Take a fresh look at your lifestyle.

رمزية نهر الفرات في القضية الحسينية

0 1٬347

                حازت أرض العراق طبيعة ضخمة ثروات ضخمة جعلتها محطاً لأنظار الشعوب ومنذ عهد ممعن بالقدم فقد وهبها الله جل وعلا من الخيرات ما لم تحتويها غيره من الأقطار، وبفضل تلك الخيرات فقد تكاملت عوامل صنع الحضارة على هذه الأرض المقدسة ومن هذه العوامل وفرة المياه التي تعد العمود الفقري لأي نشاط بشري.

وقد ارتبط بالعراق اسما نهريه الخالدين دجلة والفرات حيث أصبح اسم بلاد النهرين ووادي الرافدين مصطلحاً معروفاً يطلق على العراق، بل شاع ذكر الرافدين قديماً وحديثاً ليصبح اسمه Mesopotamia في اللغة الإنكليزية مرادفاً لاسم العراق.

ومن هذين النهرين، نهر الفرات الذي اكتسب صفة القداسة عند الأديان عامة والشيعة بشكل خاص
فقد ارتبط هذا النهر ارتباطاً وثيقاً بمدوناتهم خصوصاً تلك المتعلقة بقضية الحسين(عليه السلام) فحرمانه(عليه السلام) من شرب الفرات ولّد فيما بعد حسرة في قلوب المؤمنين.

تبوّء هذا النهر مكاناً مميزاً في عالم الأدب، فأصبح الأديب يشير إلى فضله تارة و يعاتبه طوراً لعدم شرب أهل البيت من مائه فقد كان يروي من يحل على شاطئه من الواردين والضيوف إلا ضيف حل عنده وسرعان ما رحل دون أن يذوقه في يوم قائظ.

الفرات في اللغة
هو كل ماء عذب ، ويقال ماء فرات، ومياه فرات، والتسمية وردت في القرآن الكريم: (وأسقيناكم ماء فراتاً)(1) ويرجع البعض التسمية إلى كلمة أرامية قديمة (فرت) وتعني الخصب والنمو.

عرف الفرات بالعربية باسم الفرات وفي اللغة الأكدية (Pu-rat-tu)، وفي اللغة الآرامية (ܦܪܬ Prāṯ , Froṯ)، وفي اللغة العبرية (פְּרָת Pĕrāṯ)، وفي اللغة الأرمينية (Եփրատ Yeṗrat)، وفي اللغة الكردية (فره آت)، وفي اللغة اليونانية (Ευφράτης Euphrátēs)، وفي اللغة السامرية (Buranun )(2) وكما نرى فالفرات قد عُرف عند أغلب الشعوب مما يدل على شهرته الواسعة.

الفرات في الأديان:
كما عُرف الفرات على مستوى الشعوب فقد عُرف على مستوى الأديان مما يدل على قداسته ومنزلته المعروفة، فقد جاء في كتاب كنزا ربا المقدس عند الصابئة المندائيين (… صغيراً أنا بين الملائكة الأثريين، طفلاً أنا بين النورانيين، ولكني أصبحت عظيماً لأني شربت من ثغر الفرات)(3).

أما في النصوص العبرية القديمة فنجد تقديساً لنهر الفرات، ومن أجل ذلك فقد استقرت على ضفافه تجمعات يهودية منذ العصور القديمة، وفي الديانة المسيحية نجد (الإنجيل) أو ما يسمى بالكتاب المقدس يقرن اسم نهر الفرات باسم (النهر الكبير)، وجعله نهراً من أنهار جنة عدن(4).

أما الإسلام فقد ميّز الفرات واصطفاه فجعله نهراً من أنهار الجنة، فقد ورد عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) قال: (إن الله تعالى أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند، وجيحون وهو نهر بلخ ، ودجلة والفرات وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر، أنزلها الله تعالى من عين واحدة وأجراها على الأرض وجعل فيها منافع للناس في أصناف معائشهم وذلك قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض ونحن على ذهاب به لقادرون))(5).

 

الفرات وأئمة أهل البيت(عليهم السلام)
حث أئمة الهدى(عليهم السلام) شيعتهم ومحبيهم على إتيان نهر الفرات وقد بينوا(عليهم السلام) فضله من جهتين، الأولى الاغتسال بمائه، والثانية الشرب منه، ولعل من جملة الأسباب التي جعلت الإمام علي(عليه السلام) أن يتخذ الكوفة عاصمة له بدلاً عن المدينة هو قربها من نهر الفرات، لذا وقف أمير المؤمنين(عليه السلام) عليه ذات مرة وقال: (يا أهل الكوفة نهركم هذا ينصب إليه ميزابان من الجنة)(6)، وعنه مرة أخرى قال: (الفرات سيد المياه في الدنيا والآخرة)(7).

أما الإمام علي السجاد(عليه السلام) فقد روي عنه بطريق حكيم بن جبير أنه قال: (إن ملكاً يهبط كل ليلة، معه ثلاث مثاقيل مسك من مسك الجنة فيطرحها في الفرات، وما من نهر في شرق ولا في غرب أعظم بركة منه)(8).

أما الإمامين الباقر والصادق(عليهما السلام) فقد حثّا أتباع أهل البيت على تناوله، بل
أمرا(عليهما السلام) الشيعة بتحنيك المولود بماء الفرات وتربة الحسين، أتراهما(عليهما السلام) أرادا أن يكون الموالي مرتبطاً بالفرات منذ ولادته، عالقاً بقطراته التي مست جسده منذ يوم الولادة ومع تقدم مراحل العمر ليكون بالتالي مرتبطاً بالحسين الذي مُنع منه ومضى شهيداً عطشاناً بالقرب من ضفافه.

والظاهر إن الإمام الصادق(عليه السلام) كان أكثر الأئمة إشادة بفضل الفرات، فقد ورد عنه(عليه السلام)
عدداً من الأحاديث الدالة على فضله، منها ما رواه عبد الله بن سليمان بقوله: (لما قدم أبو عبد الله الكوفة في زمن أبي العباس، فجاء على دابته في ثياب سفره، حتى وقف على جسر الكوفة، ثم قال لغلامه: اسقني، فأخذ كوز ملاح فغرف له به، فشرب والماء يسيل على شدقيه وعلى لحيته وثيابه، ثم استزاده فزاده، فحمد الله ثم قال: نهر ماء ما أعظم بركته، أما إنه يسقط فيه كل يوم سبع قطرات من الجنة، أما لو علم الناس ما فيه من البركة لضربوا الأخبية على حافتيه، أما لولا ما يدخله من الخاطئين ما أغتمس فيه ذو عاهة إلا برء)(9).

مجرى الفرات في كربلاء قديماً
الظاهر من الأخبار إن نهر الفرات عندما يمر في كربلاء ينشطر إلى شطرين وكلاهما يطلق عليهما الفرات باعتبارهما يتفرعان منه لذا فقد ورد عن يحيى بن زيد أنه لما قُتل أبوه زيد بن علي أراد أن يرتحل فقيل له: إلى أين قال أريد النهرين فقيل له إنها بلدة لا ترتفع فيها راية لعلي قال: بل أريد نهري كربلاء(10).

والنهران فرعان يُشتقان من عمود الفرات كانا يجريان قديماً في كربلاء(11)، ومما يعزز وجود نهرين في كربلاء حين الواقعة ما ذكره الخطيب البغدادي بقوله: (قُتل الحسين بنهري كربلاء يوم عاشوراء)(12) ومثله قال الذهبي: (وسار الحسين حتى نزل نهري كربلاء)(13)، والظاهر أن أحد النهرين كان مطوقاً تماماً بالعسكر وربما يكون اليوم نهر الحسينية الذي يمر بالقرب من مقام الإمام المهدي(عليه السلام)، والآخر هو الذي قصده أبو الفضل العباس واُستشهد على ضفافه أي نهر العلقمي الذي اختفت آثاره اليوم.

عطش أهل البيت في كربلاء
لعل التاريخ حدثنا عن سياسة استخدام الماء للضغط على العدو كما في واقعة صفين وذلك لما أمر معاوية جيشه بالحيلولة دون وصول جيش الإمام علي(عليه السلام) إلى الماء بقوله: (لأمنعهم وروده فأقتلهم بشفار الظمأ، فقال له عمرو بن العاص: خل بين القوم والماء، فليسوا ممن يرى الماء ويصبر عنه، فقال لا والله لا أخلي لهم عنه، فبين له عمرو أنهم لو أرادوا الوصول للماء لوصلوا، فأجابه معاوية :لا أسقيهم قطرة كما قُتل عثمان عطشانا)(14)،

ولكن التاريخ لم يحدثنا عن استخدام الماء كسلاح ضد العزّل من النساء والأطفال كما جرى في واقعة كربلاء، فقد منع الماء عن معسكر الحسين طيلة ثلاث أيام من أيام الصيف الملتهبة مع ما رافق ذلك من كثافة عسكرية تجمعت بأسلحتها وعتادها لمحاربة سليل النبوة والخط المحمدي الأصيل، وقد جاء في الرواية جعجع بالحسين حين تقرأ كتابي ولا تنزله إلا بالعراء على غير ماء وغير حصن(15)،

معنى ذلك إن خطة منع الماء عن الحسين(عليه السلام) لم تكن آنية أقتضتها ظروف الواقع في كربلاء، بل كانت خطة مدبرة أعدها رجل يعرف أرض المعركة وكيف يحسم الحرب لصالحه فقد دار في خلده إن الحسين سيستسلم بمجرد أن يشكو أمامه العطش طفل أو امرأة ولكن أبيّ الضيم بدد آماله وواجه خطته بروح جهادية عز نظيرها.

الفرات في الشعر
قبل أن نتحدث عن رمزية الفرات في الشعر الحسيني يجب أن ننوه أن الفرات ارتبط بذكر الحسين(عليه السلام) على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فعن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه قال: (إن ابني هذا ـ الحسين ـ يقتل بعدي على شاطئ الفرات فمن زاره واغتسل من الفرات تساقطت خطاياه كهيئة يوم ولدته أمه)(16)، وهذا الحديث يضيف للفرات صفة أخرى فالغسل بمائه والتوجه لزيارة الحسين يسقط خطايا الزائر، مما يدل على رجحان اكتمال الزيارة بالاغتسال بماء الفرات.

هام الشعراء بسيد الشهداء وتنوعت قصائدهم في رثائه وتبيان مصيبته التي لم تشبهها مصيبة ولكن قضية حرمانه من ورد الفرات قبل استشهاده(عليه السلام) وعطش عياله أخذت من الشعراء كل مأخذ بحيث ألهبت كلماتهم وأججت نار قوافيهم، ومنهم الشاعر المعروف عبد الباقي العمري الذي سار من بغداد إلى الكوفة وكان في بعض طريقه راكباً سفينة على الفرات في ليلة مقمرة مع جماعة من أقرانه فنظر إلى ماء الفرات يلمع والحيتان فيه تلمع فأنشأ البيتين الشهيرين:
بعداً لشطك يا فرات فمرّ لا
تحلو فإنّك لا هنيُّ ولا مري
أيسوغ لي منك الورود وقد
صدر الإمام سليل ساقي الكوثر
وقد سبق عبد الباقي العمري الكثير من الشعراء، ولعل في مقدمتهم دعبل بن علي الخزاعي حينما قال بحضرة الإمام الرضا(عليه السلام):
أفاطم لو خلت الحسين مجندلاً
وقد مات عطشاناً بشط فرات
يريد دعبل بذلك أن يذكي نار اللوعة فالشخص الذي يوشك أن يُقتل يُقدّم له الماء قبل قتله، وإن قُتل عطشاناً في صحراء قفرة، فقد يكون الأمر ممكناً لكنما يُقتل ظمأناً بجنب النهر فهذا الأفظع.
أما الآخر فيقول:
ظمآن من ماء الفرات معطشاً
ريّان من غصص الحتوف نقيعا
يرنو إلى ماء الفرات بطرفه
فيراه عنه محرّماً ممنوعا
ويقف آخر ليدعو على الفرات بالغور فيقول:
ويل الفرات أباد الله غامره
وردّ وارده بالرغم ضمآنا
لم يطف حرّ غليلِ السبط بارده
حتى قضى في سبيل الله عطشانا
فعزّ ان تتلظى بينهم عطشاً
والماء يصدر عنه الوحش ريّانا
إلى غير ذلك من القصائد التي تناولت هذا الموضوع، وختاماً نورد هذه الرواية عن داود الرقي حيث قال: (كنت عند أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) إذ استسقى الماء، فلما شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثم قال لي: يا داود لعن الله قاتل الحسين(عليه السلام)، فما من عبد شرب الماء فذكر الحسين(عليه السلام)، ولعن قاتله إلا كتب الله له مائة ألف حسنة، وحطّ عنه مائة ألف سيئة، ورفع له مائة ألف درجة، وكأنما أعتق مائة ألف نسمة، وحشره الله تعالى يوم القيامة ثلج الفؤاد)(17) .

نشرت في العدد 34


(1) سورة المرسلات، آية27.
(2) www.ugaidaat.com/alfurat_alkhaled.htm
(3) ، (4) المصدر السابق.
(5) الطبرسي، مجمع البيان، 4/102.
(6) المجلسي، بحار الأنوار، 57/41.
(7) ابن قولويه، كامل الزيارات، ص108.
(8) المصدر السابق.
(9) المجلسي، بحار الأنوار، 108.
(10) الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص104.
(11) الأمين، الموسوعة الشيعية، 7/295.
(12) تاريخ بغداد، 1/134.
(13) الذهبي، تاريخ، 5/10.
(14) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 10/258.
(15) ابن شهراشوب، المناقب، 3/246.
(16) المجلسي، بحار الأنوار، 98/198.
(17) ابن قولويه، كامل الزيارات، ص212.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.