Take a fresh look at your lifestyle.

مزار موسى المبرقع.. نفحة جوادية تفوح في فضاء قم المقدسة

0 3٬154

                    ها هي مدينة (قُم) المقدسة تطالعنا ونحن نجتاز هذه الجبال المنتشرة هنا وهناك وكأنها قد وزعت على الأرض بطريقة هندسية فنية أضفت على مدخل المدينة جمالية ورونقاً.

وبفضل وجود السيدة فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) أصبحت هذه المدينة محطاً لأنظار الزائرين الذين يمموا وجوههم شطر ثامن الأئمة الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) وكأنما قصدهم دخول بقعته الطاهرة من باب أخته المعصومة(عليها السلام).

ولعل القاصد إلى مدينة (قُم) لأول مرة يتبادر إلى ذهنه بأن (قُم) تخلو من المزارات الخاصة بأبناء الأئمة عدا هذه السيدة الطاهرة كريمة العبد الصالح، باب الحوائج موسى بن جعفر(عليه السلام) ولكنه سيرى إن أتيحت له الفرصة عدداً من المزارات بين الابن المباشر للإمام وآخر ممن ينحدر من أبناء الإمام إضافة لذلك العدد الكبير من قبور العلماء الأعلام والأولياء الصالحين.
من بين أولاد الأئمة زرنا ونحن في هذه المدينة المباركة مرقد السيد موسى المبرقع ابن الإمام محمد الجواد(عليه السلام)، وشقيق الإمام علي الهادي(عليه السلام) ومن هناك سجلنا استطلاع مجلتنا لهذا العدد الذي نرجو أن نكون قد وفقنا في تسليط الضوء على هذا المرقد المطهر.

 

سبب تسمية المدينة بـ(قُم)
في العدد الأول من مجلتنا أجرى أخونا السيد علي القاضي استطلاعاً عن مرقد السيدة فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر بعنوان (لقطة من الجنة) وقد غطى حفظه الله مساحة واسعة من تاريخ مدينة (قُم) فلم يترك لنا سوى السبب في إطلاق لفظة (قُم) على هذه المدينة، وقد اختلفت الآراء حول ذلك ونذكر من تلك الآراء:

1ـ يذهب مصنف كتاب (قُم نامه) إلى (أن ظهور قُم يعود إلى أواخر القرن الأول الهجري ويقول: إن عرباً من الأشاعرة كانوا من شيعة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)،

تعرضوا لظلم وجور واضطهاد بني أمية، فهربوا من العراق إلى إيران وسكنوا (قُميندان) وبعد مدة طويلة من الحصار أنشأوا سبع قرى صغيرة تعرف كبراها بـ(قُميندان) فكانت أساساً للمدينة)(1). ويوافق هذا القول ما ذكره ياقوت بقوله بعد ذكره للأشعريين: (وصارت السبع قرى سبع محال بها وباسم إحداها وهي كُمُندان فأسقطوا بعض حروفها فسميت بتعريبهم قُماً)(2).

2ـ قيل: إن اسم (قُم) قديماً كان (قوانا أو كوانا) ثم تحولت إلى (قُم) شيئاً فشيئاً إلا أن في الخبر جاء (أن رسول الله رأى في ليلة المعراج وهو في طريقه إلى السماء إبليس جالساً في هذا المكان واضعاً رأسه بين رجليه فصرخ(صلى الله عليه وآله) به قائلاً: قُم يا ملعون) ومن ذلك أطلق على هذه الأرض اسم قُم(3).

3ـ أطلق اسم (قُم) على هذه البقعة لانخفاض سطحها إذا ما قورن بالسطوح المحاذية لها وعلى أثر هذا الانخفاض صارت تختزن مياه أنهار تلك المنطقة في أرضها، وكل أرض تختزن مياهاً أو بقعة يتجمع فيها الماء يطلق عليها اسم (قُم) كما يطلق على الأداة التي تختزن الماء اسم (قمقمة).

4ـ وقيل: إن في تلك البقعة عين ماء نضاخة باسم (كُب) وكان ماؤها يجتمع في منطقة (قُم) الحالية، وقد عرف النهر الذي كان ينبع من تلك العين باسم (كُب رود) ويقال لها بالعربي: (قُم رود)، فأطلق على هذه المنطقة بسبب وجود هذا النهر المسمى (قُم رود) اسم (قُم)(4).

5ـ وقيل: إن الشخص الذي بنى مدينة (قُم) كان يدعى (قُم سارة بن لهراسب) فسميت طبقاً لاسمه (قُم)(5).
6ـ وقيل: إن أصل تسميتها (كم) التي معناها: القليل إذ كانت قرية صغيرة ثم عربت إلى (قُم) بعد الفتح الإسلامي(6).

موقع (قُم) الجغرافي
(إن مدينة قُم هي إحدى المدن الكائنة بمحاذاة صحراء ملحية قاحلة، وتبعد هذه المدينة المقدسة الواقعة غرب البحيرة الملحية عن طهران العاصمة مسافة ما يقرب من (150كم)، كما أنها تقع على هضبة ترتفع بمقدار تسعمائة متر وثلاثة أمتار عن سطح البحر.


يحدها من الشمال الري وطهران ومن الجنوب كاشان ومحلات بينما تحدها تفرش وساوة من جهة الغرب وصحراء ملحية قارة من الشرق)(7).

تقع مدينة (قُم) على الطريق الممتد من طهران إلى اصفهان حيث تبعد عن اصفهان (273كم) (والمدينة الآن مقسمة إلى قسمين شأنها شأن كثير من المدن القديمة، القسم القديم ذو الطرق الملتوية والأزقة الضيقة والأسواق المظلمة، وفي هذا القسم توجد المقابر والمساجد والمعابد الأثرية، والقسم الجديد ذو الشوارع العريضة والبنايات العصرية والأزقة المستقيمة)(8).

هجرة العلويين إلى (قُم)
بينما كان العلويون وشيعتهم يعانون الأمرين من الدولتين الأموية والعباسية اللتين تتبعتا أئمة أهل البيت(عليه السلام) وذريتهم الطاهرة وشيعتهم النجباء كانت (قُم) الملاذ الآمن الذي وجدوا فيه فسحة من العيش وأملاً في الحياة، فكان توافدهم على هذه المدينة مستمراً يبتعدون عن أوطانهم ويتغربون هرباً من سياسة الدولة الحاكمة ذات البعد الدموي والفعل الإرهابي.

وكان صاحب هذا المزار السيد موسى المبرقع واحداً من العلويين الذين آثروا الرحيل إلى (قُم) على البقاء في الكوفة هذا والعيون العباسية تترصده فبالأمس دسوا لأبيه محمد بن علي
الجوادِ(عليه السلام) سماً قاتلاً واليوم أخرجوا أخاه علياً الهادي(عليه السلام) قسراً من مدينة جده (المدينة المنورة) وجاؤوا به نحو سامراء مركز الخلافة العباسية الجديد، ثم سقوه السم أيضاً، ولا يدري ماذا سيخبئ له القدر غداً؟!.

 

لمحات من حياة السيد المبرقع
انحدر السيد موسى المبرقع من السلالة الطاهرة فهو(عليه السلام) موسى ابن الإمام التاسع محمد الجواد ابن علي الرضا ابن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن علي السجاد ابن الحسين الشهيد ابن علي أمير المؤمنين ابن أبي طالب(عليهم السلام).


أما أمه فهي سمانة المغربية، فهوَ(عليه السلام) شقيق الإمام الهادي(عليه السلام) لأمه وأبيه، وقد قال عنها الإمام الجواد(عليه السلام): (إن اسمها سمانة وأنها أمة عارفة بحقي وهي في الجنة ولا يقربها شيطان مارد ولا ينالها كيد جبار عنيد وهي كانت بعين الله التي لا تنام ولا تخلف عن أمهات الصديقين الصالحات)(9).

وقد روى الحميري عن أحمد ابن محمد بن عيسى عن أبيه: (إن أبا
جعفر(عليه السلام) لما أراد الخروج من المدينة إلى العراق ومعاودتها، أجلس أبا الحسن(عليه السلام) في حجره بعد النص عليه وقال: ما الذي أهدي إليك من طرائف العراق، فقال(عليه السلام): سيفاً كأنه شعلة نار، ثم التفت إلى ابنه موسى، فقال: ما تحب أنت؟ فقال: فرساً، فقال

جعفر(عليه السلام): أشبهني أبو الحسن وأشبه موسى أمه)(10).
ولد أبو أحمد موسى في المدينة المنورة عام (214هـ) أي بعد مرور عام على مولد أخيه الإمام الهادي(عليه السلام) الذي ولد في سنة (213هـ)، وقد استشهد والده الإمام الجواد(عليه السلام) سنة (220هـ) فيكون عمر موسى يوم شهادة والده(عليه السلام) ست سنين فنشأ بصحبة أخيه الإمام الهادي، وقد استفاد من صحبته لأخيه(عليه السلام) الكثير من العلوم والمعارف، وليس ذلك بعزيز بعد أن كان بيته بيت إمامة، وفيه من العلوم والمعارف ما عجزت عنه البشرية، وفي هذا السياق من المناسب أن نذكر جانباً من الرواية التي ذكرها ابن شعبة الحراني لما فيها من الأهمية في هذا المجال.

قال ابن شعبة الحراني: (قال موسى بن محمد بن الرضا، لقيت يحيى بن أكثم في دار العامة، فسألني عن مسائل فجئت إلى أخي علي بن محمد(عليهما السلام) فدار بيني وبينه من المواعظ ما حملني وبصرني طاعته، فقلت له: جعلت فداك إن ابن أكثم كتب يسألني عن مسائل لأفتيه فيها، فضحك(عليه السلام) ثم قال: فهل أفتيته؟ قلت: لا، لم أعرفها، قال(عليه السلام): وما هي؟ قلت: يسألني عن قول الله (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) نبي الله كان محتاجاً إلى علم آصف!!، وعن قوله: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا) سجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء!، وعن قوله: (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ

من المخاطب بالآية، فإن كان المخاطب النبي(صلى الله عليه وآله) فقد شك، وإن كان المخاطب غيره فعلى من إذاً أنزل الكتاب، وعن قوله: (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ) ما هذه الأبحر وأين هي، … ثم ألحق موسى هذه الأسئلة عدداً آخر منها فأجاب عنها جميعها الإمام(عليه السلام) قائلاً: اكتب إليه، قلت: وما أكتب؟ قالَ(عليه السلام): اكتب بسم الله الرحمن الرحيم… وأنت فألهمك الله الرشد أتاني كتابك فامتحنتنا به من تعنتك لتجد إلى الطعن سبيلا إن قصرنا فيها، والله يكافيك على نيتك وقد شرحنا مسائلك فأصغ إليها سمعك وذلل لها فهمك واشغل بها قلبك، فقد لزمتك الحجة والسلام.

سألت عن قول الله جل وعز: (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) فهو آصف بن برخيا ولم يعجز سليمان(عليه السلام) عن معرفة ما عرفه آصف لكنه صلوات الله عليه أحب أن يُعرَّف أمته من الجن والإنس أنه الحجة من بعده، وذلك من علم سليمانَ(عليه السلام) أودعه عند آصف بأمر الله، ففهمه ذلك لئلا يختلف عليه في إمامته ودلالته كما فهم سليمان(عليه السلام) في حياة داود(عليه السلام) لتعرف نبوته وإمامته من بعده لتأكد الحجة على الخلق.


أما سجود يعقوب(عليه السلام) وولده فكان طاعة لله ومحبة ليوسف(عليه السلام) كما أن السجود من الملائكة لآدم(عليه السلام) لم يكن لآدم(عليه السلام) وإنما كان ذلك طاعة لله ومحبة منهم لآدم(عليه السلام)،

فسجود يعقوب(عليه السلام) وولده ليوسف(عليه السلام) معهم كان شكراً لله باجتماع شملهم، ألم تره يقول في شكره ذلك الوقت (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).

وأما قوله: (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ) فإن المخاطب به رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولم يكن في شك مما أنزل إليه ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث الله نبياً من الملائكة؟ إذ لم يفرق بين نبيه وبيننا في الاستغناء عن المآكل والمشارب والمشي في الأسواق، فأوحى الله إلى نبيه، فاسأل الذين يقرؤون الكتاب بمحضر الجهلة، هل بعث الله رسولاً قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أسوة وإنما قال: (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ) ولم يكن شك ولكن للنصفة كما قال: (تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) ولو قال: عليكم لم يجيبوا إلى المباهلة، وقد علم الله أن نبيه يؤدي عنه رسالاته وما هو من الكاذبين، فكذلك عرف النبي أنه صادق فيما يقول ولكن أحب أن ينصف من نفسه.

أما قوله: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ) فهو كذلك لو أن أشجار الدنيا أقلام والبحر يمده سبعة أبحر وانفجرت الأرض عيوناً لنفدت قبل أن تنفد كلمات الله وهي عين الكبريت وعين النمر وعين برهوت وعين طبرية وحمة ماسبذان وحمة أفريقية يدعى لسنان وعين بحرون ونحن كلمات الله التي لا تنفد ولا تدرك فضائلنا).

هجرة السيد المبرقع إلى (قُم)

أشرنا فيما تقدم إلى أن سياسة حكام بني أمية وبني العباس كان اعتمادها على أساليب البطش والتصفية الجسدية ضد العلويين وأتباعهم، وقد أدت هذه السياسة إلى نزوح عدد غير قليل منهم نحو أطراف الأرض وشعاب الجبال.

وقد وجد السيد موسى المبرقع في هذا الطريق حلاً مريحاً لمشاكل ملاحقة السلطة العباسية فانتقل من الكوفة إلى (قُم) وكان (أول من انتقل من السادة الحسينية إلى (قُم) الشريف أبو الحسن الحسين بن الحسين بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق(عليه السلام))(12).

قدم السيد موسى المبرقع (قُم) سنة (256هـ) (وهو أول من انتقل من الكوفة إلى (قُم) من السادات الرضوية)(13).
والمقصود منهم هو من انتمى إلى الإمام الرضا من ذرية الإمام الجواد وولده الإمام الهادي(عليهم السلام).

ولم يسلط لنا التاريخ أضواءً على حياة السيد موسى المبرقع في الكوفة كيف كانت والظاهر أن البرقع الذي كان يتلفع به في (قُم) خوفاً من أعدائه كان يستخدمه في (الكوفة) أيضاً ابتعاداً عن عيون السلطة وملاحقات الجواسيس، كما أن التاريخ لم يمدنا بمعلومات حول تاريخ هجرة السيد المبرقع من المدينة إلى الكوفة.

وكان البرقع الذي يضعه على وجهه سبباً في إخراجه من (قُم) (إذ لم يعرفه القُميون، فلما أخرجوه ذهب إلى (كاشان) وفيها تلقاه أحمد بن عبد العزيز بن دلف العجلي فأكرمه وخلع عليه الخلع الكثيرة والرواحل وجعل له في كل سنة ألف مثقال ذهباً تعطى له مع جواد مسرج، فلما عرفه القُميون أرسلوا زعماءهم من العرب إلى كاشان لطلبه ورده إلى (قُم)، واعتذروا منه وأكرموه فحسنت أحواله في (قُم) حتى اشترى قرى ومزارع بأمواله الخاصة ثم قدمت عليه بعد ذلك أخواته، زينب وأم محمد ميمونة بنات الإمام الجواد(عليه السلام) ثم قدمت بعدهن بريهة بنت موسى وجميعهن توفين في (قُم) ودفن عند فاطمة المعصومة سلام الله عليها)(14).

أما ذرية موسى المبرقع فقد انحصرت في ولده أحمد الذي أولد محمداً المشهور بـ(الأعرج) ومنه امتدت الذرية بين إيران والهند وباكستان والعراق وقد أصبح ولده نقباء الأشراف في (قُم).

وفي سنة (296هـ) في الثاني والعشرين من ربيع الثاني توفي موسى المبرقع ودفن في بيته بعد أن صلى عليه أمير (قُم) العباس بن عمرو الغنوي وكان هذا البيت قبل وروده لقُم ملكاً لمحمد بن الحسن بن أبي خالد الملقب بـ(شنبولة)، وهو أحد أصحاب الإمام الرضا(عليه السلام) ومن رواة الحديث وصاحب القول المشهور(15):
بئر معــطلة وقصـــــــــر مشرف
مثل لآل محـــــمد مستـــــــــطرف
فالناطق القصر المشيد منهم
والصامت البئر الذي لا ينزف

مرقد موسى المبرقع بين
الماضي والحاضر
عندما قدم موسى المبرقع إلى (قُم) مع عياله وأهله نزل محلة يقال لها: (موسويان) أي محلة الموسويين والظاهر أنها كانت تضم تجمعاً للسادة المنحدرين من ذرية الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) ولا ندري كيف ومتى تحول اسم هذه المحلة من (موسويان) إلى (جهل آختران) أو (جهل دختران).

تعني كلمة (جهل آختران) أربعين كوكباً ويقال: إن قبر موسى المبرقع أصبح فيما بعد مدفناً لأبنائه وذراريه خصوصاً وبعض السادة من ذرية أهل البيتِ(عليهم السلام) وفي وقت من الأوقات بلغ عدد الذين دفنوا في هذه المقبرة أربعين شخصاً بين رجل وامرأة فأطلق الناس عليها اسم أربعين كوكباً أي أربعين شخصاً زكياً من ذرية أهل
البيت(عليهم السلام) فشبهوا كل شخص من الأشخاص المدفونين في هذه البقعة بكوكب حتى أطلقوا عليها (جهل اختران) أو أربعين كوكباً.

في حين أن هناك من يطلق على هذا المكان (جهل دختران) أي الأربعين بنتاً حيث يرى أن هذا الاسم مأخوذ من حادثة دفن أربعين بنت في هذه المنطقة بعد أن قتلن، ولعل هنا من يقول أن أربعين سيدة من سيدات الأسرة العلوية دفنَّ في هذا المكان.
ومهما يكن السبب فالاسم لهذه المحلة قديم وليس وليد القرون الأخيرة كما صرح لنا بذلك جملة من سكان المحلة ذاتها التي لازالت تحافظ على تراثها القديم.

تقع محلة (جهل آختران) في منتصف شارع (آذر) تقريباً، وتبعد عن مرقد فاطمة المعصومة(عليها السلام) مسافة (2كم).
تفتقر كل المصادر العربية التي أتيح لنا الاطلاع عليها إلى ذكر تاريخ مرقد السيد موسى المبرقع ومراحل الأعمار التي مرّ بها، وكان علينا أن نحدد بعض الملامح العامة للمرقد قبل التحدث عما سجلناه في استطلاعنا هذا، حتى حصلنا على كتاب (تربت باكان قُم) باللغة الفارسية الذي يهتم بتراجم العلماء المدفونين في (قُم) المقدسة حيث قام بتأليفه الشيخ عبد الحسين جواهر كلام (الجواهري)، فما كان منا إلا الاستعانة ببعض الأخوة ممن لهم اطلاع ومعرفة باللغتين الفارسية والعربية وكان هذا الكتاب خير عون لنا في نيل ما نبتغيه حيث يذكر الشيخ الجواهري: (ومن هذه البقاع المطهرة، بقعة معروفة بـ(جهل اختران) وفيها كتيبة على المدخل تشير إلى أن هذا المكان هو مدفن جماعي لعدد من السادات المنحدرين من أئمة الهدى(عليهم السلام)، أما تاريخ الكتابة على هذه الكتيبة فيعود إلى سنة (851هـ)).

ثم يضيف الشيخ الجواهري (في عهد الشاه طهماسب الصفوي وبالتعيين سنة 953هـ تم إنشاء سقف مرتفع للمرقد كما أنشأت جدران عالية تحيط به وقد سُجل هذا الأعمار على كتيبة من الجص خطت بخط الثلث تعلو المدخل الرئيسي للمرقد جاء فيها: (قد صدر الحكم المطاع ببناء هذه العمارة الشريفة عن أعلى حضرت سلطان سلاطين الزمان أبي المظفر شاه طهماسب بهادر خان خلد الله سلطانه وأفاض على العالمين بره وإحسانه في شهور سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة).

ويقول المؤلف: (أصل هذا المكان عبارة عن مربع متساوي الأضلاع يقدر طول كل ضلع من أضلاعه حوالي خمسة أذرع وقد سقفت هذه البقعة المباركة بسقف مرتفع يبلغ ارتفاعه عشرين متراً تقريباً ومع هذا الارتفاع فلم يستعن المعمار بالأعمدة الحاملة لمثل هذا السقف المرتفع مما يدل على فن ومهارة المعمار الذي يعد من أشهر المعماريين في العهد الصفوي وهو البناء والمعمار الأستاذ سلطان قُمي، الذي أضفى على هيكل البناء جمالية فنية وهندسية… وفي هذه البقعة يوجد ثمانية عشر قبراً ـ كما يستفاد من تاريخ (قُم) القديم ـ لأشخاص مدفونين في هذه البقاع المطهرة)(16).
هذا ويطلق الناس في (قُم) على مرقد السيد موسى المبرقع (در بهشت) أي (باب الجنة).

 

المرقد اليوم
كما قلنا يقع المرقد في محلة (جهل اختران)، ومن خلال زقاق فرعي من الشارع العام (شارع آذر) يمكن الوصول إليه بمسافة تقدر بـ(100م) تقريباً وعن طريق المدخل الكبير (بوابة حديدية) يمكن الدخول إلى الصحن وهو عبارة عن ساحة واسعة تبلغ مساحتها (900م2) مرصوفة بالمرمر الذي يعلو القبور التي تكتظ بها مساحة الصحن إذ كما قلنا يعد هذا المكان مقبرة عامة تدفن فيها الناس موتاها، يقابل المدخل الذي اجتزناه مدخلاً آخراً إلا أنه مغلق، على يمين الصحن.

يوجد مدخلان مفتوحان يؤديان إلى باحة مسقفة كبيرة تجمع مدخلين لحجرتين منفصلتين، الحجرة المواجهة للزائر مرقد السيد موسى المبرقع، والحجرة الأخرى هي مزار (جهل آختران) أو (جهل دختران)، أما الباحة الكبيرة المسقفة التي ذكرناها فهي مصلى يجتمع فيه الناس لأداء الصلوات والأعمال المتعلقة بالزيارة، تبلغ مساحتها حوالي (250م2) وهي مقسمة إلى جزئين بواسطة أقواس يسدل منها ستار كي يفصل بين الرجال والنساء عند إقامة الصلاة ويرفع بعد انتهاء الصلاة.

أما حرم السيد موسى المبرقع فهو عبارة عن قاعة تبلغ مساحتها (100م2) وترتفع ببناء عالٍ وقديم من الطابوق إلى ارتفاع (12م) تقريباً تعلوها قبة مرتفعة البناء أيضاً حيث يبلغ قطرها (6م) وارتفاعها (8م) تبدو من الخارج وقد استخدم الجص في صقلها مما جعلها تبدو بيضاء، يتوسط الحرم ضريح يجمع السيد موسى المبرقع وحفيده محمد بن أحمد بن موسى، والصندوق الذي يعلو هذين القبرين حديدي مستطيل الشكل بمساحة تقدر بـ(24م2) وارتفاع (3م) تقريباً.

وفي الوقت الذي زرنا فيه المرقد وجدنا حركة العمل فيه قائمة على قدم وساق لغرض أعماره وترميمه وقد التقينا بالشيخ محمد حسين المراري المشرف على هذه الروضة المطهرة فبين لنا قائلاً: (يعود تاريخ بناء هذا المرقد الذي بقى على حاله لحد الآن إلى عام (800 هـ) حيث لم تدخل أي ترميمات عدا ما تلاحظوه من تجديد في جدران الحرم الداخلية وهذه الترميمات أجريت على نفقة ذرية السيد موسى المعروفين بـ(السادات الرضوية) الذين كانوا على استعداد تام لإنجاز كبير وهو إعادة أعمار وتأهيل المزار المطهر بأكمله إلا أنهم اكتفوا بتنفيذ الأعمال المحدودة التي تروها ريثما تبين وزارة الأوقاف رأيها في الأمر إذ لابد من تهيئة

مهندسين من قبلها للإشراف على التعمير والترميم. حالياً يقوم الفنانون في أصفهان بوضع اللمسات الأخيرة على الصندوق الجديد الذي سيوضع فوق الضريح المطهر، وقد كلف صنعه (100) مليون توماناً، كما أن القبة سوف تزجج وتزخرف من الداخل بالمرايا التي تتخللها الآيات القرآنية على شكل أطواق مع أسماء الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام) ومن الخارج سوف تكسى القبة بالكاشي القاشاني المعرق.

وعند سؤالنا الشيخ المراري عن عدم وجود منائر في هذا المزار، قال لنا: إن المرقد يخلو من المنائر منذ تأسيسه وإذا تم فعلاً التعمير الجديد فسوف تضاف إليه بالتأكيد).
وبصحبة أحد سدنة المرقد ارتقينا سطح المزار فبيّن لنا قائلاً: (هذه البيوت المجاورة التي تلاحظوها كلها وقف للسيد موسى المبرقع وفي النية إزالتها وتوسيع المزار كما أن في النية شراء بعض البيوت الأخرى، ثم ضمها للصحن وإضافة ملاحق أخرى اعتماداً على العمل بأسلوب المؤسسة الخيرية التي تضم إلى جانب الوقف، الخيرين وأبناء المنطقة).

بعد أن انتهينا من زيارة السيد المبرقع اتجهنا نحو مرقد الأربعين بنتاً (جهل دختران) الذي يقع على يمين الخارج من مرقد السيد موسى وبجنبه غرفة صغيرة أعدت لسدنة المزار المطهر، يتقدم المرقد رواق يمتد على واجهته ويتم الوصول إليه بعد اجتياز ثلاث درجات نزولاً، كما يتوسط الضريح المرقد وهو أكبر ضريح في (قُم) إذ تبلغ مساحته (50م2) يرتفع بمقدار (3م) تقريباً عن الأرض ببناء مكسو بالمرمر ثم يعلوه صندوق من الألمونيوم.

كما أن القبة تعد من أكبر القباب الموجودة في (قُم)، حيث يبلغ قطرها (10م) تقريباً في حين يبلغ ارتفاعها (3م) تقريباً والقبة مرصوفة من الداخل بالطابوق بطريقة هندسية جميلة ومتقنة حتى شكل هذا الرصف لوحة مزخرفة تنبئ عن مهارة المعمار ومن الخارج تبدو القبة بيضاء لأنها مكسوة بمادة الجص، تبلغ مساحة الحرم الكلية حوالي (75م2) تقريباً وقد قسمت إلى قسمين قسم خاص بالرجال وآخر بالنساء. أما الجدران فترتفع (8م) أو أكثر.

تقع خلف المزار حديقة كبيرة وأرض متروكة في النية إلحاقها بالمزار عند البدء بحملة التوسيع والإعمار الكبرى.
أما الجهة اليسرى من المدخل العام للمزار فتحتوي على جامع كبير تقام فيه الفواتح ومراسم الصلاة والمآتم الحسينية يليه رواق كبير مغلق تعلوه قبة صغيرة بيضاء أيضاً وتقع في مدخله بوابة صغيرة يطلق عليه مرقد (إمام زاده زيد) وعندما سألنا عنه قالوا لنا: إنه من أحفاد الإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام).

وقد ذكره الشيخ عبد الحسين الجواهري قائلاً: (وفي هذه البقاع المقدسة يوجد قبر السيد زيد، أحد أحفاد الإمام زين العابدين(عليه السلام)، والبقعة هذه كانت عبارة عن غرفة صغيرة آيلة للسقوط، إلا أنها اليوم أصبحت جزءاً من مزار السيد موسى المبرقع.

يرتفع القبر عن الأرض بمقدار ذراع وقد تم إكساؤه بالكاشي المعرق وخط عليه بالخط الثلث:

(بسم الله الرحمن الرحيم. كل شيء هالك إلا وجهه. له الحكم وإليه ترجعون. وقال النبي الأمي (صلوات الله عليه): من زار واحداً من ذريتي فكأنما زارني ومن زارني فقد زار الله عز وجل، هذا مضجع الإمام زيد بن الإمام زين العابدين علي بن الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام)، تشرف بهذا البناء الصدر الكبير خواجه بهاء الدين هبة الله القُمي في شهور سنة سبع وأربعين وثمانمائة).

كما تعلو المرقد قبة صغيرة، وقد كتب على جانب من جوانب المرقد قصة مفادها أن هذه العبارات كتبت بمادة القمح حيث زرعت حبة قمح واحدة في هذا المكان فنمت وأنتجت سبعين حبة وهذه السبعون حبة أيضاً زرعت فكل واحدة منها أنبتت سبعين حبة وبها تمت الكتابة وقد أخذ هذا المعنى شاعر فارسي فقال:
به يك دانه كُندم زلطف اله
تمامست كنبد به إقبال شاه
به سمي براهيم بن أويس
رسيده به اتمام اين باركاه
خرد كفت تاريخ اورا بكو:
به هفتاد ونه نهصدش كن نكاه
979هـ

يعود السيد زيد بنسبه إلى الإمام زين العابدين(عليه السلام) والظاهر من التحقيق احتمال كونه أحد شخصيتين فهو إما زيد بن حسن بن علي بن حمزة القُمي بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله الباهر بن الإمام زين العابدين(عليهم السلام) أو هو زيد بن إسحاق بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر(عليه السلام)
والعلم عند الله)(18).

في حين نلاحظ أن الاسم الظاهر على الضريح اليوم هو (زيد بن علي الأكبر بن محمد السليق بن عبيد الله بن محمد بن الحسن بن الحسين الأصغر ابن الإمام زين العابدين).
والمرقد اليوم عبارة عن حجرة صغيرة جديدة البناء تبلغ مساحتها (20م2) والصندوق يتوسط المرقد من الخشب مطلي باللون الأخضر بأبعاد (3×2) متر.
هاهم آل محمد(صلى الله عليه وآله) تفرقوا في أنحاء الأرض ورحم الله الشاعر حين قال:
مشرودون نفوا عن عقر دارهم
كأنهم قد جنوا ما ليس يغتفر

نشرت في العدد 19


(1) الأمين، دائرة المعارف الإسلامية الشيعية، 18/314.
(2) الحموي، معجم البلدان، 4/451.
(3) الشيرازي، قُم المقدسة رائدة الحضارة، ص73.
(4) المصدر السابق، ص72.
(5) المصدر السابق، ص73.
(6) دائرة المعارف الإمامية، 15/84.
(7) الشيرازي، قُم المقدسة رائدة الحضارة، ص74.
(8) الأمين، دائرة المعارف الإسلامية الشيعية، 18/314.
(9) ابن شهراشوب، المناقب، 2/426.
(10) الحسيني القزويني، موسوعة الإمام الجواد، 1/48.
(11) تحف العقول، ص481.
(12) الميرزا النوري، خاتمة المستدرك، 42/485.
(13) المفيد، الاختصاص، ص91.
(14) المصدر السابق.
(15) الصدوق، معاني الأخبار، ص112.
(16) تربت باكان قُم، 1/141.
(17) كما حدثنا بذلك جملة من أهل قُم.
(18) تربت باكان قُم، 1/143.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.