لكل مدينة عاداتها وتقاليدها وطقوسها التي تمتاز بها عن غيرها في شهر رمضان المبارك وهذا يرجع بالتأكيد إلى تاريخ هذه المدينة وبيئتها وعلاقاتها الاجتماعية فتنفرد كل مدينة بمراسيم رمضانية تترافق مع حالة الصوم والانقطاع إلى عبادة الله تعالى والأمر ينطبق على مدينة النجف الأشرف وهي المدينة المقدسة التي تشرفت بمرقد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) وكان لهذا الارتباط الخالد بين المدينة وإمام المتقين أثره في أجواء رمضان الروحانية والتعبد الملتزم والتقرب الشديد من الله وحالة التوهج الوجداني الروحي والانغماس في عالم من الطهر والفضائل وكل هذا يترافق مع ما لسكان المدينة وأهلها من عادات وتقاليد وطقوس تجسد فرحة صومهم في هذا الشهر العظيم وتعبر عن واقعهم وحقيقة التكوين الاجتماعي للمدينة حتى عد هذا الشهر الفضيل من المناسبات الدينية والروحية التي ينتظرها النجفيون بفارغ الصبر من كل عام ففي هذا الشهر تتقد في أرواحهم ذكريات التواريخ الملحمية الكبرى وسير أئمة الهدى وفضائلهم.
كما أسلفنا فإن النجفيين ينتظرون شهر رمضان الكريم بروح إيمانية وشعور بالابتهاج ولهذا فهم يسبقون أيام الشهر بالصوم في بداية شهر شعبان أو منتصفه أو أواخره ثم يبدأ الأهالي بمراقبة رمضان لتوقيت بداية صيامهم الشرعي ودائما ما يصعدون الأماكن المرتفعة وخاصة جبل الحويش لمراقبة ظهور بوارق شهر رمضان وتبقى مع هذا كله الكلمة الفصل عند أحد المراجع العظام في تثبيت بداية الشهر عند ورود الأدلة الشرعية إليه.
تتحول حياة المدينة مع حلول الشهر المبارك إلى روحانية أكثر فكل شيء مكرس للعبادة والصلاة والتقرب إلى الله تعالى في الوقت الذي تغلق فيه المطاعم العامة والمقاهي ويقضي النجفي يومه الرمضاني في التفكر وأعمال الخير وقراءة القرآن الكريم والأدعية المعروفة والموجودة في كتب مثل مفاتيح الجنان وضياء الصالحين والمنتخب وغيرها من الكتب المعتبرة ويقضي البعض نهاره في زيارات العتبات المقدسة في النجف والكوفة وفيهما تقرأ الأدعية المخصوصة لشهر رمضان في الوقت الذي ينقطع البعض إلى العبادة والتبتل في أحد هذه الأماكن ولاسيما في مسجد الكوفة والحقيقة إن اليوم الرمضاني في النجف مليء بالأذكار والبحث عن أعمال الخير والثواب فهناك من يقدم المساعدات والمعونات إلى العوائل الفقيرة وهناك من يعمل على خدمة الزائرين والغرباء القادمين إلى المدينة وفي حالة أخرى يقضي البعض يومه في المساجد والجوامع وفي حالة من التأمل في عظمة الخالق وقراءة كتابه العزيز ومن جانب آخر فأن ربات البيوت بعد أن يكن قد فرغن من الصلوات والأدعية يقمن بأعداد طعام الإفطار بما تيسر من الطعام وفي هذا الشهر يكون الطعام المعد للإفطار مميزاً ونجفياً خالصاً مع ما يشتهر به المطبخ النجفي من جودة مأكولاته وطيب مذاقها ولعل (الفسنجون) وهو الأكلة النجفية المعروفة لا تخلو منه موائد النجفيين.
بعد يوم من الصيام ورفع أذان المغرب وتناول طعام الإفطار يتجه اغلب أهالي النجف إلى زيارة مرقد أمير المؤمنين(عليه السلام)
في الوقت الذي يصدح فيه دعاء الافتتاح في كل أرجاء المدينة ناشراً الشعور بالأمان والارتياح والفرح في النفوس المتطهرة من الأدران وبعد الإفطار تكاد تمتلئ الشوارع المحيطة بالضريح المقدس بالناس ومن الطرائف أن التوسع العمراني وإنشاء الأحياء الجديدة في المدينة قد جعل المعارف لا يجتمعون ويلتقون إلا في شهر رمضان فتسود الذكريات الجميلة والألفة بين الجميع.
وبسبب البيئة العلمية والثقافية للنجف الأشرف فإن المدينة تشهد في هذا الشهر عدداً كبيراً من المجالس والملتقيات والأمسيات الأدبية وتكاد أغلب البيوتات النجفية المعروفة تفتح مجالسها حيث يلتقي الجميع ويتداولون في الكثير من القضايا وتمتاز هذه المجالس التي تفتح عادة بعد وقت الإفطار بالمساجلات الشعرية والمطارحات الدينية والأدبية وحتى السياسية ويحضر هذا المجالس والأمسيات الباحثون عن المعرفة والأدباء والشعراء وفي أحدى فصولها يتم توزيع الحلويات على الحاضرين وقد تستمر هذه المجالس إلى أوقات مبكرة من الصباح أو إلى وقت السحور.
والمجالس واحدة من الميزات التي يمتاز بها شهر رمضان في مدينة النجف الأشرف بل إن كثيراً من هذه المجالس التي ظهر فيها شعراء وأدباء نجفيون مشهورون لا تفتح أبوابها إلا في هذا الشهر.
ومن لا يقضي ليله في هذه المجالس فهناك التزاور بين العوائل النجفية أو بين العائلة الواحدة التي تفرعت إلى عدة أسر حيث تقضي هذه العوائل الأماسي الرمضانية الجميلة بالإضافة إلى ذلك فإن العوائل النجفية المتجاورة تعطي بعضها البعض ما جادت به من أكلات وحلويات كجزء من الموروث النجفي القائم على الكرم والسخاء والتعاون ومن جانب آخر فهناك من يقيم من أهل الخير والصلاح وجبات للإفطار للمعارف أو للفقراء والمحتاجين وخاصة يوم الخميس من كل أسبوع والمعروف أن النجفيين يتوجهون إلى زيارة كربلاء المقدسة في يوم الخميس من كل أسبوع أفواجاً وزرافات ففي هذا اليوم تخف الحركة في الشوارع بعد صلاة الظهر نتيجة ذهاب الكثيرين لزيارة كربلاء وهذه واحدة من الطقوس النجفية المعروفة طلباً للثواب ومن المعروف أيضاً أن الدراسة في المدارس الدينية في النجف تتعطل في هذا الشهر إذ يتفرغ طلبة العلوم الدينية للصوم والعبادة والزيارات إلى المراقد المقدسة في النجف والكوفة وكربلاء.