Take a fresh look at your lifestyle.

ثقافة السجن والسجين في.. أيديولوجية الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)

0 978

تقديم:

          لعبت حياة أئمتنا العظام دورًا رياديًا في تعدد الأدوار ووحدة الهدف، فقد اتجهت كل فترة من تلك الفترات أو كل مرحلة من تلك المراحل إلى خلق البيئة الحقيقية في كيفية تعايش الفرد مع المجتمع الذي يعيش فيه، بل توجهت لأن تعطي الأدوار بصورة جماعية في خلق صورة واحدة في كيفية تنشئة الفرد في المجتمع، وهذا هو المنظار الواضح لدور الأئمة(عليهم السلام) في المدة التي عاشوها في حياتهم لتكون سجلًا مفهرسًا يؤدي الدور من خلاله في كل مكان وزمان.

            وقد أدى كل إمام ما بعاتقه من رسالة في فترة حياته، لتصبح بعد ذلك دروسًا منهجية لتهيئة الفرد والجماعة وليدفع بها شوطًا بعيدًا في مضمار التكامل الاجتماعي ،فإذا التقى الهدف الأخلاقي بالهدف الديني واقترن ذلك بالإيمان الخالص والإنابة المطلقة وفي ضوء هذا الإغناء الفسيح تكون الثمار الإيجابية مزدوجة العطاء وتعود الأطروحة واضحة الأبعاد، فإذا أضفت لهذا وذاك: الثبات في المبدأ والصلابة في الحق والصبر على المحن، خرجت تلك بحصيلة أخلاقية وارفة الظلال، تتفيأ المناخ الإنساني في رحاب العقيدة الراسخة.

          ومن هنا جاءت الأجواء التي عاشها الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، وما لاقاه من مظاهر الإرهاب السياسي ومقارعة الطواغيت في اضطهاد لا تحده حدود، وتمييزًا طبقيًا لا يعرفه الإسلام، ومصادرة الحريات، وما العوامل التي أدت إلى سجن الإمام(عليه السلام) ما هي إلا دليل واضح على ما لاقاه الإمام(عليه السلام) نفي وتشريد وتهديد، لذا جاء هذا البحث ليوضح السمات الرئيسية التي أفرزتها المدة التي قضاها الإمام(عليه السلام) في سجن الطواغيت وما هي الدروس والعبر التي أضافها الإمام(عليه السلام) في مجتمع المظلومية والصبر..

 

  نظرة تاريخية:

          انتزعت فكرة إنشاء السجون من صميم الحياة الاجتماعية وملابساتها، ونشأت مع الأجيال ظاهرة خاضعة لطبيعة المجتمع وفلسفة الحياة، وتتميز العصور الأولى في التاريخ بأن السجون احتضنتها القوانين واصطلح عليها العرف العام، لذلك نلاحظ أن السومريين والبابليين والصينيين والمصريين وغيرهم أسسوا قوانينهم وقضاءهم وجعلوا لكل مادة من قوانينهم أثرًا ما، وضع بصورة أو بأخرى وعليه عقوبة معينة، فقد كانت تأخذ العهود والمواثيق من الأشخاص الذين يقع عليهم الذنب فضلًا عن وضع المذنب في دهاليز وأماكن بعيدة بعد أن تُعين لهم العقوبة اللازمة،

           أما في التاريخ العربي والجاهلي فقد استخدم العرب السجون وكانت لها أثرها في حياتهم العامة وأدبهم كما في سجون الغساسنة والمناذرة، كما أن المسلمين عملوا بالسجون في المرحلة الأولى من فترة الخلفاء إذ إنهم اتخذوا الدهاليز والمساجد كمرحلة مؤقتة لذلك،

          إلا أن فترة خلافة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) هي الفترة المؤسسة لظاهرة السجون وأول من أحدثه في الإسلام، ففي خلافته قام ببناء السجن الإصلاحي في الكوفة وسماه النافع، ثم بنى غيره وسماه المخيس، فكان النافع ثم المخيس أول سجنين إصلاحيين في الإسلام، وقد ثبت أحد الشعراء اللصوص هذا السجن بقوله:

     ولما إن رأيت ابني شميط                 بسكة طيء والباب دوني

     تجللت العصا وعلمت أني                 رهين مخيس إن أدركوني

     ولو أنـي لبثت لـهم قلـيلا                   لجـروني إلى شيخ بطين

     بعيد مجامع الكتفين باق                    على الحدثان مختلف الشؤون(1)

            واستمر العمل في هذه الظاهرة للخلافات اللاحقة وما رافقه من ظلم واضطهاد في كيفية استخدامه بصورة غير لائقة حتى أخرجه عن عنوانه الأولي الذي وضع لأجله، أما في العصر الحاضر فقد تميز العمل به بصورة واضحة وعلى الأخص في الغرب، وأولوا له عناية خاصة في كيفية تنشئة السجين في بيئة جديدة تختلف عما عاشها في الخارج(2).

 

  السجن في اللغة والاصطلاح:

             جاءت لفظة السجن في اللغة بمعانٍ عدة، منها: الحبس، والوقف، والمسك، والثبت، وما هو في معنى المنع في مقابل التخلية، وتحددت هذه اللفظة من سجن، والسجن بالكسر: المحبس، ومنه جاء المصدر من سجنه ـ يسجنه ـ سجنًا ـ أي حبسه، والسجان صاحب السجن، والسجين المسجون والمحبوس فيه، ومنه جاء محبوس وحبيس واحتبسه وحبسه: أمسكه من وجهه، والحبس ضد التخلية(3).

            أما في الاصطلاح فالسجن هو المكان الذي يوضع فيه المتهمون أوالمجرمون، والسجين: هو الشخص الذي يحبس في مكان (السجن) ويمنع الخروج منه إن كان ظالمًا أو مظلومًا(4).

 

  السجن في القرآن والسنة:

            وردت لفظة السجن والحبس بمعناهما في القرآن الكريم في مواضع عدة، فقد جاءت لفظة السجن في ثلاثة أماكن، الأولى في آية 25 من سورة يوسف:

             (وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)

والثانية في آية 32 من نفس السورة:

            (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ)

والثالثة في آية 35 من السورة ذاتها:

             (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ).

ووردت اسمًا لمكان الحبس في ستة مواضع :

    1- آية 33من سورة يوسف: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ).

    2- آية 36 من السورة نفسها: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

    3- آية 39 من السورة أيضًا: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).

    4- والآية 41: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ).

    5- والآية 42: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).

    6- والآية 100: (.. قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

            ووردت بمعنى المكان المعد للحبس في : الآية 7 من سورة المطففين: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) والآية 8: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ).

             ووردت بمعنى المفعول في سورة الشعراء آية 29: (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).

            ولفظة الحبس وردت بمعناها الفعلي في موضعين،

   الأول في آية 8 من سورة هود: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

   والثانية في الآية 106 من سورة المائدة: (… إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ).

            وقد جاءت هذه اللفظة بغير اللفظين الموضوعين له، وهما الحبس والسجن في ألفاظ اُخر في القرآن الكريم، وقد نص في هذه المعاني على حبس الإنسان خاصة ومنعه لا مطلق المنع الذي اُخذ منه الحبس، منها على سبيل الحصر:

  1- لفظة وقف، ومنه قوله تعالى في سورة سبأ آية 31 (.. وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ..).

  2- المسك، وقد جاءت بمعنى حبس الإنسان زمنه قوله تعالى في سورة النساء آية 15 (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ..).

            وغيرها من المعاني الأخرى والتي جاءت بألفاظ مختلفة(5).

         أما في السنة فقد جاءت لفظة السجن والحبس على لسان النبي(صلى الله عليه وآله) والإمام(عليه السلام) في موارد جمة ومواضع عدة بلغت مئات المواضع، متفرقة على كتب الصحاح والمسانيد، ومتنوعة حسب علومها واختصاصاتها، وقد استفاد منها المشرع الإسلامي فثبت حدود تشريعاته وآليات عمله القضائي في الشريعة الإسلامية، ولكثرة عددها لا يسمح المقام لذكرها هنا. وبإمكان القارئ الكريم مراجعة المصادر الآنفة الذكر للاطلاع عليها.

 

  حركة الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) ودخوله السجن:

           لاريب أن الحراك العلمي والاجتماعي والسياسي لائمة أهل البيت(عليهم السلام) كان له أثر واضح في عيون الطغاة من الخلفاء والملوك وغيرهم، لأن الوضع الذي كان يعيشه المجتمع آنذاك يحتاج إلى التوعية العامة بكل صنوفها وتحدياتها، مما حدى بأئمة أهل البيت(عليهم السلام) أن يتصدوا ويكونوا في مقدمة القوم لأنهم القدوة الصالحة للمجتمع.

           فكان للإمام الكاظم(عليه السلام) هذا الموقع المؤثر في نفوس مجتمعه آنذاك مما حدا بالرشيد أن يتصيد له كل صغيرة وكبيرة، فكانت حادثة زيارة هارون لقبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولقاء الإمام(عليه السلام) به والمساجلة التي حدثت بينه وبين الإمام(عليه السلام)، بحيث أغضب الرشيد حتى قال بعدها مخاطباً الرسول(صلى الله عليه وآله): (بأبي أنت وأمي إني أعتذر إليك من أمر عزمت عليه، إني آخذ موسى بن جعفر فأحبسه لأني قد خشيت أن يلقي بين أمتك حربًا يسفك بها دماءهم)(6).

            فضلًا عن ذلك فان المنزلة العظيمة وسمو الذات التي احتلها الإمام(عليه السلام) عند الجماهير، وما كان عليه من كيان رفيع لدى العلماء وقادة الفكر وحملة القرآن ورجال الحديث، وما امتاز به من الخلق العظيم وكريم الشمائل وما عرف به من صفات أخرى، كل ذلك توجه إليه النظر العقلي إلى قيادته الدينية، كل هذه العوامل جعلت الحراك الرشيدي وما تحمله بواطنه من حقد دفين أن يتحرك نحو الإمام(عليه السلام) وبدون تورعٍ لتنفيذ جريمته بكل أدواتها.

            وكان للوشاة دور سلبي ضد الإمام(عليه السلام)، فلقد تحرك يحيى بن خالد قبل ذلك ليهيئ مقدمات الاعتقال ، فأغرى ابن أخ الإمام محمد بن إسماعيل أو علي بن إسماعيل لغرض الوشاية بالإمام(عليه السلام)..

           بهذه الأسباب وغيرها تم اعتقال الإمام(عليه السلام) بسرعة وإخفاؤه وتعميته على الأمة لئلا تعرف محل سجنه. فحمل وقيد فشكى الإمام(عليه السلام) لجده الرسول(صلى الله عليه وآله) قائلًا:

          (إليك أشكو يا رسول الله)(7). فتألمت الأمة كثيرًا ولم يبق قلب إلّا وتصدع من الأسى والحزن فخافت السلطات أن يكون اعتقال الإمام(عليه السلام) محفزًا للثورة عليها فأصبح بذلك يحمل من سجن إلى سجن(8).

 

  أيديولوجية الإمام(عليه السلام) في ثقافة السجن والسجين:

           كان الهدف الاستراتيجي من عملية سجن الإمام(عليه السلام) هو تضييع خبره، وإيقاف زحفه الهادر، عسى أن يتناساه الناس، وتمحى صورته عن الذاكرة، ومن ثم يتم تنفيذ المخطط الإجرامي باغتياله دون أدنى ريب.

         إلا أن المخطط جاء معاكسًا لما كان مرصودًا له، إذ أفرزت فترة سجن الإمام(عليه السلام) جوانب إيجابية كثيرة أصبحت بعد ذلك مصدرًا من مصادر إصلاح السجن والسجين، وجاءت هذه الجوانب والإفرازات على النحو التالي:

    1- العبادة، فقد ضرب الإمام(عليه السلام) أروع الأمثلة للسجين في كيفية الاتصال مع الله سبحانه وتعالى، وهو مكان قد اتصفت به كل وسائل القرب إليه عز وجل، إذ كان يحيي الليل بالصلاة وقراءة القرآن ودعاء وتهجد واجتهاد، ويصوم النهار أكثر الأيام ولا يصرف وجهه عن المحراب(9).

            وهذه صورة مثلى يبعثها الإمام(عليه السلام) إلى مجتمعه من أجل إصلاحه ودفعه عن الموبقات، ومراجعة الإنسان لنفسه بعد أن يختلي ببارئه عزوجل.

    2- العلم، فقد كان الإمام(عليه السلام) يبعث إلى أصحابه الاستفتاءات ويحثهم على العلم، فضلًا عن اتصال بعض مريديه، فقد سلم علي بن سويد كتبًا كثيرة فأجاب عنها الإمام(عليه السلام)(10)، وكذلك اتصل به جمع من الأصحاب لينتهلوا من نمير علمه فمنهم موسى بن إبراهيم المروزي، وقد ألف كتابًا مما سمع من الإمام(عليه السلام)(11).

           وهذا دليل واضح على أن الإمام(عليه السلام) وجه رسالة إلى المجتمع في كيفية الاستفادة من السجن في الدراسة والعلم وعدم فتح المجال للطواغيت في السيطرة على أفكارنا وعقولنا، ولابد لنا أن نكسب الوقت في بث الفكر والعقيدة والتبليغ.

    3- قيادته للأمة: استمر عمل الإمام(عليه السلام) في قيادته للمجتمع من داخل السجن، فقد كانت تصل إليه الرسائل من كل حدب وصوب من الإمام(عليه السلام) وأصحابه في تبادل مستمر إلى السجن إما عن طريق السجان الموالي أو عن غيره، وهنا يرشدنا الإمام(عليه السلام) إلى حقيقة مهمة وهي كيفية التعامل مع السجانين وملاحظة العمل معهم لكسبهم إلى الصف لحصول النفع العام بذلك،

            وكذلك نصب الوكلاء وعين جماعة من تلامذته في بعض البلاد الإسلامية(12)، كما وكلهم في قبض الحقوق الشرعية وصرفها على الفقراء والمحتاجين،

          كما ونصّب الإمام(عليه السلام) من بعده ولده الإمام الرضا(عليه السلام)، فقد حدّث الحسين بن مختار: أنه لما كان الإمام(عليه السلام) في السجن خرجت لنا ألواح من عنده وقد كتب فيها: عهدي إلى أكبر ولدي(13).

          ومن هذا المنطلق يعلم الإمام(عليه السلام) قادة الشعوب المظلومة في أن السجن لم يكن محطة للخنوع والخضوع ويقف عند محطة ما بل يجب على القائد أن يعلن عمله الحقيقي من مظلوميته حتى يزيد إحساس شعبه ومجتمعه به وأن يعطي الدعم اللازم للشعب المحروم في مقارعة الظلم والطغيان.

    4- الرمزية في العمل القيادي، فقد استخدم الإمام(عليه السلام) لغة الاشارة مع بعضهم، وذلك حينما زار الفقيه ابن أبي ليلى مع جماعة من الفقهاء الإمام(عليه السلام) في السجن وفي الطريق استوقفهم البهلول ليسلم لهم وصية إلى الإمام(عليه السلام)، فقالوا له قل ماعندك، فأشار البهلول بأصابع يده الخمس، فذهبوا عنه ظناً منهم أنه مخبول، وعندما أنهوا عملهم مع الإمام(عليه السلام)، قالوا له إن هناك وصية من البهلول قد استوقفنا بالطريق وأوصانا بهذه الوصية وأشاروا للإمام(عليه السلام) بأصابع اليد الخمسة، فأجابهم الإمام(عليه السلام) بإصبعين، فتعجبوا من ذلك وخرجوا من الإمام(عليه السلام) مودعين له، وفي الأثناء التقوا مع البهلول حيث كان ينتظرهم في الخارج، فاشترطوا عليه شرطاً بأن يفسر لهم الأمر فقال لهم: حينما قلت للإمام(عليه السلام) بأصابعي الخمس قصدت بذلك أن لو هناك خمسة من الشيعة المخلصين لما بقيت في السجن، فأجابني الإمام(عليه السلام) لو أن هناك اثنان فقط لكفى(14).

             وهذه الرمزية هي صورة واضحة للعمل القيادي بالنسبة إلى القائد حتى يستطيع خلق صفة التفاهم مع أصحابه دون كشف الطغاة له.

    5- الصلابة والشموخ أمام الضغوطات والتحديات وقوة التاثير، ويرشدنا الإمام(عليه السلام) إلى أن السجين المظلوم يحمل في عنقه رسالة شريفة يجب عليه أن لا يخضع للضغوط والابتزازات وبالخصوص القضايا غير الأخلاقية التي يستخدمها الظلمة في السجون، فضلًا عن قوة الأسلوب والاستطاعة وكيفية التأثير في المقابل وإصلاحهم نحو الأحسن،

               إذ تعرض الإمام(عليه السلام) لهذا النوع من هذا التحدي، فقد أرسل إليه هارون جارية بارعة الجمال لتتولى خدمة
الإمام(عليه السلام) ظانًا أنه سيفتتن بها، فحينما وصل مبعوث هارون بالجارية قال له الإمام(عليه السلام): بل أنتم بهديتكم هذه تفرحون، لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها.

             فرجع الرسول إلى هارون وأبلغه بما حصل، فأمره هارون بإرجاعها إليه مرة أخرى وانصرف عنها، ثم بعدها أنفذ هارون خادمًا إلى السجن ليتفحص أمر الجارية، فراها ساجدة لربها وهي تقول: قدوس، قدوس، فمضى الخادم مسرعًا فأخبره بحالها، فقال هارون: سحرها والله موسى، عليَّ بها، فجيء بها وهي ترتعد قد شخصت بصرها نحو السماء وهي تذكر الله وتمجده، فقال لها هارون: ما شأنك؟ قالت: شأني شأن البديع، إني كنت عنده واقفة وهو قائم يصلي ليله ونهاره.. إلى أن قالت: هكذا رأيت العبد الصالح(15).

وفي الختام، كل هذه الجوانب وغيرها التي ثبتها الإمام(عليه السلام) أراد بها أن يكون السجن مركزًا لتربية السجين وإعادة تأهيله بل وتعليمه وتقدمه في مختلف المجالات، فالسجين يخرج إلى المجتمع بأخلاق وتربية صالحة فضلاً عن كيفية قيادته لمجتمعه وحياته الجديدة.

           لقد جعلوا السجن في بلادنا مركزًا لكبت الكفاءات وموتها وللتعذيب والإصابة بالأمراض الجسدية والنفسية، فلنجعلها كما أرادها إمامنا ومولانا موسى بن جعفر(عليه السلام) بالتهذيب والاصلاح.

              والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

—————————————————————–

الهوامش:
(1) تاريخ السجن الإصلاحي في الإسلام، توفيق الفكيكي، مجلة الاعتدال لسنة 1365هـ، 13-14.
(2) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، ج5/469 الخ، آثار الحرب في الفقه الإسلامي، د. وهبة الزجيلي، 385، أحكام السجون بين الشريعة والقانون، الشيخ احمد الوائلي، ص53، تاريخ السجن الإصلاحي في الإسلام، توفيق الفكيكي، ص13 في مجلة الاعتدال السنة 1365هـ، أدباء السجون، عبد العزيز الحلفي، ص2.
(3) لسان العرب، محمد بن منظور، ح6/44 وج13/203 مادة سجن، القاموس المحيط، الفيروز آبادي، ج2ـ مادة حبس.
(4) الرائد، لويس حداد، ج1/807، معجم لغة الفقهاء، محمد قلعجي، ص241.
(5) أحكام السجون، ص12ـ15.
(6) عيون أخبار الرضا، محمد بن بابويه، الشيخ الصدوق، ص73، الغيبة، محمد بن الحسن، الشيخ الطوسي، ص28.
(7) عيون أخبار الرضا، ج1/85.
(8) أعلام الهداية، المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام)، ج9/159ـ162، الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) ضحية الإرهاب، د. محمد حسين الصغير، ص223ـ228.
(9) الإرشاد، محمد بن محمد، الشيخ المفيد، ص338، الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) ضحية الإرهاب، د. محمد حسين الصغير، ص230ـ238.
(10) حياة الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، باقر شريف القرشي، ج2/492.
(11) المصدر نفسه، ج2/493.
(12) المصدر نفسه، الجزء والصفحة.
(13) عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، ج1/30.
(14) كنز الفوائد، محمد بن علي الكراجكي، ص185.
(15) مناقب آل أبي طالب، الحلبي، ج4/322.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.