اشتهرت مدينة الحلة الفيحاء بتنوع آثارها في مجالات الثقافة عموماً وفي مجال العلوم الدينية خصوصاً، يظهر ذلك في كثرة مدارسها ومساجدها التي أعدت للعبادة والدراسة طيلة الفترة بين القرن الخامس إلى التاسع الهجري، حيث كانت عاصمة للعلم.
ونظرة فاحصة لكتاب (البابليات) للشيخ محمد علي اليعقوبي بأجزائه الأربعة، وكتاب (فقهاء الفيحاء) للسيد هادي كمال الدين، و(شعراء الحلة أو البابليات) للشيخ علي الخاقاني وغيرها، تغنيك عن شهرة هذه المدينة وما أنجبته من الأعلام العظام، ولعل من أشهر الذين أنجبتهم الحلة هو العلامة الجليل الشيخ أحمد بن فهد الحلي الأسدي فقيه الشيعة وأحد أساطين العلم في القرنين الثامن والتاسع الهجريين، تلك الشخصية المتميزة بسعة افقها العلمي ومواقفها المشهودة والكرامات المنظورة، فقد كان جامعاً للآداب حاوياً للكرامات الظاهرية والباطنية، مُلماً بالمعارف العقلية والنقلية، فقد ولد سنة (757هـ) وتوفي سنة (841هـ)(1).
والشيخ أحمد بن فهد عاش في الحلة ثم انتقل إلى كربلاء وبناءً على وصيته دفن بالقرب من مخيم سيد الشهداء(عليه السلام)
في بستان تسميه العامة ببستان ابن فهد، حيث جعل منزله ذاك وقفاً للزوار، وقد شيد الشاه عباس الصفوي مسجده في سنة (1032هـ) وغطى حائطه بالكاشي وشيد مدرسته الخاصة بالعلوم الدينية.
أقوال العلماء فيه
ذكره سيدنا الأمين في موسوعة (أعيان الشيعة) فقال: في أمل الآمل عالم فاضل ثقة صالح زاهد عابد ورع جليل القدر، وفي (تكملة الرجال) وصفه الحر بكونه صدوقاً، وفي (رياض العلماء) العالم الفاضل الفهامة الثقة الجليل الزاهد.
وله(قدس سره) ميل إلى مذهب الصوفية وتفوه به في بعض مؤلفاته. وظاهره أنه لم يجعل ذلك غمزاً فيه، وفي (لؤلؤة البحرين) فاضل عالم فقيه مجتهد زاهد عابد ورع تقي إلا أن له ميلاً إلى مذهب الصوفية بل تفوه به في بعض مصنفاته(2).
صفـــاته
يذكر أرباب التاريخ أن الشيخ أحمد كان فقيهاً ورعاً زاهداً مشهوداً بكثرة العبادة والخشوع والتهجد في الأسحار، يمارس دوراً اجتماعياً بارزاً ويقيم الحدود ويحارب البدع والضلالات كما كان أنموذجاً طيباً في كل صفة أخلاقية حميدة.
مشــايخه
تروي لنا المصادر المتوفرة بين أيدينا ومنها كتاب (الروضة البهية) أنه يروي عن تلامذة الشهيد كالشيخين المذكورين في السند قال بعض الأفاضل وقد رأيت على آخر بعض النسخ الأربعين للشهيد منقولاً عن خط ابن فهد المذكور ما صورته هكذا حدثني بهذا الحديث الشيخ الفقيه ضياء الدين أبو الحسن علي بن الشيخ الإمام الشهيد أبي عبد الله شمس الدين محمد بن مكي جامع هذه الأحاديث بقرية جزين في اليوم الحادي عشر من شهر محرم الحرام افتتاح سنة أربع وعشرين وثمان ومائة أجازني روايتها بالأسانيد المذكورة ورواية غيرها(3).
لقد ظهرت لنا في كل مرحلة من مراحل حياته قوة شخصيته، ومكانته السامية. قال المجلسي: أنه من تلامذة علي الجزائري ويروي بالإجازة عن السيد جمال الدين بن الأعرج العميدي، ولذا فقد اجتمعت فيه المآثر الحسنة، ونال المكانة التي يستحقها بين علماء عصره، وأصبح موضع تقديس واحترام لدى كافة المسلمين، يجلونه ويشيدون بفضله ومزاياه.
تلامـذته
مما يجب أن يشار إليه أن الشيخ أحمد يروي عنه كل من الشيخ عز الدين حسين بن علي بن أحمد المعروف بابن عشرة الكركي العاملي والشيخ ظهير الدين بن علي بن زين العابدين العاملي والشيخ زين الدين علي بن هلال الجزائري صاحب (كتاب الدر الفريد في التوحيد) والشيخ علي بن عبد الواحد الكركي والشيخ عبد السميع الحلي والسيد محمد بن فلاح الموسوي وغيرهم(4).
انتقال الحوزة العلمية إلى كربلاء
إن أي متتبع لأحداث التاريخ يعلم أن شيخنا المترجم شخصية علمية موهوبة، تتميز بسعة أفقها العلمي ومواقفها المشهودة، فهو الذي نشر المعرفة في أوساط رفيعة وارجاء فسيحة، وعندما قصد كربلاء أسس فيها نهضة علمية بحيث انتهت إليه رئاسة العلم والتدريس والإفتاء والمناظرة، وازدهرت الحوزة بالمئات من روادها من طلبة العلم والمعرفة والفقهاء الذين وفدوا عليها من مختلف الأقاليم الإسلامية كإيران والهند ودول آسيا الوسطى (داغستان، أذربيجان، طشقند) وغيرها من المناطق الإسلامية(5).
وقد أشار الرحالة الطنجي ابن بطوطة في رحلته إلى كربلاء سنة (726هـ) إلى وجود مدرسة عظيمة وزاوية كريمة إلى جانب الضريح الحسيني وذلك بقوله: (وعليها مدرسة عظيمة وزاوية كريمة فيها الطعام للصادر والوارد… الخ) ومن هنا يتبين لنا دور المرجعية الدينية في عصر الشيخ أحمد بن فهد ونشاط الحركة العلمية في كربلاء إبان تلك الفترة، فأصبحت بذلك مركزاً للمرجعية الدينية ومحط رحال الفضلاء ومحجة العلماء وطلاب العلم.
كرامـاته
تحفل سيرة العالم المجاهد الشيخ أحمد بن فهد الحلي بصفحة جديدة أخرى يتبين لنا من خلالها أن الشيخ كان صاحب كرامات مشهورة ومناظرات مع أرباب المذاهب الأخرى، يتناقلها الرواة من جيل إلى جيل، ومن أشهر هذه الكرامات التي تنسب إلى هذا الشيخ الجليل أنه كانت تفتح له باب قبلة الإمام الحسين(عليه السلام)
بمجرد رفع يديه للدعاء في كل وقت فجر لأداء فريضتي الصلاة والزيارة، ومن كراماته عليه الرحمة شفاء السقيم بإذن الله وإغاثة الملهوف ومن كانت له حاجة أو كان في ضيق أو حرج، والكرامة المنسوبة إليه المشهورة بين أهالي مدينة الحلة وهي أنه كان يكد على نفسه وعياله من ناتج بستانه الخاص.
فبينما هو في بعض أيامه يعمل في الزراعة، دخل عليه حاقد من علماء اليهود مع ثلة من أتباعه وقال مستفسراً: أأنتم المسلمون الذين تدعون أن علماء أمتكم كأنبياء بني إسرائيل؟ يشير بذلك إلى الحديث النبوي المعروف، قال له الشيخ ابن فهد: نعم، قال اليهودي: وبأي دليل؟ سأله الشيخ: وأي دليل تريده أنت؟ أجابه اليهودي: أن نبينا موسى بإعجازه قد حوّل العصا إلى ثعبان، فأنت ماذا تفعل؟ وكان واقفاً وبيده المسحاة فألقى المسحاة على الأرض فتحولت إلى ثعبان عظيم استوحش اليهودي مع كان معه لهذا المنظر. حينذاك توجه الشيخ إلى هذا العالم اليهودي وقال حتى الآن كنت كأنبياء بني إسرائيل، لكن من فضل الله علينا هو أن موسى حينما خاطبه الباري سبحانه وتعالى قائلاً: (لا تخف) أي خذ الثعبان بيدك فسنعيده إلى عصا تارة أخرى، فإنه تردد ووجل لكني كما ترى من دون خوف سآخذ الثعبان بيدي وبالفعل مدّ يده وأمسك الثعبان فرجع إلى مسحاة ثانية كحالته الأولى(6).
منـاظراته
يحدثنا التاريخ أن العلامة الشيخ ابن فهد كان في الجدل قديراً وفي النقاش متمكناً، وله مناظرات علمية جادة ناقش بها علماء السنة بحضور الأمير اسبند اسبان وهو أمير العراق آنذاك، وكان سبباً لهدايته إلى مذهب التشيع، حيث ألقى الأمير بعد ذلك خطبة الجمعة باسم أمير المؤمنين وأولاده المعصومين ضرب باسم الأئمة الاثنى عشر(عليهم السلام)، وقد وقعت تلك المناقشة عام (836هـ) وذلك بعد أن سقطت الدولة الجلائرية باحتلال الأمير اسبان للحلة في ذلك العام(7).
تصـانيفه
من الحقائق الثابتة التي لا جدال فيها أن الشيخ أحمد كان قد عرف بسرعة الحافظة وقوة الفهم والإدراك ودراية بالفقه والشريعة النبوية، وكان نشاطه يتجلى بتأليف الكتب، فقد ألف وصنف كتباً كثيرة جاوزت العشرين كتاباً(8). وفيما يلي بعض تصانيفه:
عدة الداعي ونجاح الساعي، المهذب البارع في شرح المختصر النافع، الدر الفريد والتحرير، التحصين، اللمعة الجلية، استخراج الحوادث، أسرار الصلوات، تاريخ الأئمة، تعيين ساعات الليل وتشخيصها بمنازل القمر، مصباح المبتدي وهداية المهتدي، المقتصر في شرح إرشاد الأذهان، الموجز الهادي، وكتب ورسائل أخرى(9).
وفـاته
لقد ظل العلامة الشيخ أحمد يرفد الساحة العلمية بآرائه السديدة وأفكاره المفيدة إلى أن رحل عن هذه الدنيا الفانية سنة (841هـ) وهو ابن (85) سنة من العمر بمدينة كربلاء وقيل كان عمره (58) سنة(10) ودفن في المكان الذي يتواجد فيه قبره الآن حسب وصيته، علماً بأنه كان قد اشترى في هذه المنطقة بستاناً اتخذه مسكناً، ثم رحل في غيبته الكبرى نحو الأبدية، ووري جثمانه الطاهر هناك بالقرب من باب قبلة سيدنا الإمام الحسين(عليه السلام).
مرقـده
على بعد (300) متر تقريباً من الروضة الحسينية وفي شارع الإمام الحسين(عليه السلام) يشمخ مرقد العلامة ابن فهد الحلي متألقاً بهندسته وقدسيته، وكانت تحيطه بساتين النخيل، ولذا عرفت المنطقة المحيطة به ببستان ابن فهد، وكان يحيط به صحن واسع ترتفع فوق القبر قبة خضراء مخروطية الشكل مكسوة بالكاشي الكربلائي، وتتمثل بها روعة الفن في الزخرفة الإسلامية.
إن المرقد الشريف كان قبل أن تمتد إليه يد الهدم، رحب الفناء واسع الأرجاء رصين البناء، غير أن البناء تعرض إلى انهيار وأصبح شبه مهجور، ولكن سرعان ما تنبه إلى إحيائه، لكننا لا نعرف بالضبط تاريخ بناء هذا المزار.
كان التجديد الأول لهذا البناء سنة (1358هـ)، أما التجديد الثاني له فقد تم على نفقة جمع من أهل الخير والصلاح، فقد جمعوا مبالغ كافية لبناء المرقد وعلى رأس هؤلاء آية الله العظمى السيد محسن الطباطبائي الحكيم والسيد عبد الحسين البهبهاني والحاج علي الكربلائي والحاج حبيب القهواتي والحاج صاحب الباججي وذلك في سنة (1384هـ).
يوجد في الجهة الأمامية من المرقد مصلى واسع مشيد الأركان، وفيه محراب يتكون من بلاطتين مستطيلتين من القاشاني، وتحيط بالمحراب زخارف ونقوش نباتية وكتابية بارزة، على يمين الداخل توجد غرفة اتخذت مقراً لتدريس العلوم الدينية وتعليم الفنون العقلية والنقلية، وقد درس في هذه المدرسة جمع من الأفاضل وأساتذة العصر، كما توجد أربعون غرفة مختلفة الأحجام تقع في الطابقين السفلي والعلوي اتخذ البعض منها مسكناً لإيواء الطلاب، ويحيط بالقبر صحن مكشوف كان فيه حوض ماء كبير (كُر) يستخدم للوضوء، وتتوسطه نافورة.
وقد احتوت المدرسة على مكتبة عامة تعرف باسم (مكتبة الرسول الأعظم) بلغ عدد كتبها اثنين وعشرين ألف كتاب في مختلف العلوم والفنون.
كما أجريت صيانة لبناية المرقد من الداخل والخارج لكي يظهر المرقد بحلته الجديدة بين مراقد الأولياء والصالحين، معلماً من معالم المدينة فيمثل الوجه الحقيقي والروحي والحضاري لمدينة كربلاء.
وصف المرقد الخارجي
يرتفع المرقد عن مستوى الرصيف بما يزيد على نصف متر، والجدار الخارجي للمرقد مغلف بالكاشي الكربلائي، تحيط به إطارات من الكتابة بخط النسخ بالبارز، وهي آيات من الذكر الحكيم، ويشكل الجدار بالأعمدة تصل بين واحدة وأخرى نافذة حديدية مزججة، وعدد من النوافذ الخمسة.
تعلو هذا الجدار قبة مغلفة بالكاشي الكربلائي، وما بين القبة والجدار لوحة تؤرخ ولادة ووفاة صاحب المرقد ومنقبة من مناقبه التي أقنع بها سلطان الفرس بأن جوهر الإسلام هو التشيع، فاقتنع السلطان وأصحابه.
وصف المرقد الداخلي
يتوسط المرقد اليوم ضريح مشبك من النحاس بطول (1،5) متر وعرض متر واحد وارتفاع (7) متر عن سطح الأرض والضريح مكون من صندوق خاتم خشبي مُغطى بشال أخضر كما هو الحال في بعض المراقد الأخرى، ويتصل بالمرقد طارمة مسقفة بطول (6) متر وعرض (3،5) متر، وقد اتخذت هذه المساحة البالغة (51) متر مربع كمصلى.
أما الحرم فهو مؤطر بالكاشي الكربلائي وعليه آيات كريمة من القرآن الكريم، وتحيط بالقبر خمسة نوافذ حديدية مزججة مطلة على الشارع. أما المواد المستعملة في البناء هي الأسمنت والطابوق، ولا يزال البناء قائماً غير أنه اليوم منفصل عن المدرسة العلمية، وهو تابع لديوان الوقف الشيعي فرع كربلاء، يزوره الوافدون والزوار، وله في قلوب الصالحين حرمة عظيمة.
نشرت في العدد 17
(1) روضات الجنات، السيد محمد باقر الخونساري، ج1 ص71.
(2) أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج10 ص80.
(3) الروضة البهية، السيد شفيع الجابلاقي، ص108.
(4) أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج10 ص80.
(5) نبذة عن حياة العلامة ابن فهد الحلي، مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر، ص4.
(6) خلق الأعلام، محمد جواد البستاني، ص173 و174.
(7) نبذة عن حياة العلامة ابن فهد الحلي، مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر، ص7.
(8) أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج10 ص81.
(9) المصدر السابق.
(10) مراقد المعارف، الشيخ محمد حرز الدين، ج1 ص76.