مازال التاريخ يبث في قنواته الإبداعية أثيراً خالداً لأمجاد رجال رحلوا عن هذه الدنيا وطوت المنية بيمينها أعمارهم وأجسادهم ولكن بقي فكرهم جذوة متقدة لا يخبو نورها ولا يضمحل أثرها هي والزمان كفرسي رهان، ويصطف بين هؤلاء المبدعين أنموذج جدير بالدراسة والبحث، حاز من كل علم جانباً، ونحى في كل مسلك طريقة فجمع من الفضائل ما أهّله ليكون رائداً من رواد الصلاح والإصلاح ومعلماً من معالم مدرسة النجف العريقة التي كانت ومازالت وستبقى بعون الله تعالى ينبوعاً متدفقاً يفيض بالعلم والعلماء.
هو الشيخ محمد حسين المظفر أو المظفري كما كان يحب أن يُلقّب بذلك، العلم المرفرف في سماء العلم، الذي لامس بسيرته وحياته وعلمه سيرة الصالحين وهو من قبل سليل العلماء فجمع بين نجابة الأسرة ووقادة الفكر وطيب المعشر وسلامة النفس وهذا دأب المصلحين.
فهو محمد حسين بن الشيخ محمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن مظفر بن الشيخ عطاء الله بن الشيخ أحمد بن قطر بن الشيخ خالد بن عقيل من آل مسروح(1).
تعد أسرة آل المظفر من الأسر العلمية التي أنجبت فطاحل العلماء ممن أثروا المكتبة الإسلامية بمؤلفاتهم ومنهم من تصدى لتحمل مسؤولية كبيرة في العمل الحوزوي فأصبح إماماً للجماعة ومرشداً وواعظاً وقد اتخذوا من البحث والدراسة مسلكاً لهم مع نجابة وزهد وحسن سيرة.
يقول علي الخاقاني: وآل المظفر من عرب آل علي المضريين القاطنين في أرض العوالي بالحجاز، وقد هاجر مظفر بن عطاء الله جد الأسرة الأعلى من مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله) قبل القرن العاشر الهجري وقصد النجف فقطن فيها واختلف على علمائها واستفاد منهم أما وجودهم بالبصرة والمدينة ( من توابع البصرة) فيتصل بالقرن الحادي عشر(2).
أما والد الشيخ محمد حسين فهو الشيخ محمد المظفر ، كان رحمه الله من علماء النجف ومراجع التقليد فيها، ولد سنة 1256هـ في النجف نشأ وترعرع فيه وأخذ من الدروس حظاً وافراً منقطعاً إلى الجد والتحصيل والتدريس إلى أن برع في الفقه وعرف بجودة التحقيق فيه، وألف موسوعة فقهية جليلة شرح فيها كتاب ـ (شرائع الإسلام) وسماها (توضيح الكلام) وقد استقصى فيها الفقه من مبتدئه حتى منتهاه ـ، كما أقام الشيخ محمد المظفر صلاة الجماعة في مسجد المسابك ويعد أول من أقام الصلاة من هذه الأسرة المكرمة(3).
ولد الشيخ محمد حسين في 5/شوال/1312هـ أي في السنة التي توفي بها السيد المجدد محمد حسن الشيرازي في دار طافحة بنوابغ وفطاحل ولا غرو أن يسير محمد حسين نحو ارتقاء سلم المجد ذلك السلم الذي ارتقاه من قبل آبائه وإخوانه الذين برعوا في التحصيل والاجتهاد فبلغوا ما بلغوا إليه من مرتبة عالية مع نفس يغمرها الزهد ويعلوها البشر ويغوص في أعماقها حب الخير، فكانوا بحق مفخرة ليس للأسرة المظفرية فحسب بل مفخرة للشيعة جمعاء ولنقل للمسلمين أجمع.
وما كاد شيخنا المظفري أن يضع رجله في السن العاشرة حتى رمى اليتم عليه ثوبه فأفجعه بفقد أبيه العلم الشيخ محمد المظفر وذلك عام 1322هـ، ليبدأ مرحلة جديدة يكن رائده فيها أخوه الأكبر الشيخ عبد النبي المظفر حيث قام بتربيته فكان يحنو عليه ويعامله معاملة الوالد لولده، ثم عكف على رسم معالم شخصيته العلمية فاختار له طريق آبائه وغذاه الفضل والأدب والأخلاق الفاضلة بأحسن الأساليب وأنجح الطرق.
كان الشيخ محمد حسين ثالث الستة الأفاضل حيث كان الأكبر الشيخ عبد النبي ثم الشيخ محمد حسن ثم محمد حسين ثم الشيخ محمد رضا ثم الشيخ محمد علي ثم الشيخ عبد الله.
يُعد الشيخ محمد حسن أشهرهم حيث واصل دربه العلمي ليبلغ درجة الاجتهاد فصار مرجعاً بارزاً وقلده جمع من المؤمنين، ألف كتباً عديدة أهمها دلائل الصدق بأجزائه الثلاثة وكتاب وجيزة المسائل وهو رسالته العملية وكتاب الحج من شرح القواعد وهو مجلد واحد طبع من بين سبعة مجلدات في العبادات لم تتح الفرصة لطبعها كاملة(4).
أما الشيخ محمد رضا المظفر فهو كما يقال (أمة في رجل واحد)، حيث تنوعت مشاريعه وتزاحمت أفكاره حتى طارت شهرته في الآفاق، فأصبح صاحب المنطق بلا منازع لكونه ألف كتاب المنطق الذي يعد من أفضل ما كتب في علم المنطق سهولة وسلاسة ومادة. وهو المحور في فكرة إقامة المنتدى(منتدى النشر) تلك المؤسسة الضخمة التي أسس لها صفوة من الرجال الذين تحملوا المسؤولية وكان الشيخ محمد حسين مسانداً ومؤسساً مع تلك الصفوة.
نشأ الشيخ محمد حسين نشأة علمية كما بينا وكانت النجف حينها تضج بالحركة العلمية فبين مدرسة ومسجد ومنتدى وملتقى وديوان (برّاني) كما يُقال، دروس ومحاضرات، جدليات وفرضيات،أخذ ورد، حجج وبراهين، تعليقات وتقريرات، نفي وإثبات، والشيخ محمد حسين ينتقل بين هذه وتلك ينظر ويسمع ويحلل بفكره الذي يحمله شاب منفتح الذهن اتكأ في مقدمات دروسه على السيد موسى الجصاني وفي قراءة سطوح الفقه على أخيه الشيخ محمد حسن المظفر، فولج العالم الذي رآه حيث حضر دروس البحث الخارج على أساطين الحوزة العلمية كالميرزا محمد حسين النائيني والشيخ ضياء الدين العراقي والسيد أبي الحسن الموسوي الأصفهاني مع ملازمة لأخيه المرجع الشيخ محمد حسن المظفر(5).
ولما بلغ درجة عالية في التحصيل العلمي والنبوغ الفكري في الفقه والأصول و الأدب وألمّ بمادة التاريخ الإسلامي مستوعباً الأحداث بصورة كاملة، ولج عالم الكتابة والتأليف فأخرج يراعه كتباً مهمة أضافت للمكتبة العربية نفائس أبكاراً لم تُناقش أو تُدرس من قبل.
مؤلفاته:
ترك لنا مجموعة من الكتب المهمة(6) منها ما هو مطبوع ومنها المخطوط الذي نأمل من ذريته أن يعملوا على إخراجها ووضعها بيد القرّاء والباحثين، فمن المطبوع في حياته:
1. تاريخ الشيعة (النجف 1361هـ) طبع عدة طبعات.
2. الإمام الصادق(عليه السلام)، بجزئين، (النجف 1365هـ) طبع عدة طبعات
3. ميثم التمار (النجف 1364هـ) طبع عدة طبعات.
4. الثقلان:الكتاب والعترة (1367هـ) تُرجم إلى الفارسية.
5. الشيعة والإمامة (1365) وطبعات لاحقة.
6. كتاب الألفين للعلامة الحلي تحقيق وتعليق (النجف 1372هـ) وكان قد قدم له عميد المنبر الحسيني الشيخ أحمد الوائلي.
7. الشعار الحسيني (بغداد 1347هـ).
8. الفرحة الإنسية في النفحة القدسية (النجف 1345هـ).
9. نماذج من شعره (النجف 1376هـ) مستل من كتاب شعراء الغري.
آثاره المطبوعة بعد وفاته هي:
1. مؤمن الطاق (أبو جعفر محمد بن النعمان) (النجف 1384هـ).
2. الإسلام نشوؤه وارتقاؤه (النجف 1384هـ).
3. علم الإمام(عليه السلام) (النجف 1385هــ)
آثاره غير المطبوعة هي:
1. الشيعة وسلسلة عصورها.
2. هشام بن الحكم.
3. دعاء الإمام الصادق(عليه السلام) أو الصحيفة الصادقية.
4. الآيات الثلاث (التطهير والولاية والمنزلة).
5. الأوصياء.
6. القرآن تعليمه وإرشاده.
7. موجز حياة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله).
8. موجز علم الكلام.
9. كتاب الصلوة من تذكرة المعلمين في شرح تبصرة المتعلمين.
10. دعوة النبي والمكائد.
11. العترة أوصياء الرسول(صلى الله عليه وآله).
12. بنو أمية.
13. ديوان شعره.
14. رسالة عملية وجدت له مؤخراً وقد كتب جزءاً منها في ما يخص كتاب الطهارة.
15. العراق أدواره وأطواره وهو عبارة عن مقالة سياسية كتبها الشيخ عندما وجد العراق بلده وهو أسير مراهنات الحاقدين والمحسوبين عليه، وهذا الكتاب قيد التحقيق.
أسفاره:
أما أسفاره فقد تنوعت وتعددت وكانت سورية مقصده الدائم الذي ألقى فيه رحاله غير مرة، فتارة قصد اللاذقية وحلب بعد أن راسله بعض أبناء عمه كما ادعوا ذلك وطلبوا منه الرواح إليهم فذهب هناك وبحث في سيرتهم فلم يجد ما يؤيد دعواهم، ولكن علاقته ظلت قائمة بهم فقد رأوا فيه المصلح المرشد فالتفوا حوله فانتهز الفرصة لبيان حقيقة التشيع فاهتدى على يديه نفر منهم حيث أعلنوا تشيعهم وتمسكهم بمبادئ أهل البيت(عليهم السلام) وتعاليمهم المشرقة الحقّة،
وإلى ذلك أشار السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي في رسالته التي بعثها إليه(7) قائلاً:
(أخي في الله تعالى. وليي فيه عز وجل. الداعي إلى الله بالحكمة والبرهان. والمجاهد المظفر في جهاده بحسن البيان وفق الله قادة الأمة المخلصين لله في قيادتها لاقتصاص أثرك والجري على منهاجك ووفقك لحملهم على جادتك والجري على أسلوبك في النصح لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم .
وأهلا بك اليوم من قادم به نقعت زفرات الغلل
ولله هذه الفترة ـ فترة اصطيافك في سورية ـ ما أجل فوائدها وعوائدها على المؤمنين فليهنك ما قدره الله لك من ذلك وحسبك قول رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولأمير المؤمنين(عليه السلام) (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم) أي تملكها فتبذلها في سبيل الله.
فكن لله أبوك فيما أنت من الدعوة إلى الحق على جمام من نفسك ونشاط من عزمك شرح الله صدرك للإرشاد وأرهف طبعك للنصح لله تعالى وللعباد وبودّي السعي إلى زيارتك وهذا من الواجبات لولا موانع الصحة فأسأل الله من فضله رفع المانع لأسارع والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
6 شعبان سنة 1371
المخلص
عبد الحسين شرف الدين الموسوي
وتارة أخرى قصد الشيخ الشام بعينها بعد وفاة السيد محسن الأمين العاملي ليحل محله في إرشاد الناس وتوجيههم، وفي هذا الشأن جرت مراسلات أيضاً بينه وبين السيد شرف الدين فقد جاءت رسالة السيد على هذا النحو: (سألتني أيدك الله عن الثلمة بفقد المقدس السيد المحسن الأمين وعمّن يسدها.
أما أنت فجذيلها المحكك وعذيقها المرجب بشرط أن تتفق عليك وجوه الطائفة في دمشق وقد يتوقف هذا على أن يكتب السيدان الإمامان البروجردي والحكيم كلاهما أو أحدهما إلى إخواننا في دمشق كتاب تعزية بالسيد المبرور وفيها ترشيحكم لمقامه بأسلوب يوجب ذلك، وبودي لو يكون لي القول الفصل في هذه المهمة على إن في إخواننا هناك شحًا يحول بينهم وبين سد هذه الثلمة.
إلا أن يقوم بلوازمها من يقيضه الله لذلك من عالم مقلد كسيد قم أو حكومة كالإيرانية ولهذا قد يكتفون بمن يؤمهم في الصلاة ويلقي عليهم دروس الرسالة العملية ويقرأ لهم التعزية كما كانوا في أواخر حياة السيد رحمه الله هذا خلاصة ما عندي في هذه المهمة وقد أوسعتها تأملاً وتدبراً ولعل الله يحدث بعد ذلك أمراً فتجدني عند حسن ظنك إن شاء الله تعالى)
فأجابه الشيخ المظفري في رسالته (سيدي المولى الأجل شرف الدين وصاحبه وحاميه وكالئه وراعيه دامت أيامه المباركة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مقبلاً يديكم سائلاً عن صحتكم الغالية داعياً لكم بدوام البقاء وما دعائي إلا للدين والأمة ..
قلت: إني أصبحت قريب الدار وداني الجوار من فنائكم وتلك أمنية أسعد بها وأفوز فيها باقتباس العلم وسامي الفضيلة ولكن لسوء الحظ لا أقدر اليوم على زيارتكم لأحظى بما أطلبه وأتمناه فأنا:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق(8)(ظهورها محمول)
حظوت ببرقيتكم الغراء وفهمت مقاصدها السامية ولوددت أني أكون بين يديكم لأشرح لكم الحال وأبدي من سرها المكنون وإني على علم بما كان في البيت وبالخلق الذي تربى عليه القوم ومن ثم لا أريد أن أفرض نفسي على الناس ولا أن أُفرض وما أشرتم به من أمر السيدين فإني ما أتيت إلا من قبلهما وبعد اخذ الرأي منهما وكل ما أريده منهما فهو بالإمكان وحلولي بين ظهراني القوم عبء أود لو ألقيه فإن أهل الرأي والعلم في النجف فرضوه علي وزعموا أنه واجب عيني علي وأنا أراه كفائياً أود لو أكفاه فجل رغبتي أن يكون حلولي عن هوى من الناس وهو بعيد هذا بعض السر مجملاً أبديه فأنا اليوم رابض أنظر الأمر من كثب حتى ينجلي الليل عن صبحه ولا أستغني عن رأيكم ونصحكم دائماً دمتم للفضل والإرشاد).
من خلال المخاطبات أعلاه نجد ما يلي:
1. كفاءة الشيخ المظفري دفعت المرجعية المتمثلة بالسيد الحكيم(قد) والسيد البروجردي(قد) لاختياره كي يكون محل السيد محسن الأمين(قد) وهو محل خطير حيث كان السيد الأمين مرشد بلاد الشام الأول والأب الروحي.
2. مباركة السيد شرف الدين للشيخ المظفري تدل على مكانة الشيخ الرفيعة عند السيد نفسه فقد شجعه وحثه على مواصلة دربه وتحقيق مطلب المرجعية.
3. توجس الشيخ المظفري من عدم تقبّل الشاميين شخصيته باعتباره ليس منهم مما دعاه لينظر في الأمر جيداً ويستشير ممن يثق بأفكارهم مما جعله يقفل راجعاً إلى النجف ليقضي فيها بقية عمره المبارك.
الشيخ المظفري ومنتدى النشر:
أما دوره في منتدى النشر فقد كان مسانداً حيث تعالت الأصوات بوأد هذه المؤسسة الفتية التي أرادت لمناهج الدرس الحوزوي مواكبة التطور الحاصل في الحياة العامة فانبرى الشيخ المظفري ليعلن في تاريخه الشعري هدف تأسيس المنتدى عام 1935 بقوله(9):
يـا بنفسـي عصـابة أخذتهـم غيـرة الـدين مـذ رأوه تفـرنج
فـأقـامـوا لــواءه لــبــنيــــه فهـو مـن طيب نشـرهم يتأرج
بـلـوا ديـنـنا الحــنيـفي أرخ (منتدى النشر جاء للحق منهج)
ولما عصفت بجمعية المنتدى هزات حددت من نشاطها لسنوات كان شيخنا المظفري في مقدمة مجموعة من رجال الدين طلبوا إجازة فتح الجمعية عام 1954 وبعد سلسلة من الرفض والقبول والمماطلة من قبل الدولة صدرت الموافقة على إجازة جمعية منتدى النشر(10).
وفاته:
وبعد عمر مليء بالعطاء وفد المظفري على ربه الكريم عام 1381هـ المصادف 1961 م(11) إثر مرض عضال كدر صفو حياته لبضع سنوات وبذلك الرحيل خبا نجم كان عمره وقفاً على الإسلام والمسلمين.
——————————————————————-