السجع هو (تواطؤ الفواصل في الكلِام المنثور على حرف واحد)(1).
فهو (في الكلِام كمثل القافية في الشعر)(2)،
(والأصل في السجع انما هو الاعتدال في مقاطع الكلِام، والاعتدال مطلوب في جميع الأشياء والنفس تميل إليه بالطبع، مع هذا فليس الوقوف في السجع عند الاعتدال فقط، ولا عند تواطؤ الفواصل على حرف واحد، إذ لو كان ذلك هو المراد من السجع لكان كل أديبٍ من الأدباء سجاعاً، وما من أحد منهم ولو شدا شيئاً يسيراً من الأدب إلا ويمكنه أن يؤلف ألفاظاً مسجوعة ويأتي بها في كلامه، بل ينبغي أن تكون الألفاظ المسجوعة حلوة حارةً طنّانة رنانة، لاغثّةً باردةً، واعني غثـةً بـاردةً أنّ صاحبها يصرف نظره إلى السجع نفسه من غير نظر إلى مفردات الألفاظ المسجوعة وما يشترط لها من الحُسن ولا إلى تركيبها وما يشترط لها من الحُسن)(3).
ومن هنا تبدو صعوبة السجع في الكلام، لما فيه من صنعة مقصودة قد يبدو فيها المعنى مقهوراً عليها مأتياً به لأجلها.
ومما زاد الامر صعوبة قصور هذا اللون من السجع الموروث الذي كان شائعاً على ألسنة الكهان عن تقديم ما جاء به الإسلام من معانٍ ومفاهيم جديدة، ولهذا أنكره الرسول بسبب ما فيه من كلفة وقهر للمعاني فقال: (أسجعاً كسجعِ الكهّان)(5).
ولهذا نجد الإحجام عن السجع في خطابة هذا العصر، لا لعيبٍ فيها إلّا في صعوبة التوفيق بين صنعته المقصودة وبين عرض المفاهيم الجديدة من غير أن يكون لهذه الصنعة تأثير يخلُّ في أداء المعنى، فتجيء ألفاظه كما يقول ابن الأثير (غثة باردة).
وكيف يكون في مطلق السجع عيْب وقد جاء القرآن جلُّه مسجوعاً، وجاءت أحاديث النبي فيها الكثير من السجع (حتى إنه غيَّر الكلِّمة عن وجهها إتباعاً لها بأخواتها من أجل السجع)(5)، كقوله: (خيرُ المالِ سكّةٌ مأبورةٌ، وفرسٌ مأمورة)(6)
فقوله (مأمورة) من أجل إتباع (مأبورة) و(القياس مؤمرة)(7) ومنها أنه (صلى الله عليه وآله) (عوّذ الحسنَ والحسينَ(عليهما السلام) فقال: أعيذُهُما من السامة والهامّة وكلِّ عين لامّة) وإنما أراد ملمة فلاتباع الكلِّمة أخواتها في الوزن قال (لامة)(8).
أهمية السجع في كلام الإمام علي(عليه السلام):
وكان السجع العلامة البارزة في خطب الإمام علي (عليه السلام) فقد كان يؤثره ويتكلف إدخاله في خطبه، ولكنّه كما علل ابن أبي الحديد (تكلّف مستحسُن كما إنّ الشعر متكلّف في وزنه وقافيته)(9).
يقول العلوي في سجع الإمام (عليه السلام) (فأما الأمثلة من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) فهي كثيرة وله فيه اليد البيضاء والقدم السابقة)(10)،
بل يمكن القول إنّ الذي حفظ للإمام عليّ خطبه من الضياع هو السجع لكثرة احتفائه به.
يروي الجاحظ أنه (قيل لعبد الصمد بن الفضل بن عيسى الرقاشي، لمَ تؤثر السجع على المنثور، وتلازم نفسك القوافي وإقامة الوزن؟ قال: إنّ كلامي لو كنت لا آمل فيه إلاّ إسماع الشاهد لقلّ خلافي عليك، ولكن أريد الغائبَ والحاضرَ والراهنَ والغابرَ، فالحفظ إليه أسرع والأسماع لسماعه أنشط وهو أحق بالتنُّبه وبقلة التلفّتْ، وما تكلّمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلّمت من جيّد الموزون، فلم يحفظ من المنثور عشره ولا ضاع من الموزون عشره)(11).
ولهذا (فإن الكلِّام المنثور الخالي من الوزن والقافية يراد به في الأغلب إقناع المخاطبين، أمّا التفكير في الحاضرين والغائبين فيوجِب كلاماً مصنوعاً يستاهل البقاء وكانت الصنعة أظهر ما تكون في القوافي والأوزان)(12).
ووسم السجع خطب الإمام عليّ (عليه السلام) جلّها، فقد كان يعمد إليه في كل حالاته لتحقيق الإيقاع، يقول (عليه السلام) من خطبة في التوحيد : (واحدٌ لا بِعَدَد، ودائمٌ لا بِأَمَد، وقائم لا بعَمَد)(13). فهذا التكرار لحرف الدال المفتوح ما قبلها قد أكسب الكلام إيقاعاً وأثراه قصر الجمل فيها.
ويقول (عليه السلام) في إثبات الوحدانية: (فانظُرْ إلى الشمسِ والقَمَرِ، والنباتِ والشَجَرِ، والماءِ والحَجَرِ، واختلافِ هذا الليلِ والنهارِ، وتفرُّق البحارِ، وكثرةَِ الجبالِ وطُول هذه القلالِ، وتفرُّق هذه اللغات، والألسُنِ المختلفاتِ، فالويلُ لِمَنْ جَحَدَ المقدِّر، وأنكَرَ المدبِّر، زعموا انهم كالنبات، مالهم زارع، ولا لاختلاف صورهم صانع، ولم يلجأوا إلى حجّةٍ فيما ادعَوْا، ولا إلى تحقيقٍ لما أوْعَوْا، وهل يكونُ بنايةٌ من غير بانٍ، او جنايةٌ من غير جانٍ)(14).
ولاريب في أن الموسيقى قد غمرت الصور في هذه الخطبة فقد توافرت على عناصر أثرتها بالإيقاع، لعل من أبينها السجع، غير أنْ لقصر الفقرات في إيراد الفواصل الموزونة على كلمتين أو ثلاث كلمات في الأغلب وتوافرها على التجنيس كقوله (ادعوا) و(اوعوا) وقوله (بناية) و(جناية) أثراً لا يخفى في تكثيف الموسيقى.كما أن لاشتمال السجعات في (الشجر) و(الحجر) و(اوعوا) على لزوم ما لا يلزم(15) دوراً آخر في تركيز الإيقاع وتكثيفه في الصورة.
ويقول(عليه السلام) في خطبة واعظاً يصف الدنيا:
(ألا وهي المتصدِّيةُ العَنون، والجامِحَةُ الحَرون، والمائنةُ الخؤُون، والجَحُوُد الكنّود، والعَنود الصَدود، والحَيود الميُود)(16).
فالموسيقى في هذه الصور متحققة من السجع المتكرر المقام على التوازن فضلاً عن قصر الجمل وترصيع بعضها كما في الفاصلة الأخيرة.
وقال الإمام(عليه السلام) في أهل النفاق: (قلوبُهم دوّيةٌ، وصفاحُهم نقيّة، يمشون الخَفاء، ويدبّون الضَّرَاء، وصفُهم دواء، وقولُهم شِفاء، وفعلُهم الداء العَياء، حَسَدة الرَّخاء، ومؤكِّدوا البلاء، ومُقنِّطوا الرجاء، لهم بكلّ طريقٍ صريعٌ، وإلى كلّ قلبٍ شفيعٌ، ولكلِّ شجوٍ دموعٌ، يتقارضون الثناءَ، ويتراقبون الجزاء، إنْ سألوا ألْحفوا، وإن عذلوا كشفوا، وإن حَكَموا أسرفوا، قد أعدّوا لكلِّ حقٍّ باطلاً، ولكلِّ قائمٍ مائلاً، ولكلِّ حيٍّ قاتلاً ولكلِّ بابٍ مفتاحاً ولكلِّ ليلٍ مِصباحاً)(17).
والسجع في هذه الصور متنوع الحروف، فقد جاء بحرف الياء والهمزة والعين والفاء واللام والحاء، ولا ريب في أن لذلك أثره في تنويع الإيقاع على النفس، كما أن لذلك دلالته في عفوية السجع وعدم أسر المعنى له.
ومن ذلك قوله راثياً زوجه فاطمة الزهراء(عليهما السلام): (أمّا حزنيَ فسرمدُ، وأما ليلي فمسهَّد)(18).
وقد جاء السجع في (سرمد) و(مسهد) على أساس من التوازن في الكلِّام وهذا اللون (أشرف السجع منـزلة للاعتدال الذي فيه)(19).
ومثله قوله (عليه السلام) حين نُعيَ إليه محمد بن أبي بكر: (وكان إليَّ حبيباً وكان لي ربيباً)(20).
وقد أقيم السجع في (حبيب) و(ربيب) على الموازنة كما أن التزامه ما لا يلزم ركّز من موسيقاه.
فالسجع ـ إذن ـ قد طبع كلام الإمام (عليه السلام) جلّه، إذ لم يقتصر على موضوع دون موضوع فهو واحدٌ من أدوات الإمام (عليه السلام) الفنية الرئيسة في صياغة موضوعاته ومعانيه، يؤثره كلما قصد إلى الأداء الفني في التعبير، ويتوخاه حتى لو اضطر إلى التغيير في بنية الكلِّمة المسجوعة.
كقوله(عليه السلام) يصف الدنيا: (إنْ جانبٌ منها اعذوذبَ واحلَوْلى، أمرّ منها جانبٌ
فأوْبى)(21).
فقد خففت الهمزة من الفعل (أوبأ) فأصبحت (أوبى) لإحداث السجع مع (احلولى) التي جُعِلَت نهاية للفاصلة الأولى للسبب نفسه.
وفي موضع آخر للكلِّمة نفسها يقول الإمام(عليه السلام): (مالي أراكم عنِ اللهِ ذاهبين، وإلى غيره راغبين، كأنكم نَعَمٌ، أراحَ بها سائمٌ إلى مرعىً وبيٍّ ومشربٍ دويٍّ)(22).
فإنما هي (وبئ)(23)، ولكنّ الإمام(عليه السلام) ليّنها لإحداث الإيقاع الصوتي بينها وبين (دوي) الخالية أصلاً من الهمز.
على أنه (عليه السلام) أظهر الهمزة على الكلمة نفسها من أجل السجع وذلك في قوله: (إنّ الحقَّ ثقيلٌ مريء، وإنّ الباطل خفيفٌ وبيء)(24)، وليس ثمة ما يدعو إلى الإبقاء على الهمزة في (وبيء) غير التماس القرينة السجعية مع كلمة (مريء).
وفي صورة أخرى يقول الإمام(عليه السلام) واصفاً قدرة الله سبحانه بأنه: (مُذِلُّ من ناواه، وغالب مَنْ عاداه)(25).
وأصلُ (ناواه) (ناوأه)(26) ولكنّها لُيِّنت من أجل إحداث السجع بينها وبين كلمة (عاداه).
بدا من ذلك أن للسجع أثراً كبيراً في إشاعة التنغيمات الصوتية في كلام الإمام عليّ(عليه السلام)، ويمكن تلخيص خصائصه بما يأتي:
1. عفويته، على الرغم من أنه جاء مصوغاً لمفاهيم جديدة، كالوحدانية والعالم الآخر والتشريعات الأخرى، وذلك يدل على شدة انصهار الإمام(عليه السلام) في هذه المعاني لأن جدتها لم تصرفه عن الإتيان بالصنعة في أدائه الفني.
2. أقامته على التوازن أبداً، وكثيراً ما يقرن السجع بالازدواج.
3. اشتماله على الترصيع ولزوم ما لا يلزم وذلك يكسب الكلام مزيداً من الإيقاع ويثريه بالموسيقى.
4. توخي السجع القصير: وكما بدا فإن الإمام(عليه السلام) يتوخى في أسلوبه السجعي الفقرات القصيرة الجمل (وكلّما قلّتِ الألفاظ كان أحسن لقرب الفواصل المسجوعة من سمع السامع)(27) وهذا أوعر السجع مذهباً، (لأن المعنى إذا صيغ بألفاظ قصيرة عزّ مواتاة السجع فيه لقصر تلك الألفاظ وضيق المجال في استجلابه)(28).
ويقول العلوي إن السجع القصير في كلام الإمام (عليه السلام) (أكثر ما يكون في الكتب والمواعظ في الخطب المنسوبة إليه وهو أضيق مسالك السجع كما مر بيانه ولكنّه غير ضيق عليه لما خزن من كنوز البلاغة ما إن مغالقه ليصعب على أكثر الخلق فتحها)(29).
ولاريب في أن اجتماع هذه الخصائص في سجع الإمام(عليه السلام) أثرى كلامه بالموسيقى، لأن مجرد التوازن في الكلام يحدث في النفس قبولاً فكيف لو أقيم السجع المشتمل على الترصيع ولزوم ما لا يلزم والتجنيس على فواصل متوازنة قصيرة؟
—————————————————————–