Take a fresh look at your lifestyle.

حبيس سامراء

0 607

               كانت سامراء تغفو على وقعات سير قافلة قدمت تواً من المدينة يرافقها يحيى بن هرثمة أحد أعوان الخليفة، وكانت تلك المدينة حالمةً ببيرق مجد يرفل مستقبله بحلم ينشد في غمرة نشوة تأسيس العاصمة الجديدة، على إثر تداعيات دفعت بالمعتصم أن يترك بغداد ليؤسس لعسكره مدينة (سر من رأى) بعد أن أطلق عليها أهلها (العسكر)، وهي اليوم تنتظر مفاجأة قافلة الضيوف وقد شارفوا على دخولها لتحط بهم القافلة في ليل الغربة بعد طي مسافات المكان والزمان لتحل في خان يسمى (خان الصعاليك) يتوافد إليه أهل الفاقة وذوو الحاجة من كل الأقطار لينزلوا هذا الخان المتواضع وهو إجراء الخليفة الذي خشي من انثيال الناس على القادمين من مدينة جدهم وهم يحملون عبير ذكراه القدسية.

ولم يخف على الخليفة إعجاب أولئك النفر الذين يرافقون الضيفين فإنهم سينقلون سيرة محمودة تحدو بالكثيرين أن يعبروا عن دهشتهم لما يتناقل من أخبار تشد معها القلوب وتهفوا إليها نفوس الكثير من المتطلعين إلى سيرة النبي(صلى الله عليه وآله) وهديه وخشي المتوكل أن يفتتن به الناس بعد أن كتب له عامله على المدينة عبد الله بن محمد وهو نائبه في الحرب والصلاة بأن أبا الحسن يدعو لنفسه فاضطرب المتوكل لما اعتراه من نبأ الوشاية بأبي الحسن(عليه السلام) وهمّ به وهو ما دعا المتوكل إلى اتخاذ قرار الإبعاد لأبي الحسن الهادي وولده(عليهما السلام).

هكذا كان علي بن محمد الهادي(عليه السلام)
في نظر الناس وكان ولده الحسن(عليه السلام) كأبيه كذلك حيث تصبو إليه النفوس وتتطلع له الجموع دون أن يمنعها إصرار المتوكل على تحجيم هذا الحب والولاء الذي تكنه الأمة له دائماً.

كان الحسن بن علي(عليه السلام) يشكل خطراً مزدوجاً في نظر السلطة العباسية فمن جهة يمثل الإمام العسكري(عليه السلام)
سلسلة الإمامة الممتدة من آبائه الطاهرين والتصدي لمنصب الإمامة يعد خطراً كبيراً يهدد السلطة ويقلقها حقيقة، وكما أشرنا في مواطن معينة فإن النظام ينظر إلى أي إمام من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بأنهم معارضة صامتة تودي بكياناتهم دون أدنى ريب، أي أن الإمام بموقعه القيادي لقلوب الأمة يهيمن عليها بشكل لا يمكن معه السكوت ما لم يترجم هذا التوجس إلى حقيقة فعلية تدعو النظام إلى تصفيته جسدياً، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإن مخاوف النظام تتضاعف حينما تجد نفسها أما خطر جدي، وهو أن الإمام العسكري(عليه السلام) هو المولود منه الإمام الحجة المنتظر الذي تبشر به الروايات النبوية من طريق الفريقين، ومعنى هذا أن الإمام القادم من خفايا الغيب وهو المهدي الموعود سيقضي على أنظمتهم السياسية هذه وكياناتهم الحاكمية، وبذلك ستكون ولادة الموعود إيذاناً بنهاية الحاكم السياسي ونظامه فكيف والسلطة ترى أن الحسن العسكري(عليه السلام) والد الإمام الموعود قد تصدى للإمامة؟

فهي إذن لابد أن تشدد وطأتها عليه وتتعامل معه على أنه كيان يهدد مستقبلها، وبالفعل فقد دخلت هذه المخاوف حيز التنفيذ حينما تعرض الإمام(عليه السلام)
إلى سجون متعددة دون أي سبب بل بمجرد أنه والد الموعود المهدي المنتظر (عجل الله فرجه)، واتخذت الاحترازات الأمنية في هذا الشأن مضماراً آخر، إذ تعرض الإمام(عليه السلام) وأتباعه إلى مطاردات النظام، حيث التحرزات الأمنية طالت حاشية الإمام(عليه السلام) هذه المرة، في حين جد النظام العباسي إلى هذا الإجراء في زمن الإمام الكاظم(عليه السلام) إلا أن الرشيد كان يعرض الإمام الكاظم(عليه السلام)

وحده لمضايقات الحبس دون أن يزج أتباعه معه، في حين كان المتوكل ومن تلاه من حكام بني العباس يتربصون بالإمام(عليه السلام) ويتفننون في إيذائه والحد من عمله وتحركاته.

كان الحسن بن علي(عليهما السلام) قد أثبت أنه قديس آل محمد (صلوات الله عليهم) حيث هيمن على قلوب الناس وامتلك أحاسيسهم ولم يقتصر الأمر على المؤمنين بل كان شر الناس قد أذعن لهذا الإمام(عليه السلام) واستمكن منهم حتى صار هؤلاء يقولون بإمامته وأنه لعلى هدىً عظيم.

روى ابن شهرآشوب عن محمد بن إسماعيل العلوي قال: دخل العباسيون على صالح بن وصيف عندما حبس أبا محمد، فقالوا ضيق عليه، قال: وكلت به رجلين من شر من قدرت عليه، (علي بن يارمش) و(اقتامش)، فقد صار من العبادة والصلاة، إلى أمر عظيم يضعان خديهما له ثم أمر بإحضارهما، فقال: ويحكما ما شأنكما في شأن هذا الرجل؟ فقالا: ما تقول في رجل يقوم الليل كله ويصوم النهار لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة فإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا(1).

بل كانت معجزاته(عليه السلام) شأناً آخر أخذ مدياته الواسعة حيث تعرض من خلال سجنه إلى عدة محاولات لتصفيته وكانت هذه المحاولة نموذجاً لذلك فقد سُلّم الإمام العسكري(عليه السلام) إلى يحيى ابن قتيبة وكان يضيق عليه، فقالت له امرأته: اتق الله فإني أخاف عليك منه، قال: والله لأرمينه بين السباع، ثم استأذن الخليفة في ذلك فأذن له، فرمي به إليها ولم يشكوا في أكلها إياه فنظروا إلى الموضع فوجدوه قائماً يصلي، فأمر بإخراجه إلى داره(2).

وروي أن يحيى بن قتيبة الأشعري أتاه بعد ثلاث مع الأستاذ فوجداه يصلي والأسود حوله فدخل الأستاذ الغيل [موضع الأسد] فمزقته وأكلته وانصرف يحيى في قومه إلى المعتمد فدخل المعتمد على العسكري(عليه السلام) وتضرع إليه وسأل أن يدعو له بالبقاء عشرين سنة في الخلافة، فقال(عليه السلام): مد الله في عمرك، فأجيب وتوفي بعد عشرين سنة(3).

ولم يخف المعتمد ما في نفسه من التقديس والتبجيل للإمام(عليه السلام) بعدما رأى منه (صلوات الله عليه) من معاجز وكان حبه للدنيا وتعلقه بها أن لم يشأ إلا أن يفكر بما تصبو إليه نفسه من تفانيه من أجل منصبه مما دعاه إلى أن يتضرع إلى الإمام(عليه السلام) بأن يمد الله له في عمره ليتمتع بهذه الدنيا الزائلة، والإمام(عليه السلام) لا يرى في مطلب المعتمد إلا حالة الضعف لديه من أجل أن يبلغ ما تصبو إليه نفسه فقط فهو مبلغ علمه من الدنيا وما بعدها فلم يجد المعتمد ما يبرر التفكير بها! والإمام(عليه السلام) عنده الدنيا أهون من جناح بعوضة ـ كما وصفها الأئمة عليهم السلام من ذي قبل ـ.

ولما كان المستعين قد أسرف في إيذاء الإمام(عليه السلام) دعا(عليه السلام) على المستعين ولم يمهله الله تعالى إلا ثلاثاً.
فعن علي بن محمد بن زياد الصيمري قال: دخلت على أبي أحمد ابن عبد الله بن طاهر وفي يديه رقعة أبي محمد(عليه السلام) فيها: إني نازلت الله في هذا الطاغي ـ يعني المستعين ـ وهو آخذه بعد ثلاث، فلما كان اليوم الثالث خلع وكان من أمره ما كان إلى أن قتل(4).

وكان رجال السلطة يتهددونه بالقتل والتصفية ويضطرب عند ذلك شيعته ومواليه إلا أن الله تعالى كان يدفع عنه عادية الانتقام والبلاء وكان يطمئنهم بأن هذا لا يحدث وليس هو أجله بل كان يعلم ما سيجري على هؤلاء قبل أن يوقعوا به المكروه، فمثلاً كتب إليه أحمد بن محمد حين أخذ المستهدي في قتل الموالي: يا سيدي الحمد لله الذي شغله عنا، فقد بلغني أنه يتهددك ويقول: والله لأجلينهم عن جديد الأرض فوقع أبو محمد(عليه السلام) بخطه (ذلك أقصر لعمره عد من يومك هذا خمسة أيام ويقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف يمر به) فكان كما قال(عليه السلام)(5).

ولم تفلح محاولات المعتز العباسي في تصفيته حيث لم يمهله الله بذلك وكفى أبا محمد شره.
فقد روى محمد بن بلبل: أمر المعتز سعيد الحاجب أن أخرج أبا محمد إلى الكوفة ثم اضرب عنقه في الطريق، فجاء توقيعه عليه السلام إلينا (إن سمعتموه تكفونه)، فخلع المعتز بعد ثلاثة أيام وقتل(6).

ومثله ما كتبه محمد بن عبد الله حيث قال: لما أمر سعيد بحمل أبي محمد عليه السلام إلى الكوفة قد كتب إليه أبو الهيثم: (جعلت فداك، بلغنا خبر أقلقنا وبلغ منا)، فكتب: (بعد ثلاث يأتيكم الفرج)، فقتل المعتز يوم الثالث(7).

ويبدو أن الحادثتين متكررتان حيث كان قلق الشيعة يدفعهم إلى الكتابة للإمام(عليه السلام) ليستبينوا الحال، وكان الإمام(عليه السلام) يعلم عواقب الأمر.

وقد روى أبو هاشم الجعفري مشاهداته في السجن حيث كان الإمام العسكري(عليه السلام) يطمئنه بما تؤول إليه الأمور، فقد روى أبو جعفر الطوسي: قال أبو هاشم الجعفري: كنت محبوساً مع الحسن العسكري في حبس المهتدي بن الواثق فقال لي في هذه الليلة يبتر الله عمره، فلما أصبحنا شغب الأتراك وقتل المهتدي وولي المعتمد مكانه(8).

ومما وقع للإمام في حبس العباسيين أنهم أدخلوا أحد العيون إلى حبسه ليتجسس على الإمام(عليه السلام) وأصحابه فأخبر الإمام(عليه السلام) أصحابه وأمرهم بالحذر منه وأعلم بعضهم زمان الإفراج عنه فكان كما قال(عليه السلام).

فقد رأى [أي الإمام(عليه السلام)] أبا محمد والحسن بن محمد العقيقي ومحمد بن إبراهيم العمري في الحبس فقال(عليه السلام): لولا أن فيكم من ليس منكم لأعلمتكم متى يفرج عنكم ـ وأومئ إلى الجمحي أن يخرج فخرج ـ فقال أبو محمد: هذا الرجل ليس منكم فاحذروه، وأن في ثيابه قصة قد كتبها إلى السلطان يخبره ما يقولون، فقام بعضهم ففتش ثيابه فوجدوا القصة يذكرهم فيها بكل عظيمة(9).

وعن أبي هاشم الجعفري قال: كنا نفطر مع الحسن(عليه السلام) فضعفت يوماً عن الصوم، وأفطرت في بيت آخر على كعكة فريداً ثم جئت فجلست معه، فقال لغلامه: أطعم أبا هاشم شيئاً فإنه مفطر فتبسمت، فقال: ما يضحكك يا أبا هاشم؟ إذا أردت القوة فكل اللحم فإن الكعك لا قوة فيه(15).

ويبدو أن هذه القضية وقعت في الحبس حيث روى بعضهم ذلك.
والمهم في الأمر أن تعدد هذه الروايات يشعرك بطول فترات الحبس الذي عاناه الإمام العسكري(عليه السلام)،
وإن كانت في مدد متفاوتة وهذا يكشف محنة الإمام(عليه السلام) في ظرف سياسي قاهر قد فرض على الإمام أن ينتقل من سجن إلى سجن، وكانت بعد ذلك نهاية الإمام(عليه السلام) مسموماً على يد المعتمد بعد أن قرر القضاء عليه وتصفيته جسدياً، وبهذا تنتهي معاناة الحبيس في الثامن من ربيع الأول سنة 260هـ بعد أن دس له المعتمد سمه القاتل فانتقل إلى جوار ربه راضياً مرضياً يشكو اهتضامه ومظلوميته.

نشرت في العدد 17


(1) مناقب ابن شهرآشوب، 4/462.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر السابق.
(5) قادتنا، آية الله السيد عباس الميلاني، 7/142.
(6) المصدر السابق.
(7) المصدر السابق.
(8) مناقب ابن شهرآشوب، 4/463.
(9) المصدر السابق.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.