وذلك بالرغم من كونها على أعتاب السبعين عامًا فهي تعيش لوحدها في منزل واسع..
تزوجت بناتها الثلاث من أمد طويل ولكنها لم تشعر بالوحدة حقًا إلّا يوم قرر ولدها (كمال) الانتقال إلى منزله الجديد مع زوجته وأطفاله..
دعاها للعيش معه.. رفضت ..
بل إنها رفضت أصلًا فكرة انتقاله (لم يبق من عمري إلّا عام أو أقل اسكن معي أموت، كانت تريده قربها ..
إلّا أنه انتقل..
وعاد في اليوم التالي يبغي رضاها ..
فطردته وهي تبكي وتولول..
كرر ذلك عدة مرات..
وقابلته بنفس الحال وأخيراً خرج من عندها ولم يعد..
عندها انفطر قلبها حقًا ..
كانت تأمل أن تراه كل يوم يتودّد إليها لترضى عنه ..
لكنه ربما انشغل بدنياه ونسيها…
وهي في كل صباح تبكي..
إنها ترى كل ما حولها موحشًا..
تبكي وهي تعد إفطارها بيد مرتجفة تبكي وهي تصلي وتدعو..
تبكي وهي تجالس جارتها وتشكو لها..
وأخيرًا تبكي وهي تغفو على الوسادة..
قالت لها جارتها (إن هذا حال الدنيا وإن عليها أن تدعو لأولادها ولا تدعو عليهم..)
ولكن ما تصنع بقلبها المكلوم..!؟.
كانت الجارة أم سعيد هي ملاذ العجوز الوحيد..
كان قلبها طيبًا كبيرًا وإيمانها عميقًا ..
ودائمًا ترسل لها الطعام ..
وتتفقد حالها ..
وتجالسها في أوقات الفراغ حتى ألفتها ..
وكانت تواسيها وتقول لها كلامًا كالبلسم الذي يشفي الجروح..
كانت تقص لأم سعيد حياتها التي قضتها بالألم والحسرة.
زوج توفي سريعًا وأربعة أطفال كابدت لترعاهم ثم وتحرص على إعادة قصص كفاحها في تربيتهم..
حتى حفظت أم سعيد ذلك..
حفظت كل قصة بتفاصيلها التي تنتهي بنوبة بكاء شديد وتحسّر..
فتعود وتصبرها..
(في الشهر مرّة يأتين يا أم سعيد!ّ؟ ..
قلت لهن كل أسبوع وعندما ألححت عليهن لم يعد يأتين ضاع التعب والسهر)
كانت أم سعيد تسعى في الخير وغالبًا ما طلبت منها أن تصالحها على ولدها أو تدعو بناتها وتتحدث إليهن..
إلا أنها ترفض بشدة لم تعد تريد أحدًا (ليجزيهم الله فحسب) ثم وبعد أن اعتادت على جارتها سخطت أكثر على أولادها فلم تعد ترد على مكالماتهم أبدًا…
وفي يوم ما جاءت أم سعيد بفكرة !
لم لا تذهبين للعمرة يا أم كمال ؟..
قالت العجوز إنها لا تستطيع السير أو تحمّل الطريق .. ثم إنها تخاف ركوب الطائرة !
إلّا أن أم سعيد ظلت تلح وتلح وتتحايل على العجوز حتى أقنعتها..
كانت كأي عجوز تحتفظ بين أغراضها بمبلغ لا بأس به (جمعته مما تبقى من راتب زوجها التقاعدي) عندما أخرجت النقود وراحت تسلمها لأم سعيد قالت:
(هذي فلوس الفاتحة والدفن ولا أملك غيرها).
إلّا أن أم سعيد قالت لها عمرك طويل وستجمعين غيرها..
ثم قالت لها سنذهب معًا نحن الثلاثة أنا وأنت وولدي سعيد..
فقالت في تحسر: سعيد ولد بار حسبي الله على كمال وأخواته.
قبيل الرحيل أخبرتها أم سعيد بوجوب إخبار أحد أولادها بسفرها ..
إلّا أنها أقسمت عليها بكل عزيز ألّا تعيد هذا الكلام وراحت تبكي بشدة.
وهكذا أخرجت من تلك الجدران الموحشة إلى عالم رحب..
ومن بيتها الحزين إلى أعظم بيت.
وانطلق لسانها مع بقية الحجاج بالتلبية والتهليل والتكبير ..
لم تحتج إلى عصا تتوكأ عليها ولا إلى يدٍ تسندها..
كأن الله وهبها القوة في تلك اللحظات..
راحت تؤدي مراسم العمرة بروح ملؤها الإيمان وشعرت أن عمرها الذي ضاع ما ضاع ما دام نهايته كان رؤية بيت الله وزيارة قبر الرسول (صلى الله عليه وآله).
كانت تذرف الدموع بسخاء ولأول مرّة عدلت عن فكرة التحسب على أولادها وراحت تدعو لهم.
رؤيتها لبيت الله الحرام كأنه حلم بأجواء روحانية تفوق الجسد المادي وحمدت الله كثيرًا أنها كانت ترى هذا اليوم..
بعد انتهاء المراسم قالت لجارتها إن هذه أحلى أيام حياتها وإنها تتأسف لأنها لم تأت من قبل وتزيل الهم والأسى، كأن هناك رحمة أو شيئًا غسل الأدران من روحها وقلبها فإذا به نقيًا صافيًا..
قالت بصوت متردد وهم في الفندق وهي تمسك الهاتف (شتكولين أم سعيد.. اتصل بيهم!؟)
فرحت أم سعيد لهذا التغيير السريع وقالت طبعًا..
وهكذا اتصلت بأولادها واحدًا واحدًا ومن بين الدموع السخية والبكاء كان الحديث…
أخبرتهم أنها تدعو لهم وأنها في ضيافة الرحمن.
وبهذا أزالت كل الهموم عن كاهلها..
شعرت أن روحها خفيفة ..
وأن لا شيء يهمها..
ولا شيء يدعوها لأن تبكي وتتحسر من أجله..
في طريق العودة أسرت لها أم سعيد أن بِر الأولاد يحتاج من الأم أن تتنازل أحيانًا وإن في هذا الزمان لم يعد هناك أولاد مثاليون إلا ما ندر وأن علينا أن نداري ونتحمل لنكسبهم ونحظى بحبهم ..
لم تكن هذه نظرتها ولكنها أصبحت تقتنع بها بعد ما حكت لها أم سعيد عن ولدها سعيد الذي يبدو تقيًا وبارًا أشياءَ وأمورًا لم تكن تتوقعها.