تمهيد
القراءة لغة: للقراءة في اللغة معان عدة. فهي تعني الجمع والضم وتأتي بمعنى الوقت. وتأتي بمعنى التتبع لجزيئات شيء، فقرأت الكتاب قراءة أي تتبعت كلماته نظراً ونطقاً بها أو تتبعت كلماته نظراً دون نطق(1).
القراءة اصطلاحاً
هي من المصطلحات الحديثة في النقد خاصة وتعني فهم النص وتفسيره وشرحه أو إعادة تشكيله على وفق رؤية القارئ ومنهجه، وهي في الدراسات القرآنية طريقة أداء الموضع في الآية صوتاً أو بنية أو تركيباً على وفق رواية القارئ عن شيوخه وعلى رأي عالم الاجتماع جان كلود باسرون إن القراءة أحد أكثر الأفعال الأدبية تعدداً في الشكل(2).
النص لغةً
هو الرفع ومنصة العروس مكانها البارز لترى بين النساء والنص أيضاً السير الشديد والحث وهو أقصى الشيء وغايته… والنص رفعك في شيء وإسناده إلى الأصل الذي صدر عنه. تقول: نصَّ الحديث ينصه أي رفعه وأسنده إلى من صدر عنه(3).
أما النص اصطلاحاً فقد جاء عن طريق المجاز، فبدلاً من دلالته على رفع المتن دلّ على المتن نفسه. ويعرّفه المعجم: إنه صيغة الكلام الأصلية التي وردت من المؤلف، وهي مولّدة استعملت قديماً بعد عصر الرواية ومنه قولهم: لا اجتهاد مع النص أو في مورد النص وهو عند الأصوليين: الكتاب والسنة أي ما دلّ ظاهر لفظهما عليه من الأحكام.
وللنص تعاريف عدة لدى المحدثين كل بحسب منهجه ونظرته المعرفية وقد أمكن تركيب التعريف الآتي منها، فالنص (مدونة حدث كلامي ذي وظائف متعددة)(4).
العناية بالنص وقراءته
كان النص الأدبي موضع عناية منذ عرف لدى اليونان والعرب وغيرهم من الأمم لكنّ هذه العناية كانت تختلف باختلاف المراحل التاريخية والحضارية. فقد خضع النص الأدبي للشفاهية في تلقيه قبل شيوع الكتابة والتدوين؛ لذا كان النظر فيه وتحليله خاضعاً للذوق والأحكام السريعة والتغيير أيضاً، وبعد العصر الإسلامي دخلت العناية بالنص وقراءته مرحلة جديدة، فقد توجهت العناية إلى كل من النص القرآني والنص الأدبي والشعري والنثري.
فكانت قراءة النص القرآني موضع عناية فائقة لدى العلماء حتى نشأ علم في الدراسات القرآنية هو علم القراءات، وكان له ضوابطه وأحكامه وقواعده، فجعلت القراءات القرآنية على مراتب بحسب تلك الضوابط والقواعد.
وظهر أيضاً تعدد قراءة القرآن في اختلاف تفسيره وتأويله خصوصاً في قراءته اللغوية والصوفية والمذهبية. وقد كان للقراءات القرآنية اثر في ظهور مباحث طريفة ومهمة في دراسات الأصوات العربية.
وأما النص الشعري فقد كانت قراءته وروايته في وقت مبكر إذ قوي الاهتمام به وبتدوينه في القرن الثاني من القرن الأول للهجرة. انصب الاهتمام أولاً على الشعر الجاهلي ثم شعر العصور التي أعقبته. وقد تعددت قراءته أيضاً فكانت القراءة اللغوية تعنى بالشكل وأداءه الصوتي ولقراءة النقدية والبلاغية تعنى بمعانيه وصوره وتحليله وقد أشار الجاحظ وابن قتيبة إلى أشياء من ذلك وكان من آثار ذلك ظهور مجموعة كبيرة من المصنفات تعكس تعدد القراءات الشارحة ظهرت في كتب إعراب القران ومعانيه وتفسيره وإن لم تخل في مواضع كثيرة من التأويل.
كما ظهرت شروح دواوين الشعراء وشروح شعر القبائل والحماسات المختلفة والاختيارات الشعرية التي استمرت حتى العصر الحديث ويسميها بعض المتنطّعين بـ(الانتولوجي أو الانطولوجي) فكان اختيار أدونيس من الشعر العربي وكذا الجمهرة للجواهري وغيرهما فاختيارهم وتنسيقهم المواد المنتقاة يظهر فيه إبداع فكري كل ذلك يمثل قراءة مؤليفها فقراءة الشعر تعبر عن اتجاه القارئ ورؤيته، وقديماً أشار الجاحظ معبراً عن تعدد قراءة الشعر في قوله: (ولم أر غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب ولم أر غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج ولم أر غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل ورأيت عامتهم، فقد طالت مشاهدتي لهم،
لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة وعلى الألفاظ العذبة والمخارج السهلة والديباجة الكريمة وعلى الطبع المتمكن وعلى السبك الجيد وعلى كل كلام فيه ماء ورونق وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم وفتحت للسان باب البلاغة ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ وأشارت إلى حسان المعاني ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتّاب أعم وعلى ألسنة حذاق الشعراء أظهر)(5).
والى جانب القراءة الشارحة المذكورة كانت قراءة تأويلية فيها إنتاج لأفكار وصور ورموز تستوحى من النص فيظهر فيها إبداع القارئ وآفاقه المعرفية وهو ما تمثل بقراءة المتصوفة وأصحاب المذاهب للنص القرآني وكذا نصوص الشعر كما هو في تفسير (مفاتيح الغيب) للفخر الرازي و(الفتوحات المكية) لابن عربي وتهويمات الصوفيين في قراءة أشعارهم وتفسيرها والتحليق في آفاق رموزها.
لقد اتسعت العناية بقراءة النص في العصر الحديث مع اتساع العلوم الإنسانية وتطور البحوث اللسانية في الغرب خاصة، فبعد المرحلة الرومانسية التي كان الاهتمام فيها يركز على مؤلف النص ظهر المنهج البنيوي رداً على ذلك فتجاهل المؤلف واكتفى بالنص ومن النصيين من أعلن موت المؤلف واكتفى بقراءة النص وتحليله باعتبار نصاً مكتفياً. كانت بدايتهم حالة جديدة من الوعي مرتبطة بالاستيعاب لعهد الطباعة وضمور التقليد البلاغي القديم وأهم هؤلاء النصيين رولان بارت وجاك لاكان وغريماس وتودوروف وفوكو..(6)، ثم ظهرت نظريات في التلقي والقراءة التي وجهت العناية إلى القارئ الناقد وجعلته محوراً في القراءة فكان جاك دويدا فيلسوف التفكيكية كما سيأتي.