Take a fresh look at your lifestyle.

شهر رمضان ومدينة النجف روحانية الشهر.. وقدسية المكان

0 661

                    لكل مدينة عاداتها وتقاليدها وطقوسها التي تمتاز بها عن غيرها في شهر رمضان المبارك وهذا يرجع بالتأكيد إلى تاريخ هذه المدينة وبيئتها وعلاقاتها الاجتماعية فتنفرد كل مدينة بمراسيم رمضانية تترافق مع حالة الصوم والانقطاع إلى عبادة الله تعالى والأمر ينطبق على مدينة النجف الأشرف وهي المدينة المقدسة التي تشرفت بمرقد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) وكان لهذا الارتباط الخالد بين المدينة وإمام المتقين أثره في أجواء رمضان الروحانية والتعبد الملتزم والتقرب الشديد من الله وحالة التوهج الوجداني الروحي والانغماس في عالم من الطهر والفضائل وكل هذا يترافق مع ما لسكان المدينة وأهلها من عادات وتقاليد وطقوس تجسد فرحة صومهم في هذا الشهر العظيم وتعبر عن واقعهم وحقيقة التكوين الاجتماعي للمدينة حتى عد هذا الشهر الفضيل من المناسبات الدينية والروحية التي ينتظرها النجفيون بفارغ الصبر من كل عام ففي هذا الشهر تتقد في أرواحهم ذكريات التواريخ الملحمية الكبرى وسير أئمة الهدى وفضائلهم.

كما أسلفنا فإن النجفيين ينتظرون شهر رمضان الكريم بروح إيمانية وشعور بالابتهاج ولهذا فهم يسبقون أيام الشهر بالصوم في بداية شهر شعبان أو منتصفه أو أواخره ثم يبدأ الأهالي بمراقبة رمضان لتوقيت بداية صيامهم الشرعي ودائما ما يصعدون الأماكن المرتفعة وخاصة جبل الحويش لمراقبة ظهور بوارق شهر رمضان وتبقى مع هذا كله الكلمة الفصل عند أحد المراجع العظام في تثبيت بداية الشهر عند ورود الأدلة الشرعية إليه.

تتحول حياة المدينة مع حلول الشهر المبارك إلى روحانية أكثر فكل شيء مكرس للعبادة والصلاة والتقرب إلى الله تعالى في الوقت الذي تغلق فيه المطاعم العامة والمقاهي ويقضي النجفي يومه الرمضاني في التفكر وأعمال الخير وقراءة القرآن الكريم والأدعية المعروفة والموجودة في كتب مثل مفاتيح الجنان وضياء الصالحين والمنتخب وغيرها من الكتب المعتبرة ويقضي البعض نهاره في زيارات العتبات المقدسة في النجف والكوفة وفيهما تقرأ الأدعية المخصوصة لشهر رمضان في الوقت الذي ينقطع البعض إلى العبادة والتبتل في أحد هذه الأماكن ولاسيما في مسجد الكوفة والحقيقة إن اليوم الرمضاني في النجف مليء بالأذكار والبحث عن أعمال الخير والثواب فهناك من يقدم المساعدات والمعونات إلى العوائل الفقيرة وهناك من يعمل على خدمة الزائرين والغرباء القادمين إلى المدينة وفي حالة أخرى يقضي البعض يومه في المساجد والجوامع وفي حالة من التأمل في عظمة الخالق وقراءة كتابه العزيز ومن جانب آخر فأن ربات البيوت بعد أن يكن قد فرغن من الصلوات والأدعية يقمن بأعداد طعام الإفطار بما تيسر من الطعام وفي هذا الشهر يكون الطعام المعد للإفطار مميزاً ونجفياً خالصاً مع ما يشتهر به المطبخ النجفي من جودة مأكولاته وطيب مذاقها ولعل (الفسنجون) وهو الأكلة النجفية المعروفة لا تخلو منه موائد النجفيين.

بعد يوم من الصيام ورفع أذان المغرب وتناول طعام الإفطار يتجه اغلب أهالي النجف إلى زيارة مرقد أمير المؤمنين(عليه السلام)
في الوقت الذي يصدح فيه دعاء الافتتاح في كل أرجاء المدينة ناشراً الشعور بالأمان والارتياح والفرح في النفوس المتطهرة من الأدران وبعد الإفطار تكاد تمتلئ الشوارع المحيطة بالضريح المقدس بالناس ومن الطرائف أن التوسع العمراني وإنشاء الأحياء الجديدة في المدينة قد جعل المعارف لا يجتمعون ويلتقون إلا في شهر رمضان فتسود الذكريات الجميلة والألفة بين الجميع.

وبسبب البيئة العلمية والثقافية للنجف الأشرف فإن المدينة تشهد في هذا الشهر عدداً كبيراً من المجالس والملتقيات والأمسيات الأدبية وتكاد أغلب البيوتات النجفية المعروفة تفتح مجالسها حيث يلتقي الجميع ويتداولون في الكثير من القضايا وتمتاز هذه المجالس التي تفتح عادة بعد وقت الإفطار بالمساجلات الشعرية والمطارحات الدينية والأدبية وحتى السياسية ويحضر هذا المجالس والأمسيات الباحثون عن المعرفة والأدباء والشعراء وفي أحدى فصولها يتم توزيع الحلويات على الحاضرين وقد تستمر هذه المجالس إلى أوقات مبكرة من الصباح أو إلى وقت السحور.

والمجالس واحدة من الميزات التي يمتاز بها شهر رمضان في مدينة النجف الأشرف بل إن كثيراً من هذه المجالس التي ظهر فيها شعراء وأدباء نجفيون مشهورون لا تفتح أبوابها إلا في هذا الشهر.

ومن لا يقضي ليله في هذه المجالس فهناك التزاور بين العوائل النجفية أو بين العائلة الواحدة التي تفرعت إلى عدة أسر حيث تقضي هذه العوائل الأماسي الرمضانية الجميلة بالإضافة إلى ذلك فإن العوائل النجفية المتجاورة تعطي بعضها البعض ما جادت به من أكلات وحلويات كجزء من الموروث النجفي القائم على الكرم والسخاء والتعاون ومن جانب آخر فهناك من يقيم من أهل الخير والصلاح وجبات للإفطار للمعارف أو للفقراء والمحتاجين وخاصة يوم الخميس من كل أسبوع والمعروف أن النجفيين يتوجهون إلى زيارة كربلاء المقدسة في يوم الخميس من كل أسبوع أفواجاً وزرافات ففي هذا اليوم تخف الحركة في الشوارع بعد صلاة الظهر نتيجة ذهاب الكثيرين لزيارة كربلاء وهذه واحدة من الطقوس النجفية المعروفة طلباً للثواب ومن المعروف أيضاً أن الدراسة في المدارس الدينية في النجف تتعطل في هذا الشهر إذ يتفرغ طلبة العلوم الدينية للصوم والعبادة والزيارات إلى المراقد المقدسة في النجف والكوفة وكربلاء.

 

ويحمل أحد الشعراء ليلة رمضانية نجفية في عدة أبيات يشير الاطلاع عليها إلى روعة الأجواء التي تعيشها المدينة وقدسيتها والبهاء الذي يسيطر على كل شيء فيها والتفاعل الروحي مع شهر الصوم يقول الشاعر:
ترى زحام الناس في هذا الحرم
يرجون لطف ذي الجلال والكرم
هذا تراه يقرأ الدعاءا
وذاك يطري الحمد والثناءا
وذا يصلي بدموع تنهمر
بين يدي رب عزيز مقتدر
بعد زيارة الإمام والدعا
ينتشر الناس لكل ما دعا
فبعضهم يفضّل النواديا
يصبو إليها رائحاً وغاديا
شتى الأحاديث بها تدور
تستخبر الأحوال والأمور
وربما تطرح فيها مسألة
أو ربما تحل فيها مشكلة
وقد يخوض لجج السياسة
من دون تمرين ولا دراسة
ومن المناسبات المهمة التي يحييها النجفيون بكل فئاتهم وطبقاتهم ويعدون لها العدة مناسبة مولد الإمام الحسنِ(عليه السلام) يوم الخامس عشر من رمضان ففي هذا اليوم المبارك تنتشر في المدينة علامات الزينة والفرح وتستعد كل العوائل النجفية لهذا اليوم بإعداد الحلويات والماجينة وفي هذه المناسبة يقوم الأطفال الذين يقرعون الطبول بالدوران في الشوارع والساحات مبتهجين مارين على الدور السكنية وهم يرددون (ماجينا لولا الحسن ما جينا) فيعطيهم البعض الحلويات وآخرون يهبونهم نقوداً لتعم الفرحة الجميع صغاراً وكباراً ويخصص النجفيون كل وقتهم في هذا اليوم للاحتفاء بمولد الحسن(عليه السلام) سواء في بيوتهم وحتى في المجالس والمنتديات التي يكون موضوعها الرئيس عن الإمام الحسن(عليه السلام) وهناك من الباحثين من يقدم محاضرات وبحوثاً عن الإمام وسيرة حياته كما وتلقى القصائد الشعرية بهذه المناسبة المبهجة.

كل شيء في المدينة المقدسة يشير إلى فضيلة الشهر وتميزه عن بقية أشهر السنة وحتى أوقات العمل تكاد تتغير حيث يقضي الصائم ليله في القراءات القرآنية والأدعية وحضور المجالس والزيارات فيتأخر في نومه بعد السحور ليبدأ عمله متأخراً وهي عادة سادت المدينة تمييزاً لشهر رمضان.

وفي ليلة القدر المباركة وفيها استشهاد أمير المؤمنين(عليه السلام) يحيي النجفيون ومعهم الآلاف من المؤمنين المتدفقين من كل أنحاء العراق هذه المناسبة بأجواء حزينة وإقامة المآتم والمجالس وتقديراً منهم لهذه المناسبة يعمد أهالي المدينة إلى أعداد الطعام وتوزيعه على الجيران وعلى العوائل الفقيرة ويكاد (الفسنجون) يكون الطبق الأكثر شهرة في هذا اليوم فضلاً عن السمك والدجاج وغيرها من الأكلات النجفية المعروفة وعلى جانب موازٍ لذلك فإن النجفيين يقضون الوقت في قراءة الأدعية المختارة والدعاء لتحقيق المطالب والأماني وفي ليلة الاستشهاد تستمر الحياة في النجف إلى وقت السحور بحركة مستمرة ودائية وحشود من المؤمنين اللذين يؤدون مناسك الزيارة للضريح المقدس واستكمالاً لذلك فإن النجفيين يوفرون ما يحتاجه الزائرون من طعام وشراب وخدمات أخرى للحصول على الثواب وشفاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام).

بعد إحيائهم لذكرى الاستشهاد تدخل المدينة في العشرة الأخيرة من شهر رمضان وتستمر لياليه بجمالها وجاذبيتها وسط أجواء من الروحانية وطلب المغفرة والثواب الجزيل فليالي رمضان هي الأبهى والأكثر تألقاً من بين كل الليالي فالصائم الذي قضى نهاره صائماً يجد في الليل لذة الإفطار وسمو الذات التي تغلبت على الصعاب فيخشع متضرعاً إلى الله تعالى طالباً الرحمة والقبول والاستجابة للدعاء فبين الصوم وأعمال الخير وقراءة القرآن الكريم وختمه والأدعية وإعداد الموائد وتبادل الزيارات وحضور المجالس النجفية والاحتفال بمناسباته الدينية يقضي النجفي الشهر المبارك مراعياً حرمته وقدسيته حتى يصل إلى اليوم الذي ينتظره الصائمون وهو يوم عيد الفطر المبارك فيبدأ الأهالي الاستجابة لدعوات المراجع العظام بمراقبة حلول هلال العيد فترى

تجمع المؤمنين على جبل الحويش وهم يراقبون الأفق بحثاً عن الهلال وقت الغروب وحين تتم الرؤية يعم الفرح الجميع بعد أن أدّوا صيامهم بشكل مقبول وهنا وقبل حلول صباح العيد تعد العوائل النجفية حلوياتها المعروفة وتشتري لأطفالها الملابس الجديدة المتأنقة فيسرح الجميع في العيد فرحاً وحبوراً ولهواً بريئاً فلا شيء أروع من فرحة الصائم وقد حل عليه عيد الفطر المبارك ولا شيء أحلى من لقاء الأهل والأعزاء في هذا اليوم المبارك ففيه تزول الخصومات ويقترب المتباعدون فهو من رب العالمين رحمة لعباده أجمعين ورسالة للتسامح والتصافي.
هكذا يقضي النجفيون أيام شهر رمضان المبارك وربما هناك ما يميز المدينة عن غيرها بوصفها مركزاً للمرجعية الدينية العليا وموطناً للعلم والثقافة

نشرت في العدد 20

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.