هو أحد أولئك الجهابذة العظام الذين ملؤوا الأسماع والأبصار والأفئدة عظمة وجلالة. آية الله العظمى السيد أغا حسين القمي الحائري، ذلك العلم الفرد والشخصية الكبيرة اللامعة التي زينت جيد المدرسة العلمية في كربلاء، وانتهت إليه الزعامة الدينية في القرن الرابع عشر الهجري.
فهو مرجع العارفين وأحد كبار المراجع والعلماء الذين برهنوا على سمو مقامهم في العلم وضربوا بسهم وافر في الفقه والأصول، فلا بدع إذا ما قدمناه إلى قرائنا الكرام معتزين بهذه الشخصية الفذة.
اسمه ونسبه:
هو السيد حسين بن السيد محمود بن السيد محمد بن السيد علي الطباطبائي القمي الحائري(1).
ولادته ونشأته:
ولد يوم 28 رجب سنة 1282هـ في مدينة قم المقدسة، ونما وترعرع في ظل أسرة علوية ورثت اهتماماتها الثقافية عن آبائها منذ أجيال، وتربى في أحضان الفضل والورع، ونشأ منذ نعومة أظفاره على حب العلم، وراح يعتمر العمة السوداء لأنه ينحدر من بيت علوي، ويسلك سلوك آبائه، وينخرط في الحوزة العلمية طالباً، فيبذل كل الهمة في تحصيل العلوم العقلية والنقلية لينال بذلك أعلى المنازل الشريفة عند الله.
أساتذته:
واصل الدرس والبحث على جملة من الأساتذة الكبار والعلماء والأعلام في عصره فدرس المقدمات من نحو وصرف وبلاغة وقرأ السطوح. وفي سنة 1303هـ حج بيت الله الحرام، وعاد عن طريق العراق فبقي في النجف ثم ذهب برهة من الزمن إلى سامراء حضر بها بحث المجدد السيد محمد حسن الشيرازي،
وفي سنة 1306هـ عاد إلى طهران فجدّ في الاشتغال من العلوم العقلية والنقلية فدرس على السيد الميرزا أبي الحسن جلوه والشيخ علي المدرس النوري والميرزا محمود القمي وغيرهم. وقرأ الفقه والأصول على الميرزا محمد الاشتياني والشيخ فضل الله النوري وغيرهم.
وفي سنة 1311هـ هاجر إلى النجف لإكمال دروس العلوم الشرعية فأدرك بحث الميرزا حبيب الله الرشتي وحضر على المولى على النهاوندي والشيخ محمد كاظم الخراساني والسيد محمد كاظم اليزدي وغيرهم. لازم أبحاث هؤلاء الأعلام فترة قصيرة حاز فيها درجة سامية.
وفي سنة 1321هـ هاجر إلى سامراء فحضر فيها بحث الشيخ محمد تقي الشيرازي عشر سنين(2) فحصل على ثقافة إسلامية وعلوم عربية غزيرة، بالإضافة إلى تبصرة بالشعر واطلاعًا على كتب التراث.
وفي سنة 1354هـ هبط مدينة كربلاء فسكنها وقام بالوظائف الشرعية حتى ازدهرت به الحوزة العلمية وقام بخدمات جليلة، وأصبح المرجع للطائفة الشيعية في الأقطار الإسلامية.
وقد انضم إليه جمع من العلماء والمراجع كآية الله السيد مهدي الشيرازي وآية الله السيد محمد هادي الميلاني والسيد صدر الدين الجزائري فاستفادوا من محضر درسه(3).
تلامذته:
درس على سماحته رعيل من أهل الفضل والمعرفة، يحضرون كل يوم مجلسه العامر فيناقش أصحاب العقول النيرة والمدارك الثاقبة والهمم الصادقة في شتى الدروس، فمنهم:
1ـ السيد مرزا حسن بوجنوردي.
2ـ الشيخ محمد علي الكاظمي.
3ـ الشيخ عبد اللطيف السمامي الحائري.
4ـ السيد زين العابدين الكاشاني الحائري.
5ـ الشيخ محمد حسين صدقي المازندراني.
6ـ الحاج أغا بزرك أشرفي شاهرودي.
7ـ الشيخ محمد علي سرابي.
8ـ الشيخ حسين راشد تربتي.
9ـ السيد محمد بن السيد رضا لنكراني.
10ـ ميرزا مهدي حكيم.
11ـ سيد حسين الموسوي نسل.
12ـ السيد عبد الله الطباطبائي الطهراني.
13ـ الشيخ ذبيح الله قوجاني.
14ـ حاج أغا صدر الجزائري.
15ـ شيخ يوسف الخراساني.
16ـ الشيخ محمد رضا الأصفهاني.
17ـ شيخ حسين علي طوبائي الشيرازي.
18ـ حاج أغا حسن القمي.
19ـ حاج أغا مهدي القمي.
20ـ حاج أغا باقر القمي.
21ـ شيخ محمد تقي عندليب.
22ـ شيخ محمود جلي خراساني.
23ـ ميرزا مهدي الشيرازي.
24ـ شيخ الأميني(4).
السيد حسين القمي (قد) يؤم المصلين في الصحن الحسيني المطهر
إن السيد حسين القمي يسترعي ذهنية هذا الجمع الحاشد من فحول العلماء إلى الاستزادة من النمير العذب، وإلزام النفس بالجد والغذاء العقلي والتحصيل الواقعي في حاضرة كربلاء، لا يذكر عنه إلا ويذكر معه جهده العلمي الجبار وعزيمته الصادقة ورغبته الأكيدة في رقي العلم والوطن، ويضيء للطلاب درب المعرفة والوعي والثبات على الحق، وامتلاك الإرادة.
عرف مفكرًا ومحققًا لا يطوى له كتاب، فقد تميزت محاضراته القيمة بالأسلوب العلمي الرصين وتميزت باختراقها لنفوس الناس ومواكبتها مشاعرهم وأهواءهم، فشهرته جابت الآفاق وذكره طبّق الخافقين.
انبعاث الحوزة العلمية في كربلاء:
مع غياب آية الله الميرزا محمد تقي الشيرازي بدأت الحوزة العلمية في كربلاء طريقها نحو الاضمحلال، وفقدت تلك الشهرة العلمية كما فقدت ثقلها السياسي أيضًا.
ولكن مع وصول آية الله القمي كربلاء عاد نشاط الحوزة من جديد وانبعث فيها الروح مرة ثانية، فبعد استقراره في مدينة كربلاء وجه دعوة إلى بعض الأساتذة وعلمائها للتدريس في كربلاء والتعاون على بعث النشاط العلمي فيها، وقد لبى جميع الفضلاء دعوة القمي المخلصة في طليعتهم:
آية الله السيد محمد هادي الميلاني المتوفى سنة 1395هـ، آية الله العظمى السيد علي البهبهاني المتوفى سنة 1395هـ، آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي المتوفى سنة 1412هـ، ومن الجدير بالذكر أنه جعل قدوم الخوئي بمثابة الحكم الشرعي الذي لا مقر منه، وقد امتثل السيد لذلك، آية الله السيد الميرزا مهدي الشيرازي المتوفى سنة 1380هـ وأصبح من أخلص مريدي القمي. آية الله السيد صدر الدين الجزائري المتوفى سنة 1318هـ
وهكذا أحدثت هذه الخطوة انعطافاً من مسار الحوزة العلمية في كربلاء بل وتاريخها أيضاً. وهكذا شهد الصحن الطاهر لمرقد الإمام الحسين(عليه السلام) استئناف الحياة العلمية والفكرية وانتظمت حلقات الدروس التي كان يعقدها القمي بعد صلاة العشاءين(5).
موقفه من شاه إيران:
امتاز الدور الذي مارسه سماحة القمي بمقاومة الأنظمة المستبدة في إيران والعالم الإسلامي بطابع من التحدي والشمولية ومواجهته بكل إمكانياته، فهناك سلطة مغلقة، وثقافة تقوم على قمع حرية الرأي، وترسم حدودًا للمعتقد لا تسمح لأحد أن يتخطاها، فكان صراعاً وكان اضطهاداً.
ولما كان السيد حسين القمي شعلة وهاجة متعطشة إلى العدالة ونصرة قضايا الشعب وحريته، فقد انبرى للتصدي ومحاربة السلطنة في إيران، وكان رضا بهلوي ملك إيران يسعى لهلاك العلماء ومحاربة الدين وإماتة السلطة وإحياء البدع(6) وكان السيد حسين شديد الصراحة في كلامه وأقواله، والصراحة من شيم الأحرار، وسجية الصادقين، فهو لا يهاب ولا يخشى في نصرة الحق لومة لائم.
يقول نور الدين الشاهرودي: (لقد اشتهر القمي رحمه الله إلى جانب علمه وفضله وعدله وتقواه بتحمسه الشديد لإصلاح حالة المسلمين والنهوض بشجاعة في وجه أي مجرى منحرف أو مسار يراه فاسدًا، وفي هذا المجال عرف منهم المرحوم الميرزا مهدي الشيرازي حيث قام بتعبئة الرأي العام الإسلامي ضد الخطوات والإجراءات الحكومية في ذلك الوقت والتي رأى فيها ما يخالف شرعة الدين الإسلامي الحنيف، وقد سافر إلى إيران وهو عازم ومصمم على الإصلاح والنهوض في سبيل ذلك حتى الموت، وقد طالب السلطة الرسمية الحاكمة في حينه وإصلاح ما أفسدته السلطة، وحينما رأى الفتور وعدم الاستجابة الكافية، قرر الوقوف موقف التحدي بوجه السلطة الحكومية،
وقد ساعده وأيده في ذلك علماء كربلاء الأجلاء وعلى رأسهم المغفور له آية الله العظمى الحاج أغا حسين البروجردي الذي أعلن هو الآخر بأنه يريد التحرك على رأس عشائر الأنوار القاطنة في محافظة لارستان والزحف نحو طهران العاصمة لدعم مطالب السيد القمي المشروعة الإسلامية،
وقد أصدر مجلس الوزراء برئاسة علي سهيلي رئيس الحكومة الإيرانية آنذاك بتاريخ 3/ 1/1943 بيانًا رسميًا أعلن فيه موافقته الحكومة على كل ما طلب به السيد القمي من إجراءات وخطوات إصلاحية ترتبط بحجاب النساء والموقوفات الإسلامية في إيران وتدريس مبادئ الشرع الإسلامي في المدارس والمعاهد الحكومية ومنع أي اختلاط بين الفتيان والفتيات في المؤسسات التعليمية، وإعادة بناء البقاع الطاهرة في وادي البقيع بالمدينة المنورة، والعمل على توفير أرزاق الناس واحتياجاتهم الأساسية وقد خيرت الحكومة آية الله القمي بين البقاء في محلة إقامته والانتقال إلى مدينة أخرى شرط أن لا تكون مشهد،
أما اللقاء بالشاه فقد عد مستحيلًا، واختار القمي الهجرة إلى العراق ووافق رضا خان على ذلك، وأرسل رضا خان أحد المسؤولين حيث قدم إلى القمي شيكًا مفتوحًا يسجل فيه المبلغ الذي يريده ولكن القمي رفض ذلك بشدة قائلًا: أنا أرفض استلام الأموال من الحكومة وحتى لو جاء رضا خان بنفسه(8).
السيد حسين القمي(قد) يؤم المصلين في الصحن الحسيني المطهر
أقوال العلماء فيه:
أطري علمه ومدحه جماعة من العلماء والمؤرخين وغيرهم وبالأخص شيخنا أغا بزرك الطهراني الذي قال:
(كانت لي معه مودة في النجف على عهد الخراساني وفي معهد تدريسه وكان منذ ذلك الحين معروفًا بالصلاح والتقى والنسك والزهد وكثرة العبادة، أما هو في الفقه والأصول فقد كان فاضلًا للغاية وخبيرًا جدًا له سلطنة واستحضار وتضلع وبراعة)(9)
وترجم له السيد شهاب الدين المرعشي ترجمة مفصلة وكتاب (المسلسلات في الأجازات)
حيث قال: (ولما عاد من مشهد واستقر بكربلاء توسعت دائرة مرجعيته وشملت الأقطار الشيعية داخل العراق وخارجه، وانتشرت رسالته العملية العربية والفارسية وطبعت الآن النسخ، ولما توفى الزعيم الديني السيد أبو الحسن الأصفهاني في سنة 1365هـ واتجهت إليه المرجعية العامة واتفقت الكلمة عليه وانتقل إلى كربلاء وبدأ يتولى الشؤون بأحسن ما يكون وكانت مشيئة الله تعالى قضت عدم إتمام هذا الأمر له فانتقل إلى جواره عز شأنه بعد شهور وخيب الآمال فيه…)(10).
عاد السيد القمي إلى كربلاء، وكانت الحوزة العلمية في مدينة كربلاء المشرفة تفتخر وتتباهى بأنها تضم في جنباتها صنوًا له ومن يوازيه علمًا وفصلًا وورعًا وتقى، هو وزميله المولى كاظم الخراساني.
هذا كله يعني أن السيد القمي رحمه الله تعالى كان آية بليغة في الأخلاق الحميدة، ومن أبرز صفاته التي حبّبته للنفوس وأكسبته منزلة سامية هي عطفه وحنوه على المحتاجين من ذوي الفقر والفاقة وكذلك عبادته عبادة فكرية وثقافية وعلمية.
آثاره العلمية:
لقد ظهر من رشحات قلم آية الله السيد حسين القمي العلمي عدد من الأعمال التي أنجزها وهي تعكس آراءه الفقهية، وثبت أنه من ذوي القابليات الدينية والملكات الاجتهادية، وهذه الآثار هي كالآتي:
1ـ مجمع الوسائل.
2ـ الحاشية على العروة الوثقى.
3ـ الذخيرة الباقية في العبادات والمعاملات.
4ـ مختصر الأحكام.
5ـ طريق النجاة.
6ـ منتخب الأحكام.
7ـ مناسك الحج (عربي).
8 ـ مناسك الحج (فارسي).
9ـ ذخيرة العباد.
10ـ هداية الأنام.
11ـ حواش على رسائل المولى هاشم الخراساني(11) وأضاف صديقنا الفاضل الشيخ أحمد محمد رضا الحائري أعمالاً أخرى هي:
12ـ الرسالة الرضاعية.
13ـ الرسالة الإرثية.
14ـ الوجيزة.
15ـ رسالة في الربا.
16ـ تعليقه رسالة صحة المعاملات(12).
لقد أدركتُ آية الله العظمى السيد أغا حسين القمي سنة 1946م وهو يخرج من داره الكائنة في محلة الطاق (عقد القمي) راكبًا حمارًا أبيض مرتديًا قباءً أبيض تسدلُ عليه لحيته الناصعة البياض وعلى رأسه عمامة سوداء، ويقودُ الحمار شخصٌ يوصله إلى الصحن الحسيني بالقرب من باب مدرسة حسن خان الدينية الملاصقة للصحن من طرف الشمال الشرقي، وبعد نزول السيد يربط الحمار بعمود قرب الباب، ثم ينزل السيد من سلّم باب الصحن حيث يستقبله الجمهور الغفير من المصلّين، وهم ينادون بأعلى أصواتهم بالصلاة على محمد وآله.
وبعد أن يؤدي صلاة الجماعة للمغرب والعشاء، يبدأ الحوار بينه وبين السائل، فيجيب سماحته على كل من يسأل من أجل تقريب وجهات النظر، وكان الحوار مثمرًا وبناءً ثم ينهض ويعود إلى داره بعد أن يمتطي حماره، وكنت ألاحظ أحيانًا أنّ المرجع الديني آية الله السيد ميرزا مهدي الشيرازي يرافقه من باب الدار إلى الصحن مشيًا وهما يتجاوران في المسائل الفقهية.
وكان السيد القمي يعتني بإعاشة الكثير من طلبة العلوم الدينية في كربلاء والنجف الأشرف، حيث دانت له الزعامة. وذلك هو الإنسان الذي قدّم باقة لا تذبل من خدمات إنسانية للعالم الإسلامي.
منظر عام لاجتماع مشيعي جثمان السيد حسين القمي(قد) في كربلاء
وفاته:
مرض سماحة آية الله القمي، وظهر الحزن على وجهه، وظل يتمتم، واشتد به المرض فنقل إلى المستشفى الملكي ببغداد، حيث وفر له المستشفى العناية الطبية الفائقة والرعاية الإنسانية.
وفي يوم الأربعاء 14 ربيع الأول عام 1366هـ المصادف لسنة 1946م(13) وافاه الأجل المحتوم وودع الحياة الفانية وانتقل إلى الرفيق الأعلى بعد عمر 84 عامًا قضاها بالعلم والعمل والجهاد، فشيع جثمانه في بغداد والكاظيمة ونقل إلى كربلاء ومنها إلى النجف الأشرف في رحاب جده الأعظم ودفن في الصحن الحيدري الشريف في مقبرة أستاذه شيخ الشريعة الأصفهاني في يوم الجمعة،
وعطلت من أجله الدروس والأسواق وأقيمت عشرات الفواتح وألقيت فيها القصائد والكلمات ونشرت له حفلة تأبينية حضرها العلماء والعظماء والزعماء، وخلّف عدة ذكور أكثرهم من أهل العلم والفضل وأجلّهم السيد أغا حسن وكان إلى وقت قريب من علماء مشهد، والسيد أغا مهدي وكان من أئمة الجماعة في كربلاء.
وقد أرخ وفاته السيد محمد حسن الطالقاني بقوله:
هذي شريعة الهدى يوم النوى قد أصبحت وقد علا انتخابها
مضى (الحسين) للنعيم أرخوا (بجنة تفتحـت أبـوابهـا)(14)
1366هـ
أحد العلماء الكرام يصلى على جثمان السيد (قدس سره)
هذه صفحة من حياة العالم الرباني السيد حسين القمي الحائرين الذي كرّس حياته للدرس والتدريس والجهاد والوقوف بوجه الطغاة المستبدين، فكان أحد الرجال المجتهدين الذين استقلوا في الرأي إلى جانب علمه الجم.
لابدّ لنا من القول أخيرًا إن العلماء والحوزات العلمية لم تعطه حقه من الكريم والإتمام لشخصه الكريم، وإنه لم يحظ بالعناية المطلوبة من لدن الباحثين على الرغم من إسهاماته الكبيرة وخدماته الجليلة، فقد أضحت مساهماته على الرغم من غزارتها وتنوعها مجهولة تقريباً، إلا عند البعض من تلامذته وزملائه، وإذا كان التاريخ لم ينصفه، وقد تجاهل قدره، فكم تجاهل قدره غيره أعاظم الرجال ونوابغ الدهر!
—————————————————————