغنيها ويغتني بها. ويصنف المقرنص من العناصر الناتئة (ثلاثية الأبعاد) في الفنون الإسلامية، ويلج عالم التجريد الفني، ويوحي وكأنه نحت من كتلة، أزال من الخامة ما لا جدوى منه بما يحقق رفع الطنف الذي فوقه. ويشير الفرنسي أندريه باكار بأن (تلك الأشكال الوثابة تنسجم بشكل عجيب مع ذيول الخط الكوفي والزخارف المتناسبة معها)(9).
والنفس الشرقية التي أبدعت المقرنص، مياله بالسليقة الى ملئ المسطحات الصماء، وإثرائها بالزخرف، الذي يتبع فكر العصر والثراء و الذوق الفني، وتجسد باقتضاب أو إسهاب. وفحواه نزعة روحية رافضة للخلاء والوجه الأملس الفارغ. والأمر نابع من شعور أن الوحدة والفراغ والمكان المهمل، يصبح مجلبة للوحشة والشؤم، أو مكان يسكنه الشيطان، وهذا ما جعل بعض العناصر تزوق بثراء واستثناء، كما حال البيبان. ونجد هنا التفاته لبيبة يوردها الفرنسي لوبون بقوله: (يظهر أن العرب كانوا يكرهون ما كان يحبه الإغريق من الأوجه الملس الموحدة الزوايا والأشكال القائمة فكانت رغبتهم في ملء زوايا الجدر القائمة وفي وصل القباب المستديرة بما تقوم عليه من الرداه المربعة وصلا غير محسوس.
ينشئون الكوات الصغيرة الناتئة المثلثة الكروية المسماة بالمتدليات (المقرنصات) لتدلي بعضها فوق بعض كخلايا النحل. وقد استعملت المتدليات في صقلية منذ القرن العاشر والحادي عشر للميلاد وحول عرب الأندلس تجوفاتها الكروية إلى مواشير قائمة ذات وجوه مقعرة)(10).
ويرصد المبصر المتبحر كم هي حاذقة تلك التراكبات والتشكيلات، التي تحرك في النفس متعة للخاطر، يواكبها حركة في الذهن فحواها استقصاء ومتابعة وتعمق في السياقات التي أنتجت عوالمها، بما يمكن اعتباره فن يحرك الهواجس ويثير التساؤل ويتداعى للتفكير وهي رياضة للعقل تثري الإدراك والمخيلة وتطور المدارك، وتدرأ الخمول والبلادة، وهو ما سعت له الفنون الحديثة التي تخطت المتعة البصرية الى الرياضة الذهنية(11).
وكان مما أعان على ذلك المنجز وعاضده الدفق من التطبيقات والمنظومات الهندسية والرياضية التي تمخضت عنها الثورة العلمية التي جاء بها المسلمون و تجسدت في مناحي الحياة العملية والفنية .
أنشئ المقرنص على أسس رياضية، وإلا لم يكتب له الاستمرار والانتقال والتطور، مثلما الحال مع العناصر والطرز التي انحصرت بالتجريب، والاستنساخ وطواها السأم ثم النسيان بعدما وطأت المسخ،كما حال ملتويات طراز الباروك (الركوكو) في عمائر الغرب. وهنا نرصد أن المربع كان أساس منظومات التخطيط، وسرت تلك السنة التناسبية من رغبات وتأويلات روحية جوهرها الاستقرار وقسطاس الأبعاد والمساواة. وقد تداولها العراقيون الأولون من ضمن ثقافات الشرق القديم واخترقت فنون الإسلام، وطبقت على المساقط الكبيرة والعناصر الزخرفية على حد مشترك. وأستخلص من الشكل المربع النسبة الذهبية التي تساوي الجذر التربيعي للرقم (2)، وهي (1،414) كقاعدة عامة، ومنها علاقات التناسق والتناسب للعناصر المنجزة في العمارة والفن(12).
وأعتمد المقرنص على تشعبات التماس بين السطوح الأفقية وتدرجات المنحنيات العمودية، وخير تجسيد لها كان انتقال المربع الى مثمن، وتهاجن أضلاع المربع القائمة وشعاعية تقسيمات دائرة القبة أو زوايا ومثلثات أركان المثمن المتقاطعة في ذلك المركز. ونقف هنا على محور حنية المقرنص في الصف الأول أو (المثلث الكروي) الذي يكون مركزه مطابق لرأس النجمة المثمنة (نجمة سليمان) المتمخضة من دوران المربع حول نفسه، وبتقسيم هذه الزاوية من خلال الوسيلة الهندسية في رسم خط عمود منبثق من مركز الدائرة، ليشكل مضلع ذو ستة عشر ضلعا، ليقسم بنفس الآلية ويصبح ذو اثنان وثلاثون ضلعا، بما يجسد الصف الثالث للمقرنصات، وهلم جرا. وبتحديد المتوالية الهندسية لتلك الصفوف، يتحدد الشكل المحضر لطنبور القبة، وهنا نشير إلى ثمة اختلاف بين متوالية وأخرى بحسب نوع وبحر القبة.
إن طريقة رسم المقرنصات بالمسطرة والفرجال التي اتبعها البنائون،لم تكن دقيقة بحساباتها أحيانا ولاسيما عند الإسقاط، أو حتى عند حساب مقادير وأبعاد عناصر التكسية (Investment)، وخاصة بقطع من الخزف الكربلائي (الزليح ـ القاشاني ـ الفرفوري)، مما جعل المعمار يلتجأ الى وسائل رياضية توصله لنتائج أدق. وتجسد الدقة والضبط في رسم تلك المنظومة المتشابكة بمعين رياضة المثلثات وشجونها،كونه أعتمد على نسب الأضلاع المكونة له، حتى أن أسم هذا العلم في بواكيره كان يدعى (الأنساب) أي لضبط النِسَب. ويمكن تلمس النقلة الكبيرة التي أحدثها علماء التراث الإسلامي من النظرية المحضة الى التجسيد الهيكلي والوظيفي والجمالي.
وفي المقرنصات نتلمس تطور علم المثلثات من السطوح المستوية، الى الكروية (Concave)، ولهذا تأخر تطور هذا العنصر بشكله الراهن في منظومة العمارة وفنونها إلا ابتداءً من القرن التاسع الميلادي، بعدما نضج في البحث على الورق. ويمكن أن يكون الأمر قد تأخر حتى وقت تجسيد (الجيوب) في المثلثات وكذلك إدخال المماس في عداد النسب المثلثية، وتوصل علماء الإسلام إلى نسبة جيوب الأضلاع بعضها لبعض كنسبة جيوب الزوايا الموترة بتلك الأضلاع، والتي تشمل أي مثلث كروي. ولم يكتب حظ للمقرنص أن يظهر بموجب تطبيقات (وتر ضعف القوس) التي أوجدها البابليين والمصريين وأستثمرها الإغريق قبل المسلمين وأفادوهم بها. وهنا نقف على حقيقة (وسطية) الإسلام وبناء حضارته في أرض الشرق القديم الموغل بالروح والفكر والأخلاق، والتي أخذ فطرته منها، لكنه أستثمر معطيات الإغريق الهندسية من صوب الغرب والهنود الرياضية من صوب الشرق، فجمعها ببوتقته (الوسطية) رسالة وموقعا وفكرا وهدفا وممارسة، فأثمرت عن منظومة واسعة من المستجدات في الفكر والعمارة والفن، ومن شجونها عنصر المقرنص.
ثمة إشارة لبيبة ساقها نصير الدين الطوسي بما يخص البحث العلمي قائلا: (إن استخراج الطرق من البراهين على الرجل الفطن الواقف على أصولها، اسهل من حفظها وضبطها بالتقليد)(13)، وهنا نشير إلى بحوث الطوسي التي توصلت حتى الى حساب مساحة المثلثات الكروية، بعد أن عمل جداول للجيب التي تتفق النتائج فيها حتى ثمانية أرقام عشرية مع قيمة الجيب الحقيقية من ضمن سياق نظريته (قاعدة الأشكال المتتامة). ولا غرو أن نلمس جهد الطوسي وهو ما أبهر الغالبين التتر حينما وضع منظومة التعليم ولاسيما التي تدرس العقليات ومنها الفنون التطبيقية والعمارة، وقد أثمر مجهوده في شيوع هذا العنصر في العمارة التيمورية، وتوج بالعمارة الصفوية، التي نجدها في آسيا الوسطى وفارس والعراق، ثم نقلها المغول على يد محمد بابر عام (932هـ/1526م) إلى الهند(14).
ولم يكن للعمارة الغربية أن تتمخض عن هذا العنصر دون آلية فلسفية أولا ثم تطبيقية ثانيا تخص علم المثلثات. وقد قلد الغربيون كل عناصر العمارة التي وجدوها في الأندلس وصقلية وشمال أفريقيا والشام، لكنهم عجزوا عن تقليد المقرنص، ولم يفلحوا حتى بعد نقلهم لعلوم المثلثات (De Triongulus) على يد (ريجيو مونتانس) في القرن الحادي عشر الميلادي، بعدما ترجم كتاب (شكل القطائع) و(كتاب المثلثات)، لكنه لم يطبق لعدم توفر آلية فلسفية تواشج بين العلوم النظرية والتطبيقية ولاسيما في البناء.
وجذر المقرنص يتمحور مع عنصر المثلث الكروي الخاص بالقباب، والذي يعتبر من سمات العمارة السورية قبل الإسلام وظهر أسفل القباب لعمائر البادية في العصر الأموي. ولكن (ريفيرا) الإيطالي يرجح أن يكون الرومان قد تركوها هناك بالرغم من أن الرومان والبيزنطيين اقتبسوا عمارة القباب من الشاميين. لكن (روزنتال) يستدرك الهفوة ويرجع المثلث الكروي إلى الآشوريين. ويمكن أن يكون الأمر أقدم من ذلك، إذا أرجعنا ظهور عنصر القباب في تلك البيئة، إلى أزمنة أقدم. ونجد (الدكتور صالح لمعي) يرجح أن عنصر المقرنص ورد من أرمينيا الى العمارة الإسلامية بسبب ظهورها في مصر لأول مرة مجسدة في مسجد الجيوشي للوزير الأرمني الأصل بدر الجمالي عام (477هـ/1085م) إبان الحكم الفاطمي، وهي إشارة تفتقد الى العمق البحثي(15). حيث نجد إشارات أقدم إلى الشرق الإسلامي، حيث يشير (الدكتور كامل حيدر) إلى أن أقدم الأنواع المبسطة ورد في قصر الأخيضر الواقع على تخوم كربلاء العراقية، ويعود للقرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، ونجده صريحا في أنصاف القباب المغطية لنهايتي سكوب المحراب في مسجد القصر(16).
ويرجح الدكتور حيدر الى أن المقرنص أستلهم شكله من العقود المفصصة التي وجدت في الرقة (الرافقة)، ثم في سامراء وكذلك في الأندلس ولاسيما في مسجد قرطبة. ومثلما حاكت القباب أشكال العقود، فأن حنايا المقرنص جاءت من النوع المخمس، أو المدبب، أو حتى المثلث،كما عند الفاطميين، بحسب معطيات مادة البناء وانسجام المعالجات في التصميم العام(17).
وبحسب معطيات البحوث الحفرية في مواقع محددة يشير الغربيون (دون واسع تدقيق)، إلى أن بواكير ظهور المقرنص بهيئته الصريحة قد جاء في بقايا عمائر فارس، بعدما كشفت عنها حفائر متحف (الميتروبوليتان) في نيويورك، بأنقاض ضريح (عطا عرب تيم) التي تعود إلى العام (366هـ/977 م) في مدينة نيسابور والمكونة من عناصر بنائية مقعرة بشكل سطوح وبطون توحي بكونها لو اكتملت لكانت تكون عنصر المقرنص(18). وهنا نشير الى أن اختفاء جل العمائر ولاسيما في بغداد التي سبقت القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي ولاسيما نظاميتها عام (1067م) ودار حكمتها وقصورها كالخلد والقرار وعيسى والسلام ودار البرامكة والزندورد وقصر المعتصم ومعز الدولة البويهي في الشماسية (الأعظمية اليوم)، والتي ورد وصفها في المدونات دون أن نجد لها إلا بعض الحطام أو المسناة على شاطئ دجلة، وبذلك أفقدنا الكثير من حلقات سلسلة تطور هذا العنصر .
ونجد أقدم الأمثلة الشاخصة من تلك الفترة، هي الموجودة في مدفن (قندباد قابوس) في مدينة جورجان بايران التي تعود للعام (396هـ/1006 م) وكذلك في الطنف العلوي الموجود على قبر (قندباد علي ) في مدينة أبرقوه بإيران منذ العام (447هـ/1056م) ، وفي سور القاهرة بجوار باب الفتوح عام (468هـ/1087م) ثم بوابة جامع الأقمر الفاطمي من العام (518هـ/1125م) وكذلك في بقايا قلعة بني حماد الواقعة في وسط شرق الجزائر وتعود الى بدايات القرن الحادي عشر الميلادي والذي ساعد في إنشائها الصناع المهرة الذين جلبهم مناد بن زيري من المشرق الإسلامي، واليوم لم يبقى منها إلا منارة جامعها الحاوية على هذا العنصر. ثم نجد في نفس البيئة المثال الوارد في قصر العزيزة (Alaziza) العربي الباقي في مدينة بالرم في صقلية منذ أيام (الدولة الأغلبية) في تونس، ويعود إلى القرن الرابع الهجري/الحادي عشر الميلادي.
وثمة دلالة في أشكال المقرنص تشير الى أمانتها على مواصفات عمارة الطابوق (الآجر)، التي أملت خاصيتها التشكيلية حتى على ما تبعها وبخامات أخرى. ولا شك أن خامة الآجر التي جاءت بواكيرها في العمارة الرسوبية في العراق القديم (السومرية والأكدية والبابلية) ومواصفات (الشك) في الجص كملاط لاصق بين أجزائها، قد حقق عناصر العقد والطاق والقبة أولا ثم أسترسل في عصور الإسلام إلى المقرنص. ونشير بأنها فذلكة أملتها البيئة الطينية الخالية من جزيل خامات الخشب الغابي أو الصخور في هذه الإقليم، والذي لو كانت متوفرة، لكان يمكن أن تسخر في تغطية بحور السقوف كما هو الحال في العمارة المصرية مثلا، ولكان أخذت الأشكال طابعا مضلعا، ودون إنسيابيات الآجر. وبذلك فأن تلك الحيلة قفزت فوق رهافة الطين ووهنه في الإنشاءات، ليكون موفقا في توسعة البحور وخلق فضاءات معمارية تناسب الرفاهية التي أملتها حاجات البنيان والحضارة.
وثمة تسميات شتى للمقرنصات بحسب الشكل كالمركبة والمنشورية والدلايات والكروية والمطولة والمثلثة والمزنبر. ونجد تسميات تتعلق بأقاليم ومدن كما في مصر كالحلبي والبلدي والشامي. وبغياب المصطلح العربي الموحد فأننا نجد أن لكل بلد عربي أسماءه الخاصة. فمثلا نجد في المغرب أستعمل (المعلمين) تسميات للأجزاء (الثمانية) المكونة للمنظومة التركيبية وهي: (الشربية ـ تسنية مفتوحة ـ الكتف ـ الشعيرة أو السروالية الصغيرة ـ الدنبوق(الرئيسية) ـ اللوزة المستعملة في طاسة الذروة ـ السروالية أو البوجة ـ التستية المسدودة)(19).
ونجد لتلك الأسماء قوالب مميزة يتم صنعها من الخشب وتركيب بعضها على بعض، ثم صب القالب السلبي الذي يتسنى لنا استعماله في صب المجموعة المراد تركيبها. ونجد من ينتقد الحصر القسري لتلك الأجزاء، ويعتبره المقرنص عنصرا حرا، يمكنه الموائمة مع كل خامة وذوق وموضع. وهو ما نلمسه بأن ثمة فرق مع ما أملته بيئة الطابوق والكربلائي (القاشاني) في العراق وإيران وآسيا الوسطى مع الحجر في الشام ومصر وتركيا والهند، أو الجص في المغرب والأندلس، مع ما مكث من نماذج خشبية من الحقبة الفاطمية في مصر وتونس وصقلية.
وعلى العموم فأن عنصر المقرنص قابل للتجسيد في كل الخامات تقريبا، وبداياته من الطابوق (الآجر)، لكن محاكاته وردت في الحجر والجص والخشب وحتى المعدن. وفي العراق وإيران يستعمل الآجر المركب أو المنحوت بالأزاميل، وتتم ريازته(20)، ويوشى بالجص أو الكربلائي الملون. ونجد نوع يكسى بالمرايا كما في أضرحة (العتبات المقدسة) في بغداد والنجف وكر بلاء وسامراء ومشهد وقم ودمشق والذي يأخذ بالألباب من جراء انعكاس الضوء والحركة والمحيط من مجموعة السطوح المتراتبة والمتناغمة. ونجده اليوم ينفذ بالحجر الصناعي الداخل في تركيبه طحين الرخام والأسمنت الأبيض والحصى الناعم والرمل بنسب، وتلون بحسب الطلب، وتصب في قوالب وتهذب، ثم تركب وتثبت كتكسية فوق عناصر الهيكل أو الحيطان. وعلى العموم
يمكن إجمال أهم أنواع المقرنصات المستعملة في مجمل أقاليم عمائر المسلمين :
المقرنص ذو المركزين الشبيه بالعقد المخمس المدبب.
المقرنصات المدببة وهي مثل العقد المرسوم على الزاوية (30) درجة.
المقرنصات الكبيرة ذات مركزين أو مدببة لغرض هيكلي .
مقرنصات بطن العقد والمتكونة من حطة واحدة في محل بداية العقد.
المقرنصات المركبة بين اكثر من طريقة رسم.
المقرنص المتدلي ويقع عادة في باطن العقد.
المقرنص المخروطي.
ونجد المقرنص قد تشعبت إستخداماته ووظائفه وتعدى العمارة الى الفنون حتى تجسد في مفردات الأثاث كالطاولات وفوانيس المساجد والمنابر الحجرية والخشبية، لكننا نجده في جل العمائر الإسلامية في مواضع بذاتها مع اختلاف بسيط في طبيعة المدرسة الإقليمية للعمارة التي أملته الخامات البنائية والأذواق والخبرات. وعلى العموم فأنه متواجد في المواضع التالية:
أبسط أنواعها هي الواردة في زوايا المربع الحامل لطوق القبة، بما يمكن اعتباره تحليل أو تقسيم أو (تفكيك) عنصر المثلث الكروي التقليدي الى طبقات. وثمة قباب قد قرنص باطنها بالجص بشكل تزويقي أكثر منه هيكلي، كما في قبة جامع القرويين بفاس (563هـ/1142م)، وقبة الأختين في قصر الحمراء في غرناطة.
نوع يعكس الاسترسال في خيال المعمار حينما تدور المتواليات الهندسية الناظمة لشعاع القبة، وتتراكب فوق بعضها البعض، وتتسامى حتى تصل الى صيغة القبة التي تقرنص بكاملها، حتى تتمخض من شكل مخروطي متعارف عليه في بعض الأبنية التاريخية، والتي يسموها أهل العراق (الميل) أي العمود، وكان قد تصاعد إبان الحقبة السلجوقية في العراق والشام وتركيا، وتجسدت خصوصا في العمارة المشهدية (القبور)، وظهر بشكل مقرنص صريح في الداخل والخارج، أو بهيئة مخروطية ملساء في الخارج ومقرنصة في الداخل كما في ضريح الصوفي جلال الدين الرومي في قونيا (628هـ /1231م)، وكذلك في مرقد الإمام يحيى أبي القاسم في الموصل (638هـ/1239م). ونجد أقدم الأمثلة المقرنصة من الجانبين موجودة في ضريح إمام محمد الدوري حفيد موسى الكاظم (ت: 3هـ\9م) على تخوم سامراء (فتحة الضريح المثمن (30م) وارتفاع القبة المقرنصة 12،5م). وخير الأمثلة نجدها في جبانة الكرخ في بغداد في ضريح زمردة خاتون زوجة الخليفة المستضئ وأم الناصر (ت: 559هـ/1201م) وارتفاع القبة (13م)، وعلى قبر الشيخ الصوفي عمر السهروردي في بغداد (ت: 1234م ). ويتكرر العنصر في ضريح يحيى بن القاسم في الموصل (596هـ/1239م)، وفي قباب منطقة النيل على تخوم بابل ولاسيما في ضريح نبي الله ذي الكفل(21)، ونجد في دمشق مثالها في خانقاه وضريح الملك نور الدين بن عماد الدين زنكي الأتابكي (477هـ/1084م،
541هـ/1146م)، وثمة مثال لقبر النبي دانيال في أصفهان. وقد أعتمد في هذا النوع على تراكب حطات المقرنصات تنازليا، بما صغر بحر الفتحة التي أغلقت في فانوس سامق. وأستفاد المعمار هنا من تناوب مواقع المقرنصات فوق بعضها، ليترك بينها فراغات وظفت في إيلاج ضوء النهار الى داخل الحجرة، بما أضفى عليها بعدا رمزيا وجماليا أخاذا.
نوع يقع تحت شرفات المآذن ولمبرر التحضير لأطنافها الخارجة عن البدن. أو يستعمل عموما تحت أي طنف في داخل البناء أو خارجه حتى في صيغته النحتية في الخشب أو الرخام لمنابر المساجد، أو الأثاث.
في معالجة نوع من العقود الحقيقية أو الكاذبة في البوائك التي تعلو بعض الطاقات وخاصة في عمارة المغرب والأندلس ويسمى هناك (الرخوي) وهو عقد الكتف المكسور الموائم لدوران خلايا المقرنص .
في صياغة أحد أنواع تيجان الأعمدة من الحجر أو الخشب، وذلك بالاعتماد على التدرج في انتقال الحركة من دائرة العمود الى مربع الكتف الذي يحمل العقد أو الجسر ثم السقوف. وقد ظهر وشاع هذا النوع في الحقب الأيوبية والمملوكية، وحتى العثمانية.
في التسقيف الداخلي لبعض الأروقة المحصورة بين البوائك والحائط الموازي وثمة نوادر لهذا النوع من السقوف المقرنصة كما في رواق المدرسة الشرابية أو القصر العباسي في بغداد (628هـ/1230م) .
في الجزء العلوي من باطن فراغ المداخل المستطيل من ضمن سياقات معالجة المداخل، وذلك لانتقاله إلى النصف قبة التي تعلو المدخل كما هو الحال في مصر والشام إبان الحقبة المملوكية، واقل منها العثمانية، ونجده وطأ الذروة في مدخل مدرسة السلطان حسن في القاهرة المبني عام (1356م). وينطبق نفس الأمر على الإيوانات المستطيلة المقببة كما في العراق وإيران وفي إيوانات مسجد الجمعة في اصفهان. وتعود للحقبة الصفوية. وتجدر الإشارة هنا الى أن هذا العنصر، فقد محتواه بالتكرار والتقليد، كما الكثير من عناصر العمارة مثل الكابولي في الطراز الكولونيال في القرن التاسع عشر. وقد أمست مقرنصات الإيوانات شكلا دون محتوى، وإيحاء وليس إنشاء في بعض العمائر الصفوية، ونجد منه من بني بشكل كاذب ومعلق أو مثبت على فراغ ومتدلي من هيكل قبو الإيوان من تحته.
إن استعمال المواد الحديثة في البناء وخاصة الخرسانة المسلحة وطغيان تيارات الحداثة في البناء، ألغى الكثير من مفردات التراث المعماري وحرم الناظر من ثراء معالجات السقوف المعقودة والأقبية والقباب، وأحدث التغيير انقلاباً حقيقياً وألغى أعرافا ومفاهيم بنائية. لكن ثمة بارقة في إيجاد أسلوب جديد لتوظيف بعض العناصر المعمارية ومنها المقرنص، كأن يكون في البناء الهيكلي التكعيبي المتدرج الذي يوحي بالمقرنصات المختزلة، كما وجدناها بدمشق في بناية تطل على ساحة الشهيد يوسف العظمة، وكذلك في مصرف المغرب في شارع المصارف في الدار البيضاء. وثمة مجال واسع لتوظيف التسقيف الحجمي لعناصر التغطية الفراغية بأسلوب يجعل من هذا العنصر مصدر الهام لجيل المعماريين الجدد في لجة البحث عن التميز والخصوصية والجديد.
نشرت في العدد 20
(1) أديب اللجمي وشحادة الخوري، المعجم المحيط، بيروت.
(2) مرتضى الزبيدي، تاج العروس، ص4073.
(3) الرضي الصاغاني، العباب الزاخر، ص166.
(4) إبن منظور، لسان العرب، ص4669.
(5) الجزولي، مطالع البدور ومنازل السرور، ص295.
(6) د.صالح لمعي مصطفى، التراث المعماري الإسلامي في مصر، بيروت1984.
(7) كمال الدين سامح، تطور القبة في العمارة الإسلامية.
(8) مارتين بريكس (Martin S. Briggs)، العمارة المحمدية، ترجمة جرجيس فتح الله 1967، بيروت.
(9) أندرية باكار، المغرب والحرف التقليدية الإسلامية في العمارة، باريس 1984.
(10) كوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة أحمد زعيتر، بيروت1970.
(11) نجد في هذا الاتجاه أخذ مناح شتى ومنه في السينما حتى أن أفلام (هيتشكوك) قد أكتست شهرة واحترام، كونها سعت إلى تحريك الهواجس والتساؤل، لينقل السينما من متعة الدراما إلى طور رياضة العقل.
(12) شريف يوسف، تأثير الفكر العربي العلمي في الغرب، أفاق عربية، شباط/آذار 1981م، بغداد.
(13) العلامة الخواجة نصير الدين الطوسي، محمد تقي مدرسي رضوي، تعريب علي هاشم الأسدي، طهران، 2001م.
(14) نصير الدين الطوسي (597هـ /1209م، 672هـ/1274م )،ن علماء الإسلام ولد في طوس على تخوم نيسابور في فارس وأنتقل يافعا إلى بغداد، وشارك في المحافظة على ما تبقى من أرث بغداد بعد سقوطها على يد التتر، وحامى على الكتب وأنشأ مرصدا في مراغة في تبريز، وجمع أهل البناء، وتوج مجهوده ورعيله في إشهار التتر إسلامهم. مات ودفن في بغداد.
(15) د.صالح لمعي، المصدر السابق
(16) د.كامل حيدر، العمارة العربية الإسلامية، ص30، بيروت 1994م.
(17) يرجح كريزويل بناء الأخيضر الى عام (164هـ/780م ) بينما (موسيل) يأخره إلى قرن ونيف بعد ذلك، إلى فترة سامراء، لما بين عناصرهما من محاكاة.
(18) د.صالح لمعي، المصدر السابق.
(19) أندريه باكار، المغرب والحرف التقليدية الإسلامية في العمارة، المجلد الأول، ص288، باريس1984م.
(20) ثمة طريقتين لتراكب الآجر تدعى لدى أهل الحرفة في العراق (جفقيم ) أو(درز).
(21) يعتقد أنه النبي الذي كفل بني إسرائيل لدى نبوخذ نصر بعد السبي البابلي، وكان مولده في بانياس بالشام وثمة مدافن عدة له إحداها في جبل قاسيون في دمشق وأخرى في مدينة (الأوجام) في المنطقة الشرقية من المملكة العربية. وإزالته السلطات لتنافيه مع المنهج المذهبي. وثمة المثال الموجود في بابل العراق.